لقد وجد المسلمون أنفسهم بعد طعن عمر بن الخطاب أمام مهمة اختيار خليفةٍ يُدير شئونهم، فقد رفض عمر أن يُعيِّن خليفةً له، مع أنَّ توليه الخلافة كان نتيجة عهد أبي بكر الصديق له، وتخلَّى بكل تبصر عن تعيين أحدٍ من أفراد عائلته خشية تحويل الحكم إلى وراثة، كما أنَّه امتنع عن تعيين عثمان بن عفان الذي كان مساعده تقريبًا، وحجته في ذلك أنَّه لا يُريد أن يتحمَّل تبعات الخلافة حيًّا وميتًا[1].



عودة نظام الشورى

يبدو أنَّه لم يكن هناك مرشحٌ واضح، كما أنَّ عمر بن الخطاب أراد العودة إلى نظام الشورى، وتُشير بعض روايات المصادر أنَّه كان يعمد إلى بلورة وجهة نظرٍ جديدةٍ تجاه مسألة الحكم تنطلق من إحياء الشورى التي تأسَّست عليها بيعة السقيفة، تاركًا لنخبة المسلمين قرار اختيار الخليفة المناسب، التي طرح شكلها النهائي بعد أن طعنه أبو لؤلؤة[2].

الواضح أنَّ ظروف المسلمين آنذاك فرضت أن تكون مبايعة خليفةٍ مسألة اختيارٍ بين شخصياتٍ قرشيَّة، بالإضافة إلى السابقة والقدم في الإسلام، وكانت الآراء السائدة في المجتمع القرشي بعامة، وبين كبار الصحابة وأهل الفضل والسابقة بخاصة، وبين صفوف المهاجرين الذين كانت لهم في نهاية المطاف الكلمة النهائية، هي العامل الحاسم في الاختيار[3].



مجلس الشورى

هكذا اختار عمر بن الخطاب قبل وفاته مجلسًا للشورى مؤلفًا من: عثمان بن عفان من بني أمية، علي بن أبي طالب من بني عبد المطلب، الزبير بن العوام من بني عبد العزة، وينتسب إلى عبد المطلب من جهة النساء؛ إذ إنَّ والدته عمَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة عشيرة والدة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصهر عثمان، سعد بن أبي وقاص من بني زهرة أيضًا، وطلحة بن عبيد الله من بني تيم عشيرة أبي بكر[4].

إنَّ قراءةً متأنيةً في اختيار هؤلاء الصحابة تُطلعنا على الحقائق التالية:

- جميعهم من المهاجرين؛ أي قرشيين من أوائل الصحابة، وتُوفِّي النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم، وهم من بين العشرة المبشرين بالجنة.

- يُمثِّلون مراكز القوى في المدينة من حيث النفوذ والقدرة والشهرة بدليل وصف عمر لهم بأنهم: "رؤساء الناس وقادتهم". وقوله: "لا يكون هذا الأمر إلا فيكم". "إني لا أخاف عليكم إن استقمتم، لكني أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم، فيختلف الناس"[5].

- المفاضلة بينهم تبعًا لدورهم في الإسلام أمرٌ شاقٌّ وعسير؛ لأنَّهم كانوا جميعًا من أمضى سيوفه، وأرسخ أعمدته طوال تاريخه[6].



- كانت قضية اختيار خليفة منذ بدايتها قرشية محضة، لقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم من قريش، وما كان يُمكن استخلافه إلا من قريشٍ أيضًا، لقد اختصرت قريش قضية الحكم وحصرتها برجالها، وهذه القضية هي استمرار العمل بمقولة: "الأئمة من قريش" التي طُرحت يوم مبايعة أبي بكر على الرغم من تغير الظروف العامَّة، لكن يبدو أنَّها أضحت عرفًا لم يطعن به أحد من ذلك العصر؛ لأنَّه ينسجم مع روحه انسجامًا تامًّا، لذلك استُبعد الأنصار على الرغم من مآثرهم واستحقاقهم.

