كانت قبرص ولايةً بيزنطيةً عاصمتها قنسطنطيا "سلاميس القديمة"، ويدين سكان قبرص بالعقيدة النصرانية الأرثوذكسية منذ عام 431م، وقد صهرت الكنيسة شعب جزيرة قبرص وجعلت منه وحدةً اجتماعيةً ودينيةً وثقافية، كما أنَّ الروابط القديمة القوية بين رجال الدين والسكان خلقت نوعًا من الشعور بالتضامن الاجتماعي في ظلِّ سمةٍ قائمةٍ على مدار العصور المتتالية التي خضعت فيها الجزيرة للسيادة الأجنبية[1].
عندما فتح المسلمون الثغور البحرية أضحت الثغور البحرية عرضةً لهجمات البيزنطيين المنطلقين من الجزر القريبة، ونظرًا لأن الصراع العسكري بين المسلمين والبيزنطيين كان بأحد وجهيه بحريًّا، أدرك معاوية بن أبي سفيان أهمية بناء أسطول إسلامي بهدف:
- الدفاع عن السواحل.
- غزو الجزر البحرية المواجهة لساحل بلاد الشام.
- الدفاع عن المناطق الداخلية المفتوحة.
- استمرار العلاقات التجارية الخارجية مع دول البحر المتوسط، وبخاصَّةٍ أنَّ هذا البحر كان لا يزال تحت قبضة البيزنطيين[2].
تنفيذًا لهذا المخطط كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطلب منه السماح بركوب البحر وغزو الجزر القريبة من ساحل بلاد الشام، لكنَّ الخليفة لم يأذن له؛ إذ "كان يكره أن يُحمل المسلمين غزاةً فيه"، وكتب إليه بترميم حصون الثغور البحرية، وترتيب المقاتلة فيها، وإقامة الحرس على مناظرها، واتخاذ المواقيد لها لحمايتها من غارات البيزنطيين[3].
حدث في أواخر أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأوائل عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه أن استعاد البيزنطيون بعض المدن الساحلية، كما استردُّوا مدينة الإسكندرية، فأدرك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنَّه لا بُدَّ من إنشاء أسطولٍ إسلاميٍّ للتصدي للخطر البيزنطي، وفتح الجزر البحرية التي ينطلق منها العدو، واتخاذها قواعد انطلاق لغزو القسطنطينية وهو الهدف الأسمى للمسلمين، ونجح معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في إقناع عثمان بن عفان بركوب البحر، وسمح له بغزو قبرص على أن يحمل معه امرأته فاختة بنت قرظة وولده، حتى يعلم أنَّ البحر هيِّنٌ كما صوَّره له، وأمره بعدم إجبار الناس على الركوب معه إلا من اختار الغزو طائعًا[4].
فور الحصول على موافقة الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، قرَّر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه إصلاح المراكب التي استولى عليها المسلمون من البيزنطيين، وتقريبها إلى ساحل حصن عكَّا الذي أمر بترميمه، كما رمَّم ثغر صور[5]، وكتب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه إلى أهل السواحل بالاستعداد لغزو قبرص التي اختارها هدفًا عسكريًّا لنشاط الأسطول الإسلامي؛ بفضل وضعها الجغرافي المتميز آنذاك كقاعدةٍ لغزو القسطنطينية.
خرج معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على رأس حملته الأولى على جزيرة قبرص في عام "28هـ=649م"[6]، وتألَّف الأسطول الإسلامي من مائةٍ وعشرين مركبًا بقيادة عبد الله بن قيس رضي الله عنه[7]، وخرج معه جمعٌ من الصحابة منهم أبو ذر الغفاري، وعبادة بن الصامت، وزوجته أم حرام، والمقداد بن الأسود وغيرهم رضي الله عنهم[8].
صادف الأسطول الإسلامي -وهو في طريقه إلى قبرص- بعض المراكب البيزنطية المحمَّلة بالهدايا، وقد بعث بها ملك قبرص إلى الإمبراطور قنسطانز الثاني، فاستولى المسلمون عليها، وعندما وصل الأسطول الإسلامي إلى قبرص رسا على ساحلها، وأغار الجنود المسلمون على نواحيها، وغنموا الكثير من أهلها، واضطر ملك قبرص في ظلِّ عجزه عن المقاومة إلى طلب الصلح، فصالحه معاوية بن أبي سفيان على أن:
- يُؤدِّي أهل الجزيرة جزيةً سنويةً مقدارها سبعة آلاف دينار، كما يُؤدُّون للبيزنطيين مثلها، وليس للمسلمين أن يحولوا بينهم وبين ذلك.
- يمتنع المسلمون عن غزو الجزيرة، ولا يُقاتلون عن أهلها من أرادهم من ورائهم.
- يُعلم أهلُ الجزيرة المسلمين بتحركات البيزنطيين المعادية لهم.
- يُعيِّن المسلمون على أهل الجزيرة بطريقًا منهم[9].
الواقع أنَّ هذه الشروط التي فرضها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على ملك قبرص متواضعة، ويبدو أنَّه رأى أنَّ الظروف الضرورية للاستقرار في الجزيرة لم تتوفر بعد، وأنَّ الحملة لم تكن أكثر من حملةٍ استكشافية واختبار قوَّة البحرية الإسلامية، لكنَّ الدواعي العسكرية دفعته إلى تغيير تفكيره، وذلك في عام "32هـ=653م"، حين ساعد أهلُ الجزيرة البيزنطيين في حربهم ضدَّ المسلمين، وأعطوهم بعض المراكب من أجل ذلك، فنقضوا الصلح المبرم بينهم وبين المسلمين، ممَّا حمل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على غزو الجزيرة للمرَّة الثانية في عام "33هـ=654م" ففتحها عنوة، وأخذ السبي منها وأقرَّ أهلها على صلحهم، وعمد إلى تمصيرها واستقرار المسلمين فيها، فبعث إليها اثني عشر ألفًا من أهل الديوان المكتتبين فبنوا بها المساجد، كما نقل إليها جماعة من أهل بعلبك، وبنى بها مدينة، وأقاموا يُعطون الأعطيات إلى أن تُوفي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه[10].
كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
__________
[1] دائرة المعارف الإسلامية: 26/8068، مركز الشارقة للإبداع الفكري 1998.
[2] أرشيبالد، لويس: القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط: ص89.
[3] البلاذري: ص134.
[4] المصدر نفسه: ص157، 158، والطبري: 4/260.
[5] البلاذري: ص157، 158.
[6] الطبري: 4/258.
[7] المصدر نفسه: ص260.
[8] المصدر نفسه: ص258.
[9] المصدر نفسه: ص262، والبلاذري: ص158، 159، واليعقوبي: 2/166.
[10] البلاذري: ص158.