تعريف الإدارة
الإدارة لغةً: من أدرت فلانًا على الأمر إذا حاولت إلزامه إياه، وأدرته عن الأمر إذا طلبت منه تركه[1]، أمَّا اصطلاحًا: فالإدارةُ فنٌ يعتمد على الصِّفات الذاتيَّة والمواهب الشخصيَّة للمدير، ولكنَّها من حيث الاعتماد على الصِّفات العلمية فهي علم، ولم يتبلور ذلك إلَّا مؤخَّرًا حين أضحت الدولة تقوم على أساس الخدمة العامَّة لا السلطة، وبعد أن شمل نشاطها الأحوال الشخصيَّة للأفراد، فبدأت الدراسات الحديثة بالظهور؛ المتعلِّقة بكيفيَّة تنظيم أجهزة الدولة، واختيار الحكَّام، واكتشاف مبادئ الإدارة العامَّة التي تكفل أداء الوظائف الحكومية في أقصر وقتٍ وأقلِّ كلفةٍ وبأقصى فاعليَّة، لكنَّ الإدارة موجودة منذ وجود الدول والمجتمعات الإنساني؛ فكلُّ تجمُّعٍ إنسانيٍّ يُقيم على أرضٍ واحدةٍ له مصالح مشتركة، لا بُدَّ له من قيادةٍ ترعاه وتسوس أمره بالقدر الذي تتمتَّع به من الكفاءة والمقدرة الشخصية.
الإدارة العامَّة: هي فنُّ تنظيم وإدارة القوى البشريَّة والماديَّة لتحقيق الأهداف الحكومية، وهي جزءٌ لا ينفصل عن نشاط كلِّ جماعةٍ منظَّمةٍ وتُكوِّن جانبًا من عمل الحاكم، وتشمل كافَّة الواجبات والوظائف التي تختصُّ أو تتعلَّق بإدارة المشروع، من حيث تمويله ووضع سياسته الرئيسة وتوفير ما يلزمه من معدَّات وإعداد الإطار الذي يعمل فيه واختيار الرؤساء والأفراد القياديين؛ ذلك للوصول إلى الهدف بأحسن الوسائل وأقلِّ التكاليف في حدود الموارد المتاحة وبحسن استخدامها. فالإدارة إذًا تتكوَّن من جميع العمليَّات التي تستهدف تنفيذ السياسة العامَّة[2].
تطوُّر الإدارة العامَّة
ظهرت الإدارة الإسلامية بعد تأسيس الدولة في المدينة؛ حيث اكتملت أركانها بتوفُّر الأرض ووجود الشعب وقيام السلطة بأنواعها التشريعيَّة والقضائيَّة والتنفيذيَّة، متمثَّلة بشخص النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم القائد والمؤسِّس الأوَّل لدولة الإسلام، فكان يقضي بين الناس ويفتيهم، ويُنظِّم شؤون الدولة من واقع هيكلٍ تنظيميٍّ للوظائف المختلفة.
برزت في عهد أبي بكر رضي الله عنه الذي تسلَّم الحكم بعد وفاة النبيِّ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مشكلاتٌ سياسيَّةٌ وإداريَّةٌ بما واجهه من ارتداد العرب، واهتمامه بالقضاء على مظاهر تلك الرِّدَّة، بل إنَّه أنفذ جيش أسامة رضي الله عنه وبدأ بتنظيم الجيوش لمحاربة المرتدين. وبعد أن قضى على كلِّ مظهرٍ للرِّدَّة ورأب الصدع وثبَّت دعائم الدولة ووطَّد الأمن في أرجائها، وجَّه جيوش الفتوح إلى العراق وبلاد الشام.
استلم عمر رضي الله عنه إدارة الدولة بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه وقد أحاط بها الأعداء من كلِّ جانب وبخاصَّةٍ الدولتان الفارسية والبيزنطية، فانتدب الناس لمحاربتهما، وانتصر المسلمون عليهما وفتحوا العراق وفارس وبلاد الشام ومصر، فاتَّسعت بذلك رقعة الدولة، واختلط العنصر العربيِّ بالعنصر الأعجميِّ من سكان البلاد المفتوحة، وتدفَّقت الأموال على المدينة من الغنائم وغيرها ممَّا أدَّى إلى بروز مشكلاتٍ كثيرة تطلَّبت حلًّا، لعلَّ أهمَّها: إدارة الولايات خارج الجزيرة العربية، استمرار الفتوح أو توقُّفها ريثما يتمُّ استيعاب ما أُنجز منها، توزيع الغنائم على المقاتلين بعد تدفُّق الأموال الكثيرة، إدارة أراضي الفتح، وغيرها من المشكلات كتأسيس المدن في بعض الجهات على شكل معسكراتٍ كالكوفة والبصرة في العراق والفسطاط في مصر.