نظَّم عمر بن الخطاب طريقة عمل المجلس قبل وفاته، فحدَّد مدَّة الاختيار بثلاثة أيام، فإذا انقسم مجلس الشورى إلى ثلاث مجموعات من شخصين، فلا بُدَّ من استئناف التشاور، وإذا كان هناك أكثرية، فلا بُدَّ لهم من اتِّباعها، أمَّا إذا انقسم المجتمعون إلى مجموعتين متساويتين من ثلاثة أشخاص، تكون الأولوية للمجموعة التي يكون فيها عبد الرحمن بن عوف، وهذا يعني إعطاء هذا الصحابي دورًا مفصليًّا وبارزًا، إلا أنَّ التطورات التي رافقت انعقاد مجلس الشورى في بدايته -على الأقل- لا تُعطيه هذا الدور؛ إذ بدأ كأحد أعضاء المجلس الآخرين، ولم يبرز إلا عندما انسحب من ميدان التنافس كما سنرى، الأمر الذي يُرجِّح أنَّ الروايات الخاصة بذلك شيعيَّة الهوى تُحمِّله مسئولية تقديم عثمان[7]، وأمر بقتل كلِّ من يتخلف عن مبايعة من يتم اختياره للخلافة خشية الفتنة، وحثَّ المؤتمرين على سرعة إنجاز اختيارهم، وأمر -أيضًا- أن يتولَّى صهيب الرومي إمامة الصلاة طيلة ثلاثة أيام، وشكَّل فصيلة من الأنصار للمحافظة على الأمن وحماية أعضاء المجلس[8].

توقَّع عمر بن الخطاب أن يتجه الاختيار في مجلس الشورى لصالح عثمان بن عفان أو علي بن أبي طالب، وكلاهما من سلالة عبد مناف وختن النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنَّه وجَّه المسلمين في المدينة نحوهما بصورةٍ غير مباشرة؛ إذ بدا للوهلة الأولى أنَّ التنافس سيجري بينهما، وأنَّ باقي أعضاء مجلس الشورى ناخبين فحسب.

فقد انتقد عثمان بن عفان لحبِّه أهله وقومه، وخشي إن هو تولَّى الخلافة أن يحمل بني أبي معيط على رقاب الناس "ولو فعلها لقتلوه". وهو تأكيد هدف إلى إيجاد غطاءٍ شرعيٍّ لعملية قتل عثمان التي تمَّت فيما بعد، ووصف عليًّا بالرجل الذي فيه دعابة وبطانة وفكاهة، وخشي إن هو تولَّى الخلافة أن يحمل بني عبد المطلب على رقاب الناس، إلَّا أنَّه أكَّد في الوقت نفسه على ثقته بمقدرته، ونزاهته في الحكم "إن ولُّوها الأجلح سلك بهم الطريق"[9].

يبدو أنَّه من الصعب الأخذ بهذه الروايات؛ لأنَّ عمر بن الخطاب نفسه هو الذي اختار أعضاء مجلس الشورى لكونهم من أبرز الشخصيات العامة، الأمر الذي يُثير التساؤل بشأن ما نُسب إليه من انتقادات وجهها إليهم، والواقع أنَّها مهمة تُؤكِّد التزام عمر بما تمَّ إنجازه في حصر الخلافة في قريش بين المهاجرين الأولين.



مشاورات اختيار الخليفة

عقد مجلس الشورى اجتماعه الأوَّل بناءً على رغبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل وفاته، إلَّا إنَّ أعضاءه اختلفوا فيما بينهم؛ لأنَّهم كلهم كانوا يطمحون للسلطة، ولم يتوصَّلوا إلى نتيجة[10]، وعُقد الاجتماع الثاني بعد وفاة عمر رضي الله عنه، وقد أشارت روايات المصادر إلى عدم اتفاق أعضاء مجلس الشورى على رجلٍ منهم، ووقعوا في مأزقٍ حقيقي لم يخرجوا منه إلا بمبادرة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الذي أخرج نفسه من إطار المنافسة ومجال الاختيار، إلا إنَّه اشترط أن يتركوا له حرية الاختيار، وأخذ عليهم يمين المبايعة لمن يختار، وأعطاهم عهدًا: "أن لا يميل إلى هوى، وأن يُؤثر الحقَّ، وأن يجتهد للأمة، وأن لا يُحابي ذا قرابة"[11]. ولهذا السبب فقدت الشورى طابعها كمجمع، وفقد المجلس طابعه كجهاز انتخابٍ مباشر، إذا فوض لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن يختار عنه وباسمه، وتحوَّل الانتخاب إلى تعيين من قِبَل شخصٍ واحدٍ من أعضاء مجلس الشورى وأضحى محصورًا. وفي المقابل غدا واسعًا بما سيقدم عليه عبد الرحمن رضي الله عنه من مشاورات؛ فقد لجأ هذا الصحابي إلى مشاورة المسلمين، واستطلع رأي أهل المدينة، وقادة الجند الذين توافدوا على المدينة، وأشراف الناس؛ لكي يعرف من تودُّ الأمة أن تجتمع عليه بعد عمر بن الخطاب.

