ظروف تولِّي علي الخلافة
اتخذ الانقسام الذي أفرزته الثورة على عثمان رضي الله عنه طابعًا نهائيًّا بفعل عمق الجرح واتساع الهوَّة بين الفئات المتناقضة التوجُّهات في المجتمع الإسلامى، وخلق فرزًا اجتماعيًّا جذريًّا بين الجمهور القبلي من جانب، وبين النخبة القرشية من جانبٍ آخر، بالإضافة إلى ولادة الفرق السياسية ونشوء الفكر السياسي في تاريخ الإسلام[1].
كان الخيار المطروح بعد مقتل عثمان رضي الله عنه هو إمَّا العودة إلى نظام عمر رضي الله عنه الذي اعتمد أساسًا علي المصالح القبلية وقيمها، وإمَّا الاستمرار في السير على نهج عثمان رضي الله عنه من واقع النظام الجديد الذي يعتمد على أولويَّة المصالح القرشية، وقد توزَّعت مواقف الصحابة بخاصَّةٍ والمسلمين بعامَّةٍ بين هذين الخيارين، ومثَّل الصراع بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما هذه الثنائية المتناقضة، وقد تبنَّى الأوَّل مطالب الثائرين فى حين جسَّد الثاني الاستمراريَّة الحيَّة المباشرة لنهج عثمان رضي الله عنه.
تواجه الباحث صعوباتٍ عديدةٍ وهو يرسم صورة الأحداث التي تمَّ من خلالها اختيار الخليفة الراشدي الرابع؛ ذلك بفعل كثرة الروايات وتناقضها، لكنَّ الدراسة الموضوعية تُمكِّن من استيعاب الواقع التاريخي؛ إذ إنَّ اختيار علي رضي الله عنه كان وليد الظروف التي أعقبت مقتل عثمان رضي الله عنه مباشرةً؛ فقد خلَّفت حادثة القتل فراغًا سياسيًّا كان لا بُدَّ من ملئه على وجه السرعة، لهذا كان ضغط الوقت شديدًا على الجميع للإسراع في الاتفاق على مرشحٍ واحدٍ للخلافة، تُجمع عليه الأمَّة، وسط الذهول والانصدام والحذر والتريُّث الذي خيَّم على أهل المدينة.
كان الثائرون ما يزالون يُسيطرون على المدينة، ويملكون ناصية القرار السياسي والعسكري، إلَّا إنهم لم يمارسوا السلطة فعليًّا، وبدوا مرتبكين وغير متوحِّدين أمام جسامة الحدث الذي خلقته حركتهم، وافتقروا إلى الرؤية الواضحة للخروج من المأزق، وبالتالي لم يملكوا مشروعًا للحلِّ يمسُّ الخلافة مباشرة، هذا في الوقت الذي أخذ فيه معظم الصحابة يتوارون عن الأنظار في عاصمة الخلافة مفضِّلين الابتعاد عن التطورات التي أفلتت من أيديهم، وكان الفراغ في السلطة يُنذر بأسوأ النتائج، واشتدَّت الحاجة إلى منقذٍ يتمتَّع بتأييد الأغلبية في التوجُّهات السياسية، وبخاصَّةٍ الممثِّلة لجماعة الثائرين المعنيَّة مباشرةً بالوضع القائم[2].
هكذا رشَّح المصريون عليًّا رضي الله عنه فاختبأ منهم، وطلب الكوفيون الزبير بن العوام رضي الله عنه فلم يجدوه، فأرسلوا إليه رسلًا فباعدهم وتبرَّأ من مقالتهم، وطلب البصريُّون طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فباعدهم –أيضًا- وتبرَّأ من مقالتهم، على الرغم من أنَّ كلًّا منهما كان طامعًا بالسلطة محبًّا لها، فإنَّ الجوَّ السياسي العامِّ كان لا يسمح بتولِّي منصب الخلافة من دون الاتهام بممالأة الثائرين؛ الأمر الذي دفع الثائرين إلى التفاوض مع كلٍّ من عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنهما، فرفضا وعدَّ كلٌّ منهما نفسه قد أُخرج من الأمر[3]، عندئذٍ ترك هؤلاء الأمر لأهل المدينة.