أمَّا اختلاط العنصر العربي بالعنصر الأعجمي فلم يُشكِّل مشكلةً حقيقية بخاصَّةٍ بعد إسلام هؤلاء إلَّا من حيث اللغة، فرأى عمر رضي الله عنه أن يقطن العنصر العربيِّ في المعسكرات المنشأة ليُحافظ على لغته وعاداته، وكان تدفُّق الأموال الكثيرة من الغنائم وغيرها قضيَّة جديدة تطلَّبت حلًّا مرنًا لتصريفها، فأنشأ عمر رضي الله عنه بيتًا خاصًّا للمال الوارد واختصَّ هو بمسئولية القيام عليه وتصريفه في وجوهه، ودوَّن الدواوين لذلك، وأمر بإنشاء دواوين في عواصم الولايات، وفرض الأعطيات فشمل العطاء كلَّ فردٍ في الدولة ابتداءً بقرابة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأزواجه وانتهاءً بكلِّ مسلم، وفرض لكلِّ مولودٍ وُلد في الإسلام عطاءً، وجعل ذلك كلَّه في ديوانٍ منظَّم، وحلَّ قضيَّة الأراضي المفتوحة من واقع إبقائها بيد أصحابها المحليين لكنَّه وضع الخراج عليها ليكون ذلك موردًا ماليًّا دائمًا لبيت مال المسلمين، ولمـَّا رأى عمر رضي الله عنه سرعة انتشار الفتوح قرَّر التوقُّف عند حدودٍ معيَّنةٍ ريثما يتمُّ استيعاب ما فُتح[3].
التقسيم الإداري للدولة
اتَّسعت الأراضي الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه اتساعًا كبيرًا ممَّا اقتضى وضع تنظيمٍ محكمٍ حتى تسهل إدارتها والإشراف على مواردها، والمعروف أنَّ الخطوة الأولى لنظام الحكم التي يتفرَّع منها جميع التنظيمات هي تقسيم الدولة إلى ولاياتٍ أو أقاليم، وعيَّن عمر أميرًا حاكمًا على كلِّ ولاية يتحمَّل تبعات الحكم ويكون نائبًا عنه. وبمضي الوقت أدرك أنَّ الولاة لا يستطيعون القيام بكلِّ الأعباء التي تتطلَّبها الولاية، ففصل القضاء عن اختصاص الولاة، وعيَّن قاضيًا على تلك الولايات، وكان يمدهم بتوجيهاته، وخصَّصهم بالأرزاق. وقد تنقسم الولاية أحيانًا إلى وحداتٍ محليَّة تتبع الوالي أو الأمير - كما كان يُطلق عليه- وكان نظام الولاية صورةً مصغَّرةً في هيكليَّته لنظام المدينة المنورة المركزي، فإلى جانب الوالي كان القاضي يتمتَّع بسلطةٍ واسعةٍ وغالبًا ما كانت له صفةٌ استقلاليَّة، ثُمَّ صاحب بيت المال، وصاحب الديوان المسئول المباشر عن مرتَّبات الجند، ولا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ حاكم الولاية هو في الوقت نفسه قائد الجيش فيها، وكان يختار أعوانه القادة، ويُشارك في الحملات العسكريَّة أو ينتدب ممثِّلًا عنه وذلك بالتنسيق مع الحكومة المركزيَّة في المدينة المنورة[4].
أقرَّ عمر رضي الله عنه النظم الفارسيَّة في ما يختصُّ بالتقسيمات الإداريَّة في العراق وفارس فأبقى عليها، وكانت هذه التقسيمات تُعرف بالرساتيق[5]، والواقع أنَّ الأراضي الفارسية كانت تنقسم إلى ثلاثة أقاليم كبيرةٍ باستثناء العراق هي: خراسان وأذربيجان وفارس، ثُمَّ قسَّم العراق إلى مصرين؛ أي ولايتين كبيرتين هما الكوفة والبصرة بعد تأسيسهما، كما أبقى على التقسيمات البيزنطيَّة في بلاد الشام، وكانت تُسمَّى نظام البنود[6]، وطبَّقه في بعض النواحي التي لم يكن موجودًا فيها من قبل، وعُرِف هذا النظام باسم الأجناد، كما أبقى على ما كان في مصر من نظام الكور[7]. أمَّا الجزيرة العربية وبخاصَّةٍ الحجاز ونجد فقد بقيت على ما كانت عليه، ولم يدخل عليها أيُّ تقسيمٍ جديد؛ ولعلَّ مردَّ ذلك يعود إلى قربها من عاصمة الدولة.
