تطور القضاء حتى عهد عمر بن الخطاب
للقضاء في اللغة عدَّة معان، لكنَّ أهل اللغة متَّفقون بأنَّ كلمة قضى تأتي بمعنى حكم والقضاء هو الحكم[1]، أمَّا المعنى الاصطلاحي فهو "إظهارٌ لحكم الله تعالى وإخبارٌ عنه"، وهو –أيضًا- "إلزام من له الإلزام بحكم الشرع"، وهو "الحكم بين النَّاس بالحق، والحكم بما أنزل الله عزَّ وجلَّ"[2].
ارتبط القضاء بالحاكم الأعلى للدولة أو نائبه في الولايات في عصر الرسالة وفي عهد أبي بكرٍ رضي الله عنه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّل قاضٍ في الإسلام، فكان يحكم بين النَّاس بما أنزل الله إليه، سواءٌ أكانوا مسلمين أم غير مسلمين ما داموا يعيشون ضمن إطار الدولة الإسلامية، وما جاءه من أمرٍ ليس فيه حكمٌ واضحٌ يُشاور فيه ويجتهد، أمَّا خارج المدينة فإنَّ الأمر كان يختلف؛ فالقبائل القريبة من المدينة كانت تتبع المدينة مباشرة، فيأتي المتقاضون إليها ليقضي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينهم، وإن كان الأمر يقتضي الذهاب إلى مكان حصول الخلاف فيبعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه نيابةً عنه ليستكمل التحقيق في القضية، وأمَّا المناطق البعيدة عن المدينة فقد كان الأمراء الذين يُعيِّنهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقومون بأمر القضاء، واشتهر عليُّ بن أبي طالب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما كولاةٍ يتولُّون القضاء في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
كان عهد أبي بكر رضي الله عنه شبيهًا بعهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم من حيث وضع القضاء والقضاة وبخاصَّةٍ في الأمصار البعيدة؛ فالوالي هو القاضي، أمَّا في المدينة فقد ابتكر أسلوبًا جديدًا حين أسند مهمَّة القضاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما يُمكن أن نطلق عليه "فصل القضاء جزئيًّا"؛ لأنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان يقضي بنفسه، ولم يترك القضاء بالكليَّة، كما أنَّه لم يرَ حاجةً لفصل القضاء عن الولاية في الولايات الأخرى خارج المدينة.
تطوُّر القضاء في عهد عمر
كانت اختصاصات العمَّال في ولاياتهم ما يليه عمر رضي الله عنه في المدينة فيجمعون بين القضاء والتنفيذ وإمارة الجند، على أنَّ الخليفة ألفى نفسه بعد قليلٍ من ولايته قد شغلته شئون الدولة العامَّة وسياستها العليا، وكانت أنباء جنده في العراق وبلاد الشام تستغرق منه الكثير من الوقت والجهد، كما كانت تصرُّفات عمَّاله موضع عنايته وتفكيره، وازدادت مصالح النَّاس في المدينة تعقيدًا وتشابكًا بازدياد عدد سكَّانها، وكثرة المال الذي يرد عليها، وكان تقدُّم الفتوح وما تقتضيه من تنظيمٍ لشئون البلاد المفتوحة يدعوه إلى أن يكتب إلى أمراء جنده بآرائه في هذا التنظيم، لذلك كان لا بُدَّ من أن يُولِّي أعوانًا له يقضون مصالح الأفراد فيما لا تتأثَّر به مصلحة الدولة.
كان أوَّل ما فعله أن فصل القضاء عن الولاية، فجعل بجانب الوالي قاضيًا ينظر في أمور القضاء لا عمل له غيره، وقد يجمع لبعض القضاة التعليم أو القيام بشئون بيت المال إلى جانب عمل القضاء، وقد نفَّذ هذه الخطَّة في الولايات الجديدة التي فُتحت في عهده في العراق وبلاد الشام ومصر، ولعلَّ سبب ذلك ما تمتاز به تلك الأمصار من كثافة السكان من أهل تلك البلدان، بالإضافة إلى المسلمين الفاتحين وما ينتج عن ذلك من كثرة القضايا والمشكلات، وثقل القيام بأعباء الولاية على الوالي، لكنَّ عمل عمر رضي الله عنه لم يكن فصلًا كاملًا للقضاء عن سلطة الخليفة ونوَّابه في الولايات بحيث أضحى القضاء سلطةً مستقلة؛ وإنَّما كان عمله بدايةً لذلك، وكان هو الذي يُعيِّن القضاة ويعزلهم ويُحاكمهم، ويكتب لنوَّابه باختيار الصالحين للقضاء فيُولُّوهم، ويكتب لقضاته بالتعليمات والآداب[3].