توجَّه بعض الصحابة من المهاجرين والأنصار نحو عليٍّ رضي الله عنه وخاطبوه قائلين: "إنَّ هذا الرجل قد قُتل، ولا بُدَّ للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدًا أحقَّ بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم"[4]. والواضح أنَّ معالم شخصيته وحياته العامَّة جعلته -آنذاك- رجل الإسلام المهم.
الواقع أنَّ الوضع كان استثنائيًّا؛ إذ لا يُمكن أن يكون منصب الخلافة شاغرًا والمسلمون بلا راع في تلك الظروف العصيبة والمضطربة التي كانوا يعيشونها، ويُشير ذلك إلى خطورة الحالة والقلق من انهيار كلِّ شيء، ولا بُدَّ من تنصيب خليفة.
كان اسم عليٍّ رضي الله عنه يفرض نفسه؛ فهو الأكثر نشاطًا من خلال الأزمة، الذي بدا من خلال هذ الموقع المحاورَ الوحيد بعد انكفاء طلحة والزبير واعتزال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم[5]، وهم الأربعة الذين بقوا من أهل الشورى، ومثَّلوا النخبة السياسة في المدينة، كما أنَّه لم يكن موضع اتِّهام، غير أنَّ الأمور لم تجرِ على نحوٍ مؤسساتيٍّ وفقًا لآليَّة مجلس الشورى التي وضعها عمر t، ولا برضى بعض كبار الصحابة وموافقتهم؛ إنَّما جاءت كخطوةٍ شعبيَّةٍ دون استشارات؛ فقد قال جمهور المسلمين: "عليُّ بن أبي طالب نحن راضون به"[6].
الملاحظ أنَّ الثائرين الذين كانوا يُشكِّلون عامل ضغط تراجعوا عن التدخُّل في هذه العملية معترفين بأنَّ أهل المدينة وحدهم هم الذين كانوا يمنحون الشرعية، ونجحوا في طيِّ خلافاتهم من مشكلة المرشحين، وهو ما عبَّر عنه المصريون بقولهم: "أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وأمركم عابرٌ على الأمَّة، فانظروا رجلًا تُنصِّبونه، ونحن لكم تبع"[7].
اختيار عليِّ بن أبي طالب للخلافة
لم يكن عليٌّ رضي الله عنه في البداية راغبًا في تولِّي الخلافة، وخاطب الذين رشَّحوه قائلًا: "لا تفعلوا، فإنِّي أكون وزيرًا خيرٌ من أن أكون أميرًا"[8]. عندئذٍ صعد أهل الأمصار من ضغطهم فهدَّدوا أهل المدينة بقتل هؤلاء الثلاثة؛ عليُّ وطلحة والزبير رضي الله عنهم وناسٌ كثير، ممَّا دفع عامَّة الناس بمطالبة عليٍّ رضي الله عنه بقبول البيعة وخوَّفوه الفتنة، فوافق كارهًا خشيةً منه على الدين والمسلمين من مزيدٍ من التمزُّق، وهدف إلى وأد الفتنة وإعادة تجميع جسم الأمة المتناثر، وترميم النظام القائم للسلطة، وتعزيز التواصل بين القوى الاجتماعية الجديدة الأكثر اعتدالًا والأقل تورُّطًا في القتل التي يُمثِّلها الأشتر وأصحابه[9].
اشترط عليٌّ رضي الله عنه على أهل المدينة أن تتمَّ بيعتهم له عن عمليَّة شورى يشترك فيها الصحابة من أهل الشورى وأهل بدر وعامَّة الناس، وأن تكون علنيَّةً في المسجد[10]؛ ذلك حرصًا على جمع كافَّة المسلمين حوله، وهكذا بايعه من بايع من عامَّة المسلمين وكبار الصحابة، ومن بينهم طلحة والزبير رضي الله عنهما[11]، ذلك يوم الجمعة في "24 ذي الحجة 35هـ/ 23 يونيو 656م"[12]. من هنا لا يُمكن القول: إنَّ عليًّا رضي الله عنه كان رجل الثائرين والمنتخب منهم كما سيدَّعي خصومه، ومن جهةٍ أخرى فإنَّه قَبِل بالتولية في ظروفٍ كهذه، وهذا يعني ضمنًا التسليم بالأمر الواقع، والتحوُّل نسبيًّا إلى رهينٍ للثورة[13].