يبدو أنَّ عمر رضي الله عنه تصرَّف أحيانًا في التقسيم القديم، فكانت فلسطين تُعدُّ منذ العهد البيزنطيِّ إقليمًا واحدًا وتضمُّ عشر محافظات، وفي عام "15هـ/ 636م"، قسَّمها عمر إلى نصفين وجعل عاصمة إحداهما إيلياء والثاني الرملة، وولَّى علقمة بن محرز على الأولى وعلقمة بن حكيم على الثانية[8]، أمَّا مصر فلا نعلم يقينًا كيف كان تقسيمها قبل الفتح، لكنَّ عمر رضي الله عنه قسَّمها إلى ولايتين؛ المنطقة العليا وهي الصعيد وتضمُّ ثماني وعشرين محافظةً واستعمل عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح رضي الله عنه، والمنطقة السفلى وتضمُّ خمس عشرة محافظة وولَّى عليها حاكمًا آخر، وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه الحاكم العام على مصر، ويذكر ابن عبد الحكم أنَّه عندما تُوفِّي عمر رضي الله عنه كان على مصر أميران: عمرو بن العاص بأسفل الأرض، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح على الصعيد[9].
ولنأخذ التقسيم الإداري لبلاد الشام كنموذجٍ يُمكن تطبيقه على سائر الولايات مع شيءٍ من التعديل يتعلَّق بخصوصية كلِّ إقليم؛ ذلك لأنَّ الجبهة البيزنطيَّة استمرَّت ناشطةً برًّا وبحرًا في حين قضى المسلمون بشكلٍ نهائيٍّ على الإمبراطوريَّة الفارسيَّة ولم تعد لها بعد ذلك قائمة، فبالمقارنة مع نظام البنود البيزنطي فإنَّ هذه كانت أوسع من الأجناد[10]، وهذا النظام ليس إلَّا تطبيقًا لما أقامه هرقل في آسيا الصغرى؛ حيث قسَّم الأراضي التي لم تحتلَّها قوى أجنبيَّة إلى مناطق عسكريَّة كبيرة وُضعت تحت إدارة قادة عسكريين يتمتَّعون بصلاحيات الحكَّام الإداريين، وقد استوحى عمر رضي الله عنه ما كان البيزنطيون قد بدأوا بتطبيقه في عهد هرقل من نظام البنود في آسيا الصغرى، إلا إنَّ الضرورات العسكريَّة هي التي أوجبت عليه هذا التقسيم؛ فالسَّاحل الشاميِّ طويلٌ، وبلاد الشام كانت لا تزال مهدَّدةً برًّا وبحرًا من قِبَل البيزنطيِّين، فكان لا بُدَّ من إيجاد مراكزٍ عسكريَّةٍ متعدِّدةٍ لكي يتمكَّن كلُّ جندٍ من الدفاع عن المدن الساحلية التابعة له؛ فقد كانت عِرقة وجبيل وصيدا وبيروت وطرابلس تابعةً لجند دمشق[11]، أمَّا اللاذقيَّة وجبلة وبانياس وأنطرطوس فكانت تابعةً لجند حمص[12]، وتبعت صور وعكا جند الأردن[13]، وقيساريَّة ويافا وعسقلان وغزَّة جند فلسطين[14]، ويضمُّ كلُّ جندٍ منطقةً ساحليَّةً وأخرى داخليَّة، بشكلٍ تستطيع معه كلُّ منطقةٍ أن تعتمد على الأخرى عسكريًّا واقتصاديًّا، وبما أنَّه لم يكن للمسلمين في ذلك الوقت قوَّةٌ بحريَّةٌ قادرةٌ على حماية السواحل فإنَّ مراكز الأجناد كلَّها كانت مدنًا داخليَّةً، مثل: حمص، دمشق، اللد، طبريَّة[15].