أشهر قضاة عمر
لعلَّ أبرز من اشتهر في أيَّامه من القضاة: زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، زيد بن سعيد بن ثمامة رضي الله عنه المعروف بابن أخت النمر، عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه لكن لم يُعيِّنه قاضيًا متفرغًا، وإنَّما كان يُكلِّفه النظر ببعض القضايا، ويستشيره في الأمور المهمَّة؛ فإنَّه كان لا يستغني عنه لذلك لم يُولِّه قيادةً ولا إمارةً بعيدة، عامر بن مالك بن قيس رضي الله عنه المعروف بأبي الدرداء، وقد ولَّاه القضاء في المدينة، إياس بن صبيح بن محرش الحنفي رضي الله عنه المعروف بأبي مريم أوَّل قاضٍ على البصرة، كعب بن سور الكندي رضي الله عنه من أشهر ولاة الكوفة، عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أحد قضاة الكوفة المشهورين، عبادة بن الصامت رضي الله عنه في بلاد الشام، ويُذكر بأنَّ التاريخ لم يحفظ لنا أسماء قضاةٍ مشهورين في عهد عمر رضي الله عنه في بلاد الشام، أمَّا في مصر فقد كلَّف عامله عمرو بن العاص باختيار القضاة، نذكر من بين قضاة مصر قيس بن أبي العاص السهمي، وكعب بن يسار بن ضبة العبسي.
حكم هؤلاء القضاء مستقلين برأيهم في حدود كتاب الله وسنة نبيه، وتُعدُّ توليتهم أوَّل خطوةٍ في تنظيم وفصل السلطات بعضها عن بعض على أنَّها كانت خطوة أدَّت إليها الحاجة، وقضت بها ضرورات التطوُّر في أوضاع الدولة.
تعاليم عمر في نظام القضاء
كان عمر يختبر قضاته قبل أن يُولِّيهم مهمَّة القضاء، ويُحدِّد لهم النهج الذي يسيرون عليه، ذلك بما أرساه من تعاليمٍ في نظام القضاء وآداب القضاة، ولا تزال كتبه وأقواله تشهد بسعة علمه في القضاء وأصوله وأحكامه، وأهمُّ ما كتبه في ذلك كتابه الشهير إلى أبي موسى الأشعري حين ولَّاه القضاء، الذي يُعدُّ قطعةٌ من أدب القضاة لا تزال خالدة، وقد اهتمَّ به العلماء اهتمامًا عظيمًا بالشرح، فهو يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلامٌ عليك! أمَّا بعد. فإنَّ القضاء فريضةٌ محكمةٌ وسنة متبعة، فأفهم إذا أُدلي إليك، وأنفذ إذا تبيَّن لك؛ فإنَّه لا ينفع تكلُّمٌ بحقٍّ لا نفاذ له. وآس بين النَّاس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريفٌ في حيفك، ولا ييأس ضعيفٌ في عدلك. البيِّنة على من ادَّعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائزٌ بين المسلمين إلَّا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، ولا يمنعك قضاءٌ قضيته بالأمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهُديت فيه إلى رشدك، أن ترجع إلى الحق؛ فإنَّ الحقَّ قديم، ومراجعة الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك ممَّا ليس في كتابٍ ولا سنَّة، ثُمَّ أعْرِف نفسك الأشباه والأمثال، وقِس الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق. واجعل لمن ادَّعى حقًّا غائبًا أو بيِّنةً أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بيِّنةً أخذْتُ له بحقِّه وإلا وجَّهت القضاء عليه؛ فإنَّه أنفى للشكِّ وأجلى للعمى، المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلَّا مجلودًا في حدٍّ أو مُجرَّبًا عليه شهادة زور، أو طنينًا في ولاءٍ أو نسب؛ فإنَّ الله سبحانه تولَّى منكم السرائر ودرأ بالبيِّنات والأيمان، وإياكم والقلق والضجر والتأذِّي بالخصوم والتنكُّر عند الخصومات؛ فإنَّ الحقَّ في مواطن الحقِّ يُعظِّم الله به الأجر ويُحسن به الذكر، فمن صحَّت نيَّته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلَّق للنَّاس بما يعلم الله أنَّه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنُّك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته! والسلام"[4].
إنَّ قراءةً متأنيةً لمضمون الكتاب تُوضِّح أهمَّ المبادئ القضائيَّة التالية[5]:
- على القاضي أن يعلم أنَّ ما يحكم به نوعان: أحدهما فرضٌ محكمٌ غير منسوخ، مثل الأحكام الكليَّة التي أحكمها الله في كتابه، والآخر أحكامٌ سنَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
- إنَّ صحَّة الفهم والفقه في القضية من أهمِّ ما يُساعد على القضاء.
- لا يكفي أن ينطق القاضي بالحكم العادل، بل عليه أن يُنفِّذه، وذلك بإعلان الحكم والإلزام به، ثُمَّ أخذ الحقِّ لصاحبه إذا رفض المدَّعى عليه تسليمه.
- المساواة بين الخصوم في المجلس وفي نظر القاضي وفي القضاء، فإذا اختلَّ أحدها تسرَّب الطمع إلى القويِّ بحيف القاضي، واليأس إلى الضعيف من العدل.
- على القاضي أن يسمع الدعوى والردَّ من المدَّعى عليه، ثُمَّ يطلب من المدعي البيِّنة على دعواه، وعند فقدان البيِّنة عليه أن يحلف اليمين.