وبما أنَّ القضية قرشيَّة منذ بدايتها، فقد كان واضحًا أنَّ مشاورة الناس تعني في نهاية المطاف مشاورة قريش، ولا يُمكننا أن نتجاهل في هذا المقام الحقيقة التي تحدثت عنها روايات المصادر، التي لا يُمكن استيعاب مآل مجلس الشورى واختيار عثمان بن عفان رضي الله عنه إلا على ضوئها، ألا وهي أنَّ قريشًا ملَّت شدَّة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وطالبت باستبدال هذه الشدَّة باللين، وبفكِّ الحصار والقيود عنها[12].

كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يرى أنَّه الأجدر بتولِّي منصب الخلافة نظرًا لقرابته من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والتصاقه به، ولكنَّه كان يشعر أنَّه محكوم بمجرى الأحداث لا سيَّما بالدور الموكل إلى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه زوج شقيقة عثمان بن عفان رضي الله عنه من أمه، الذي كان له تأثيرٌ على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه المنتمي إلى العشيرة نفسها، ويُذكر أنَّ العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عمَّ النبيِّ وعمَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان متخوِّفًا من أن تخرج الخلافة مرةً أخرى من يد عشيرته، فنصح عليًّا بعدم الاشتراك في الشورى، لكن عليًّا الذي كان يكره الخلاف[13] آثر القيام بمسعى لدى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ويبدو أنَّه نجح في ذلك[14]، فهل كان هذا الأمر هو الذي بدل طابع الشورى أم يدل على خوف عبد الرحمن بن عوف من أن يرى استمرار الفراغ دون التوصل إلى نتيجة طالما كانت المطامع كبيرة؟ [15].

استشار عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد، وأشراف الناس كما ذكرنا، ثُمَّ دار متنكرًا لا يعرفه أحد، واستشار عامَّة المهاجرين والأنصار وغيرهم من ضعاف الناس[16]، فأشار عليه الجميع بعثمان بن عفان رضي الله عنه، فاقتنع عندئذٍ بأنَّ وجوه قريش وعامَّتها وقادة الجند يُريدون عثمان بن عفان خليفةً عليهم.

الواقع أنَّ بني أمية أدُّوا دورًا نشطًا في توجيه "الرأي العام" نحو عثمان بن عفان رضي الله عنه، ونظموا دعايةً واسعةً له بهدف تعزيز نفوذهم الذي فقدوه بعد فتح مكَّة، ونجحوا في استعادته جزئيًّا في عهد أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فقد تنافسوا مع بني هاشم في تعاقب خطبائهم على منبر مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم[17].

كان هناك إِذَن تياران متنافسان مرتبطان بالسابقة في الإسلام، وبروابط الدم:

الأول: عشيرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم الأقربون الذين كان على مرشحهم.

الثاني: قرشي متصل بالقابلية على التمثيل الأفضل لقريش -وبالتالي مقرَّب من الأمويين- وكان عثمان بن عفان مرشحهم.

إنَّ مفهوم البيت الذي جرى طرحه لتمييز عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب كان يُفسَّر بالمعنى الواسع -معنى بيت عبد مناف- وليس بالمعنى الضيق بيت بني هاشم، وكان هذا يُناسب أغلبية الصحابة الذين خشوا من تفسيرٍ ضيقٍ لمفهوم البيت أن تُؤسَّس ملكيةٌ وراثيةٌ على حسابهم لصالح البيت الهاشمي [18].



اختيار عثمان بن عفان خليفة

تروي المصادر أنه في اليوم الثالث -وفي ظل بوادر انقسام بين المسلمين خيف أن يتفاقم- قرَّر عبد الرحمن بن عوف حسم الأمر، وفي المسجد النبوي وأمام جمع من المهاجرين والأنصار وقادة الجند وممثلي الأمصار، نادى عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وسألهما على التوالي إن كانا بعد انتخابهما سيتبعان سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وتجنَّب حمل أقاربهما على رقاب الناس، فأجاب عليٌّ بتحفظ متعلِّلًا بأنَّه سوف يبذل جهده وطاقته مستيعنًا بالأمناء والأقوياء من بني هاشم وغيره، وأضاف أنَّ عليه الاجتهاد قدر الإمكان: "لا أحمل عهد الله وميثاقه على ما لا أدركه ولا يدركه أحد، من ذا يطيق سيرة رسول الله، ولكني أسير من سيرته بما يبلغه الاجتهاد منِّي، وبما يُمكنني وبقدر علمي"[19]. أمَّا عثمان بن عفان فقد أعلن موافقته على شرط عبد الرحمن بن عوف قائلًا: "اللهم نعم"، "على عهد الله وميثاقه، وأشدَّ ما أخذ على أنبيائه، ألَّا أخالف سيرة رسول الله وأبي بكر وعمر في شيء، ولا أقصر عنها"[20]. مما دفع عبد الرحمن بن عوف وأصحاب الشورى وعامَّة الناس إلى مبايعته[21].