الواضح أنَّه كانت هناك رغبةٌ للعودة إلى النظام من قِبَل عامَّة المسلمين بالإضافة إلى الثائرين، لكنَّ المعارضة السياسية لن تصدر عن عليٍّ رضي الله عنه ومن سانده، بل تحوَّلت إلى الذين يُريدون الردَّ على مقتل عثمان رضي الله عنه، إذ وُجدت فئةٌ من كبار الصحابة ستتراجع عن بيعتها بحجَّة أنَّها جاءت تحت ظروفٍ قاهرة، إمَّا تحت تهديد السلاح من قِبَل أهل الأمصار، أو طوعًا انجرارًا مع العامَّة، أو خوفًا من بطش الغوغاء، وستنخرط في الحرب الأهلية، مثل الزبير وطلحة رضي الله عنهما[14].
يبدو أنَّ الذين استعْدوا عليًّا تحرَّكوا من خلال دافعين:
الأوَّل: هو افتقارهم إلى دور الشريك في السلطة وما يترتَّب على ذلك من تهديدٍ لمصالحهم الحيوية.
الثاني: هو الخوف على امتيازاتٍ لم يعد من السهولة التخلِّي عنها والعودة إلى نهج عمر الصَّارم والمتشدِّد[15].
لكنَّ عليًّا رضي الله عنه أضحى الخليفة الشرعيَّ للمسلمين؛ لأنَّ وجوه الصحابة والمسلمين من المهاجرين والأنصار قد بايعوه، وهم أهل الحلِّ والعقد، وإن لم يتوفَّر لبيعته إجماعٌ كالبيعات الثلاث السابقة؛ فقد ظلَّ معاوية رضي الله عنه خارج إطار المبايعة، واعتزل سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه ولم يُبايع، كما رفض عددٌ من الصحابة مبايعته انطلاقًا من كونهم عثمانيين، مثل: حسَّان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبي سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج رضي الله عنهم، وغيرهم. وتردَّد الأمويُّون في البيعة؛ إذ رأوا في تولِّي عليٍّ رضي الله عنه الخلافة انتقالًا للسلطة من بني أميَّة إلى بني هاشم، ثُمَّ غادروا المدينة إلى مكَّة، مثل: مروان بن الحكم والوليد بن عتبة وسعيد بن العاص رضي الله عنهم[16]. إنَّه موقفٌ قبليٌّ عشائري.
يبدو أنَّ المزاج العام السائد في الأمصار كان السبب الرئيس في خلق هذه الأكثرية لصالح عليٍّ رضي الله عنه ممَّا دفع أهل المدينة إلى مبايعته[17]. وتمَّت البيعة بعد خمسة أيامٍ من مقتل عثمان رضي الله عنه، والواقع أنَّ المفارقة المأساوية في حياة عليٍّ رضي الله عنه العامَّة هى أنَّه كان المرشَّح الأبرز، لكنَّه كان مع ذلك الخليفة الأكثر إنكارًا والأشدَّ محاربة[18].
كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
__________
[1] إبراهيم، أيمن: الإسلام والسلطان والملك، دار الحصاد للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 1998م، ص262.
[2] الطبري: 4/432.
[3] المصدر نفسه: ص427.
[4] الطبري: 4/432.
[5] المصدر نفسه.
[6] المصدر نفسه.
[7] المصدر نفسه.
[8] المصدر نفسه: ص427.
[9] الطبري: 4/427.
[10] جعيط، هشام: الفتنة، دار الطليعة، بيروت، ط3، 1995م، ص142.
[11] الطبري: 4/427-430، وابن قتيبة: الإمامة والسياسة 1/43، 44، والبلاذري: 3/8.
[12] ابن الأثير: 2/557.
[13] جعيط، هشام: الفتنة، دار الطليعة، بيروت، ط3، 1995م، ص142.
[14] البلاذري: 3/8، 9.
[15] بيضون، إبراهيم: ملامح التيارات السياسية في القرن الأول الهجري، دار النهضة العربية، بيروت، 1979، ص120.
[16] الطبري: 4/429، 430.
[17] ملحم، عدنان محمد: المؤرخون العرب والفتنة الكبرى، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1998، ص263.
[18] جعيط: الفتنة، ص143.