مقتل علي[1]
حصل مقتل عليٍّ رضي الله عنه إثر اتِّفاقٍ بين الخوارج في مكَّة يقضي بقيام ثلاثة عناصر خارجيَّة هم عبد الرحمن بن ملجم المرادي، والحجَّاج بن عبد الله الصريحي -وهو البراك- وعمرو بن بكر التميمي، باغتيال الأشخاص الثلاثة الذين تسبَّبوا في انقسام المسلمين وتشتُّتهم، وهم عليُّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص رضي الله عنهم.
توجَّه كلُّ واحدٍ منهم إلى المدينة التي يُقيم فيها صاحبه المكلَّف بقتله؛ الأوَّل إلى الكوفة، والثاني إلى دمشق، والثالث إلى الفسطاط، وتواعدوا على تنفيذ الخطة فجر يوم الجمعة (17رمضان 40هـ= 24 يناير 661م).
قَدِم ابن ملجم إلى الكوفة، واحتكَّ بوسطه الطبيعي -الخوارج- الذين ينتمي إليهم متكتِّمًا حول مشروعه ومنتظرًا الموعد المحدَّد، وساقته الصدفة في تلك الأثناء إلى التعرُّف على امرأةٍ تُدعى قطام بنت الشجنة من تيم الرباب، فشغف بها وأراد أن يتزوَّجها، كانت هذه المرأة مشحونةً بميلٍ شديدٍ للانتقام من عليٍّ رضي الله عنه الذي قتل أباها وأخاها يوم النهروان، فاشترطت عليه عدَّة شروط كمهرٍ لها كان من بينها قتل عليٍّ رضي الله عنه، لكنَّ هذا الواقع صادف مشروعًا مخطَّطًا له، فباح لها عندئذٍ بسرِّه وأخبرها عن سبب حضوره "فوالله ما جاء بي إلى هذا المصر إلَّا قتْل عليٍّ رضي الله عنه، فلكِ ما سألتِ".
قامت قطام بتنظيم عملية القتل، واختارت شخصًا من قومها لمساعدة ابن ملجم يُدعى وردان، واستمال ابن ملجم -من جانبه- رجلًا ثانيًا يُدعى شبيب بن نجدة الأشجعي الحروري، وقام بتسميم سيفه بحيث أنَّ عليًّا رضي الله عنه لا يُمكنه أن ينجو حتى ولو أصيب بجرح.
تربَّص الثلاثة في اليوم المحدَّد لعليٍّ رضي الله عنه في المسجد، وما إن دخل عليٌّ رضي الله عنه وراح يدعو الناس إلى صلاة الفجر عاجله شبيب بضربةٍ من سيفه، لكنَّه أخطأه وأصاب عضادة الباب[2]، فأعقبه ابن ملجم بضربةٍ أخرى وهو يقول: "الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك" وأصابته في جبهته وشجَّتها، فسال الدم على لحيته.
كانت الضربة محكمة وقاتلة، وسيقضي عليٌّ رضي الله عنه ليلتين وهو يحتضر، وقبض الحاضرون على ابن ملجم ولاذ شبيب بالفرار وتمكَّن من النجاة، أمَّا وردان فانفلت في زحام الناس، لكن أدركه رجلٌ من حضرموت وقتله.
حُمِل عليٌّ رضي الله عنه إلى بيته وهو يقول "لا إله إلا الله"، وطلب من ابنه الحسن رضي الله عنهما أن يقتل ابن ملجم إن هو مات، ثُمَّ أخذ يُوصي بنيه بتقوى الله، وطلب منه المسلمون أن يُبايع ابنه الحسن، فأجابهم "لا آمركم ولا أنهاكم"، ثُمَّ تُوفِّي عليٌّ رضي الله عنه متأثِّرًا بجرحه، وصلَّى عليه ابنه الحسن رضي الله عنهما، ودفنه في دار الإمارة بالكوفة، وفي رواية فيما يلي قبلة المسجد الجامع، وأخفى قبره خشية من أن ينبشه الخوراج.
تلك إِذَنْ هي صورة الحادثة كما رواها الإخباريُّون، على الرغم من تشكيك عددٍ من المؤرخين بصحة بعض فصولها إلَّا أنَّ هناك إجماعًا على أنَّ عملية الاغتيال تمَّت على أيدي عناصر خارجية؛ انتقامًا لضحايا معركة النهروان، وإذا كان صحيحًا أنَّ هذا الاغتيال كان وليد الفتنة؛ فقد كان ذلك كنتيجة للتناقضات الداخلية في معسكر عليٍّ رضي الله عنه؛ ذلك لأنَّ الضربة ستأتي من الخوراج، والراجح أنَّه كان عملًا فرديًّا؛ إذ إنَّ حصول اتفاقٍ مسبقٍ بين الخوارج وتخطيطٍ لعملية القتل هو أمرٌ مستبعدٌ بفعل:
- أن معركة النهروان فرَّقت الخوارج وشتَّتتهم، فلم يبق منهم سوى مجموعاتٍ صغيرةٍ مبعثرةٍ في القرى.
- كراهية الخوراج أسلوب الاغتيالات في مواجهة أعدائهم.
- لم يكن الجوُّ السياسيُّ والعسكريُّ العام آنذاك مؤاتيًا لتجديد الاضطراب الخارجي.
وإذا أمكننا الحديث عن مؤامرةٍ، فإنَّها قد تمَّت بين عددٍ محدودٍ جدًّا من الخوارج ولا تُعبِّر بالضرورة عن تطلعات الحركة، أمَّا بقيَّة المعلومات الخاصَّة بعملية القتل مثل قصة الحب بين قطام وابن ملجم والدور المزعوم للأشعث بن قيس الكندي، الذي رواه اليعقوبي وغيرها، فقد شكَّك العديد من المؤرِّخين في صحَّتها.
شكَّل اغتيال عليٌّ رضي الله عنه الضربة القاضية للدولة الراشديَّة، بعد أن حالت النزاعات الداخلية دون تثبيت جذورها في الأرض، وبذلك انطوت صفحة هذه الخلافة التي استلهمت من تجربة النبيِّ صلى الله عليه وسلم الرائدة بوصفها امتدادًا لعصر النبوة.
كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
__________
[1] الطبري: ص143-148، والبلاذري: 3/249-266، واليعقوبي: 2/118، 119، وابن قتيبة: 1/129-131، وجعيط: ص292-301، وبيضون: ص99-102، والبكاي: ص53، 54.
[2] عضادة الباب: الخشبة المنصوبة عن يمين الداخل أو شماله.