- إذا رأى القاضي محاولة الصلح بين الخصوم فذلك جائزٌ على أن يتوافق مع الكتاب والسنة، أمَّا الصلح الذي يُحلُّ الحرام ويُحرِّم الحلال فغير جائز.
- من ادَّعى حقًّا غائبًا وكانت له بيِّنةٌ ولكنَّها غائبة فيُؤجَّل وقتًا كافيًا لإحضار بيِّنته ما لم يكن متهرِّبًا من الحق، وإذا أحضر البيِّنة في حدود الأجل المضروب أُعطي حقَّه؛ لأنَّه قد أظهر حقَّه ببينته، وإن عجز المدَّعي عن إحضار البيِّنة التي زعمها في الأجل المحدَّد له، فلا حقَّ له في دعواه، هذا ما لم يكن قد حصل له عذرٌ منعه من إحضار بيِّنته، فإن اتَّبع القاضي هذه الطرق في سماع الدعوى والبيِّنة، وأجَّل ما يستحقُّ التأجيل يكون قد أبلغ في العذر، وجلَّى العمى في القضيَّة، فلا يبقى إشكالٌ ولا عذرٌ لمعتذر.
- إذا قضى القاضي في قضيَّةٍ ونُفِّذ الحكم فيها فلا رجوع فيما قضى فيه، وإذا قضى في قضيَّةٍ وجاءته بعدها قضيَّةٌ مماثلة فبان له أنَّه أخطأ في القضاء في الأولى، وبان له الحق، فإنَّه يقضي بما ظهر له، ولا يُتابع الخطأ فيقضي كما قضى بالأمس، وهذا لا يعني الرجوع عن القضاء في القضيَّة الأولى.
- الحقُّ أقدم من اجتهاد القاضي فيه، فإنَّه إن قضى عليه ثُمَّ ظهر فعليه الرجوع، واجتهاده الخاطئ لا يُبطل الحق.
- الأصل في جميع المسلمين العدالة، ما لم يثبت ما يخدش تلك العدالة.
- الأخذ بما ورد في الكتاب أو السنَّة وتحرِّي الحقِّ على ضوئهما ذلك في القضايا التي فيها حكمٌ ظاهر، أمَّا القضايا التي ترد على القاضي وليس فيها حكمٌ ظاهرٌ في الكتاب أو السنَّة فإنَّها تحتاج إلى فهمٍ وعلمٍ ونظرٍ دقيق، ثُمَّ إنَّ العمل في مثل هذه القضايا النظر في أشباهها من القضايا القريبة منها التي لها مستندٌ من الدليل، فينظر القاضي ويحمل الجديد على أقرب وأشبه قضيَّةٍ بها، ولا يكون ذلك إلَّا بعد النظر الموصل إلى قناعته بأنَّ ما توصَّل إليه أحبُّ الطرق إلى الله فيما يعلم القاضي.
- لا بُدَّ أن يبتعد القاضي عمَّا يُثير غضبه وقلقه وضجره أثناء القضاء، ولا ينبغي له أن يضيق بالنَّاس وقت الخصومة، ويتنكر للخصوم عند ذلك، ثُمَّ إنَّ الصبر على القضاء والعدل يكسبه الأجر وحسن الذكر.
- إنَّ النيَّة الخالصة في مهنة القضاء التي تُؤدِّي إلى قول الحق ولو على النفس والأقربين، تحمي القضاء ممَّا يضمره له النَّاس من عداءٍ وشرٍّ بسبب قول الحقِّ وإظهاره، بكفاية الله.
- إخلاص النيَّة في جميع الأعمال، وتحذيرٌ للقضاة بخاصَّةٍ وللنَّاس بعامَّةٍ من التزيُّن بما ليس في النفس من قولٍ أو فضل.
تعيين راتبٍ للقاضي
من الأمور التي لا يُمكن لقاضٍ أن ينهض بعمله دونها الراتب المنتظم الذي يُعينه وعياله على استمرار الحياة، وأنًّ النفقة عليه من بيت مال المسلمين تضمن استمرار مصلحته للأمَّة، وتفرُّغه لعمله؛ إذ لو تعاطى القاضي عملًا آخر ليُؤمِّن رزقه ورزق عياله لما استطاع أن يقوم بواجب وظيفة القضاء، فلا بُدَّ للقاضي إذًا من التفرغ الكامل لوظيفته، ولا يتمُّ ذلك إلَّا بتوسيع رزقه حتى يطمئن على نفسه وعلى عياله من الحاجة، وقد فرض عمر رضي الله عنه رواتب للقضاة الذين فرَّغهم للعمل في ميدان القضاء، نذكر منهم زيد بن ثابترضي الله عنه ، شريح الكندي، سلمان بن ربيعة الباهلي قاضي الكوفة، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، لمحمد سهيل طقوش.
ــــــــــــــــــــــ
[1] ابن منظور: ج15 ص186-189.
[2] القريشي: ج1 ص86-88.
[3] القريشي: ج2 ص575.
[4] انظر النص عند: الماوردي: ص91، وسنن الدارقطني: ج4 ص206، 207.
[5] القريشي: ج2 ص630، 631.