قد تدعو روايات المصادر هذه للتساؤل: فهي تعطي عبد الرحمن بن عوف ذريعة صالحة لإعلان عثمان بن عفان بدلًا من علي بن أبي طالب خليفةً على المسلمين، وتبرز اختيارًا يبدو أنَّه قد تمَّ قبل ذلك، وتُقدِّم عليًّا كأنه مجدِّدٌ له نهجه الخاص وفهمه لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ممَّا قد يختلف عن نهج الخليفتين السابقين، وهو أمر ربما نُسب إلى علي بن أبي طالب في وقتٍ لاحق، كما أنَّ شرط عبد الرحمن بن عوف للترجيح بين المتنافسين قد يكون تصريحًا طُلب من عثمان بن عفان وحده بعد اختيار الأغلبية له[22]، ويبرزه وكأنَّه أكثر الأعضاء توافقًا مع التحولات المنشودة؛ فهو إلى جانب كونه واحدًا من النخبة في الإسلام، كان ينفرد عن الآخرين بانتمائه إلى البيت الذي كانت له الزعامة الفعلية إبَّان ظهور الإسلام، ذلك البيت الذي بات يُمثِّل -بعد اختيار عمر بن الخطاب- أحد أقوى مراكز النفوذ في الدولة الإسلامية[23].

الواقع أنَّ ما جرى من مشاورات مكثفة داخل مجلس الشورى وخارجه، وما أحاط بهيئة المجلس من اتصالاتٍ خارجية، كانت بعيدة عن الشورى في الشكل والمضمون.



ردود الفعل على اختيار عثمان بن عفان

أثار اختيارُ عثمان بن عفان خليفة ردودَ فعلٍ متباينة بين أعضاء مجلس الشورى وخارجه، يُمكن ربطها بالأدوار التي قام بها أصحابها في مجمل تطورات الفتنة بعد ذلك، وتوضحت الصورة السياسية للمجتمع الإسلامي الذي انقسم إلى أربع فئات على النحو التالي:

1- الفئة الموالية لآل البيت بعامة ولعليِّ بن أبي طالب بخاصة، وقد عارض أفرادها قرار مجلس الشورى، فقد أظهر علي بن أبي طالب منذ البداية عدم اطمئنانه إلى تركيبة هذا المجلس الذي كانت آراء معظم أعضائه تميل لغير صالحه، وشكا ذلك إلى بني هشام: "إن أطيع فيكم قومكم لم تؤمروا أبدًا"[24]. وأضاف: إنَّ عبد الرحمن بن عوف وسعدًا بن أبي وقاص لا يُخالف أحدهما الآخر، وعبد الرحمن بن عوف صهر عثمان بن عفان، فأحدهما لا يخالف صاحبه، فيوليها عبدُ الرحمن عثمانَ، أو يوليها عثمانُ عبدَ الرحمن. وخشي إن ولي عثمان "ليتداولنها، ولئن فعلوا ليجدني حيث يكرهون". بالإضافة إلى ذلك، فإنَّه شَكَّ في مواقف طلحة والزبير، وبفعل عدم ثقته بعبد الرحمن بن عوف رفض إعطاءه مهمة الاختيار إلا بعد أن حلف له بألا يتَّبع الهوى، وألا يُؤثر إلا الحق، ولا يخص ذا رحم، ولا يأل الأمة[25]، كما اجتمع بسعد بن أبي وقاص وناشده بعدم هضم حقه بالخلافة[26]، واتهم قريشًا بالممالأة على هضم حقوق آل البيت وإبعاده عن الحكم[27]، وهو اتهام يعكس وجهة نظر عمر بن الخطاب في فرص كلِّ عضوٍ من أعضاء مجلس الشورى في تسلُّم الحكم[28]: "إنَّ عليًّا لأحقُّ الناس بها، ولكنَّ قريشًا لا تحتمله، ولئن وليهم ليأخذنهم بمرِّ الحق، لا يجدون عنده رخصة، ولئن فعل لينكثن بيعته ثُمَّ ليتحاربن"[29]. ومع ذلك فإنَّ عليًّا بايع عثمان فورًا، أو بعد تردد[30].

