استطاع البيزنطيون في عام "23هـ=644م" أن يستعيدوا بعض مدن بلاد الشام الساحلية، وأن يتمسكوا بها مدَّة عامين، منها بيروت وجبيل، وقد ساعدهم في ذلك كثرة عدد أفراد الجالية البيزنطية الموجودة في طرابلس، وهي المدينة التي بقيت تحت السيطرة البيزنطية حتى ذلك الوقت، وقد تحصَّن بها البيزنطيون الذين فرُّوا من المدن الساحلية الأخرى التي فتحها المسلمون.
الواقع أنَّه تضافرت ثلاثة عوامل دفعت المسلمين إلى فتح طرابلس؛ سياسية واقتصادية وعسكرية.
فمن الناحية السياسية؛ كان لا بُدَّ من إحكام السيطرة الإسلامية على مدن الساحل الشامي، ولا يتمُّ ذلك إلا بفتح طرابلس آخر المعاقل البيزنطية على هذا الساحل.
من الناحية الاقتصادية؛ تُشكِّل طرابلس منفذًا بحريًّا هامًّا لبلاد الشام، وثغرًا لدمشق وحمص.
ومن الناحية العسكرية؛ كانت طرابلس قاعدةً بيزنطيةً مهمة، راحت تُهدِّد مكتسبات المسلمين من واقع مهاجمة الثغور البحرية الإسلامية، والمعروف أنَّ البيزنطيين كانوا لا يزالون متفوقين بحرًا على المسلمين، ولهم أساطيلهم البحرية التي تجوب عباب البحر المتوسط، وبقي الساحل الشامي عرضةً لهجماتهم، كما أنَّ المدينة كانت محاطة بالمدن الإسلامية من ثلاث جهات؛ عرقة في الشمال، وجبيل في الجنوب، وبعلبك في الشرق.
أحداث حصار وفتح طرابلس الشام:
بعد أن حصل معاوية بن أبي سفيان على موافقة الخليفة عثمان بن عفان بغزو الجزر البحرية، أرسل سفيان بن مجيب الأزدي -والي بعلبك- إلى طرابلس على رأس جيشٍ كبيرٍ لفتحها في خطوةٍ ضروريةٍ لتحقيق الهدف الأساسي، وكانت المدينة تتكون من ثلاث مدن مجتمعة من اللسان الرومي الداخل في البحر، وبها ثلاثة حصون، وعسكر في مشارفها في مرج السلسلة عند سفح جبل تربل شمال شرق المدينة على بعد خمسة أميال منها، وراح يُهاجم البيزنطيين، إلا إنه فشل في تحقيق أيِّ تقدم؛ وذلك لسببين:
الأوَّل: إنَّ المدينة كانت منيعة بتحصيناتها، وإنَّه من الصعب محاصرتها وفتحها دون الاستناد إلى قاعدةٍ قريبةٍ ثابتة ينطلق منها.
الثاني: كان سكان طرابلس يتلقون إمدادات تموينية من بيزنطة عن طريق البحر، ممَّا يجعل أمر الحصار طويلًا وشاقًّا ودون حسم[1].
يبدو أنَّ سفيان بن مجيب الأزدي أدرك هذه الصعاب، فكتب إلى معاوية بن أبي سفيان يطلب منه الرأي والمشورة، فأجابه: "أن ابن لك ولعسكرك حصنًا يأوون إليه ليلًا، ويغزونهم نهارًا"[2].
نفَّذ سفيان بن مجيب الأزدي ما أشار عليه معاوية بن أبي سفيان فانتقل من المرج، وعبر النهر إلى ضفته الغربية، واختار مكانًا ملائمًا يبعد عن المدينة مسافة ميلين، وبنى فيه حصنًا عُرف باسمه، وراح يُشدِّد ضغطه على المدينة، ووضع حراسًا على الشواطئ المحيطة بها لمراقبة البيزنطيين لمنع الإمدادت عنها[3]، فاضطر سكانها إلى الانتقال إلى الحصن الغربي عند رأس الميناء وتحصنوا به، وراحوا يُفكرون جديًّا بالنجاة بأنفسهم وقد يئسوا من طول مدَّة الحصار التي امتدت أشهرًا، وبخاصَّةٍ أنَّ المؤن قد نفذت منهم، كما عجزوا عن الخروج للتصدي للقوات الإسلامية، ولم يُنقذهم من هذا الوضع الحرج سوى وصول بواخر بيزنطية نقلتهم ليلًا وخفية إلى الجزر القريبة الواقعة تحت السيطرة البيزنطية[4]، وهكذا أضحت المدينة خالية ممن يحميها أو يُدافع عنها فدخلها المسلمون وسيطروا عليها[5].
تعمير طرابلس الشام:
اهتمَّ معاوية بن أبي سفيان بتعمير طرابلس الشام بعد فرار سكانها، فأرسل إليها جماعةً من يهود الأردن[6] وأسكنهم في حصنها، ولم يسكن طرابلس الشام غيرهم لبضع سنوات[7].
يبدو أنَّ معاوية بن أبي سفيان أدرك أنَّ اليهوم قومٌ لا همَّ لهم إلا تأمين مصالحهم الخاصَّة، وأنَّ كثيرًا منهم خانوا البيزنطيين وعملوا عيونًا للمسلمين مقابل إعفائهم من الجزية ومنحهم الأراضي [8]، كما أنَّهم اشتهروا بالأعمال التجارية التي كان معاوية بن أبي سفيان يعمل على تنشيطها مع بلدان البحر المتوسط، لذلك أسكن اليهود في مدينة طرابلس، ثُمَّ استقدم الفرس من الداخل وأنزلهم فيها أيضًا.
كان عثمان بن عفان قد أمر معاوية بن أبي سفيان "بتحصين السواحل وشحنها، وإقطاع من يُنزله إيَّاها قطائع ففعل"[9]. والمعروف أنَّ المسلمين كانوا يخشون الإقامة في الثغور الساحلية المعرضة دائمًا لغارات البيزنطيين، لذلك واجه معاوية بن أبي سفيان صعابًا في إغراء المسلمين على الرغم من أنَّه وزَّع الأراضي عليهم، واضطر أخيرًا إلى إسكانها بخليطٍ غير مسلم، كما أذن لبعض البيزنطيين بالإقامة فيها بعد أن استأمنهم[10]. وكان يشحنها في كلِّ عامٍ بفرقٍ من الجند المسلمين ليُدافعوا عنها ضدَّ غارات البيزنطيين، وولَّى عليها عاملًا من قبله.
كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
_________
[1] تدمري: تاريخ طرابلس ص90.
[2] ابن عساكر: 16/76.
[3] البلاذري: ص133.
[4] المصدر نفسه.
[5]المصدر نفسه.
[6] المصدر نفسه: ابن عساكر: 16/77.
[7] المصدران أنفسهما.
[8] سالم، سيد عبد العزيز: طرابلس الشام في التاريخ الإسلامي ص36.
[9] البلاذري: ص134.
[10] تدمري: تاريخ طرابلس ص96.