نذكر من بين شخصيات هذه الفئة: العباس بن عبد المطلب، والمقداد بن عمرو، وأبا ذر الغفاري، وعمار بن ياسر. وقد حفلت الروايات التي استعرضت مواقفهم بالميول الشيعية والعباسية الواضحة، ويُلاحظ بأنَّ هذه الشخصيات ستؤدي دورًا بارزًا في الفتنة من خلال معارضتها الصارمة لسياسة عثمان بن عفان.

2- الفئة الموالية لعثمان بن عفان، وتألفت من أعضاء مجلس الشورى وعامَّة بني أمية؛ فقد بايع الزبير بن العوام عثمان بن عفان فورًا، وكذلك فعل سعيد بن أبي وقاص، وبايع عبد الله بن عمر عثمان محترمًا قرار أعضاء المجلس، أمَّا طلحة بن عبيد الله، فقد بايع عثمان فورًا أو بعد تردد احتجاجًا على إسراع مجلس الشورى في انتخاب خليفة للمسلمين، وكان قد عاد إلى المدينة واعتكف في منزله.

3- الفئة التي أيَّد أفرادها قرار مجلس الشورى باختيار عثمان بن عفان، ومع أنَّ الروايات تباينت في توضيح أسباب هذا التأييد، إلا أنها حصرتهم في أصحاب المصالح الخاصة، نذكر منهم: المغيرة بن شعبة، وبعض أقارب عثمان بن عفان، مثل: عبدالله بن أبي ربيعة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن مسعود أبرز زعماء القرَّاء.

4- عامَّة المسلمين الذين تماشوا مع قرار مجلس الشورى بهدف استمرار الحياة العامة.

لقد توضحت إِذَن الأجواء الاجتاعية والقوى (الاجتماعية- السياسية) التي أعاقت تسلُّم علي بن أبي طالب الخلافة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وبدا واضحًا أنَّ شدَّة علي ستُضاهي شدَّة عمر، لكنَّ قريشًا كانت تسعى إلى تحوُّلٍ في التعامل معها، وقد دفع هذا المزاج السائد عثمان بن عفان إلى الخلافة؛ حيث علَّقت عليه قريشٌ آمالها في تصفية نهج عمر نحوها، وبالتالي في فتح الباب أمامها للانطلاق نحو الأمصار، كما دلَّت عليه التطورات اللاحقة؛ فشخصية عثمان كانت أقرب إلى تفكير وطباع قريش من عمر وعلي، وهكذا كان اختيار عثمان خليفةً قرارًا اجتماعيًّا، ولم يكن مفاضلةً بين صحابيَّين، وشكَّل هذا النزوع القرشي نحو انفراجٍ حياتي ومعاشي واجتماعي شامل -على قاعدة البيئة الجديدة التي أفرزتها الفتوح- الأرضية المادية الواقعية التي أوصلت عثمان إلى الخلافة، ولهذا كان نهج عثمان منذ بدايته متعلقًا بهذه الأرضية، ومشروطًا بها ومقرونًا معها، ويتناغم مع التطور الاجتماعي داخل الأمة[31].

كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
__________

[1] الطبري: 4/228.
[2] البلاذري: أنساب الأشراف: 6/119.
[3] إبراهيم: ص230.
[4] البلاذري: 6/123، والطبري: 4/228.
[5] الطبري: المصدر نفسه.
[6] إبراهيم: ص231.
[7] البلاذري: 6/119، والطبري: 4/229، وملحم: عدنان محمد: المؤرخون العرب والفتنة الكبرى: ص88.
[8] البلاذري: 6/120، والطبري: المصدر نفسه.
[9] البلاذري: 6/120-122.
[10] الطبري: 4/229.
[11] المصدر نفسه: ص231.
[12] إبراهيم: ص231.
[13] الطبري: 4/228.
[14] البلاذري: 6/126.
[15] جعيط: ص57، 58.
[16] ابن قتيبة: 1/27.
[17] الطبري: 4/233.
[18] جعيط: ص58، 59.
[19] البلاذري: 6/127، والبلخي: 2/212.
[20] البلاذري: المصدر نفسه: ص128، والطبري: 4/238.
[21] المصدران أنفسهما.
[22] جعيط: ص59، وملحم: 90.
[23] بيضون: الإمام علي: ص40، 41.
[24] الطبري: 4/229.
[25] المصدر نفسه: ص231.
[26] البلاذري: 6/123.
[27] الطبري: 4/233.
[28] البلاذري: 6/120، 121، وابن قتيبة: 1/26.
[29] اليعقوبي: 2/51، 52.
[30] البلاذري: 6/128، 129، والطبري: 4/238.
[31] إبراهيم: ص233.