الموظَّفون الإداريُّون
الهيكل التنظيميُّ للموظَّفين
كان الوالي -أي حاكم الولاية أو الإقليم- يأتي في المقام الأول، ثُمَّ يأتي بعده على غير التراتبيَّة الكاتب؛ أي كاتب في ديوان الجيش، وصاحب الخراج، وصاحب الأحداث "الشرطة"، وصاحب بيت المال، والقاضي، وهم جميعًا تحت إمرة الوالي ويعملون تحت إدارته، نذكر مثالًا على ذلك أنَّ عمَّار بن ياسر كان واليًا على الكوفة، وعثمان بن حنيف صاحب الخراج، وعبد الله بن مسعود صاحب بيت المال، وشريحًا قاضيًا، وعبد الله بن خلف الخزاعي كاتبًا للدِّيوان[16]، ووُجِدَ أحيانًا قائدٌ للجيش في كلِّ ولايةٍ على الرغم من أنَّ الوالي كان مكلَّفًا بهذه المهمَّة في معظم الأوقات، ولم تكن إدارة الأحداث مستقلَّةً في جميع الولايات؛ فكثيرًا ما كان صاحب الخراج أو الوالي يقوم بهذه الخدمة، ففي الوقت الذي كان فيه عمَّار بن ياسر واليًا للكوفة أُسندت إليه إدارة الأحداث، وكان قدامة بن مظعون وهو صاحب الخراج في البحرين يتولَّى هذه المهمَّة، أمَّا إدارة الوالي فقد كانت مستقلَّة وتشمل عددًا من الموظَّفين يُعيِّنهم الخليفة عادةً، فعندما ولَّى عمر رضي الله عنه عمَّار بن ياسر رضي الله عنه على الكوفة أمدَّه بعشرةٍ من الإداريين من أكفاء الرجال كان من بينهم قرظ الخزرجي، أمَّا الكاتب فكان جديرًا في الإنشاء والخطابة، فعندما كان أبو موسى الأشعري واليًا على البصرة كان عمر يعجب لبلاغة كاتبه زياد بن سمية ويتعجَّب لفصاحته.
يتم اختيار الموظَّفين ضمن الإطار الديني، بالإضافة إلى الصِّفات الحميدة مثل: الصدق والأمانة والكفاءة واليقظة، وكان عمر رضي الله عنه على معرفةٍ بكنه الرجال الذين تتوفَّر فيهم شروط التعيين، وكان هناك أربعة رجالٍ عُرفوا بدهاة العرب وهم: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن سمية رضي الله عنهم، وقد عهد عمر رضي الله عنه إلى الثلاثة الأوائل بأكبر مناصب الدولة، وعيَّن عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه كاتبًا وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد استحسن كتابته.
عندما عقد عمر رضي الله عنه مجلس الشورى للنظر في أمر نهاوند طلب الرأي من الحاضرين في اختيار الرجل الذي يُرسل ليقود المعركة، قال الحاضرون: "إنَّ المعرفة التي لديك لا تتوفَّر لأحدٍ فينا، وأنت قدَّرت مؤهلاتنا وقدراتنا، ولم يستطع أحدٌ أن يُقدِّرها"، عندئذ سمَّى عمرُ رضي الله عنه النعمانَ بن مقرِّن، واعترف الجميع بحسن الاختيار.
عمل عمر رضي الله عنه بمبدأ الإنابة؛ إنابة رجالٍ لبعض الولاة بحضورهم، وهذه ظاهرةٌ مهمَّةٌ في ميدان السياسة والإدارة؛ فقد عيَّن السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي نائبًا لعبد الله بن عتبة على سوق المدينة[17]، وكان عبد الله بن عبد الله بن عتبان نائبًا لسعد بن أبي وقاص على الكوفة[18].
الوالي
شروط تعيين الوالي
إنَّ أُولى بوادر التنظيم الإداري من حيث تعيين الموظَّفين تعيينُ أبي بكر الصديق القادة الذين أرسلهم لفتح بلاد الشام ولاةً على المناطق التي كُلِّفوا بفتحها؛ فقد ولَّى عمرو بن العاص على فلسطين، وشرحبيل بن حسنة على الأردن، ويزيد بن أبي سفيان على دمشق، وأبا عبيدة بن الجراح على حمص، وإنَّه إذا حدث قتالٌ فأميرهم هو الذي يكونون في عمله[19]، وأمر عمرًا رضي الله عنه مشافهةً أن يُصلِّي بالنَّاس إذا اجتمعوا، وإذا تفرقوا صلَّى كلُّ أميرٍ بأصحابه، وأمر الأمراء أن يعقدوا لكلِّ قبيلةٍ لواءً يكون فيهم[20]، لكن نلاحظ توحيدًا للقيادات بعد ذلك عندما جاء خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بلاد الشام مددًا للمسلمين هناك، واستمرَّ هذا التوحيد في خلافة عمر رضي الله عنه الذي جمع الشام كلَّه في السلم والحرب لأبي عبيدة بن الجراح نظرًا لمكانته وعظيم ثقته به[21]، وعمد أبو عبيدة أثناء عملية الفتوح إلى تعيين والٍ على كلِّ مدينةٍ صالحه أهلها وضمِّ جماعةٍ من المسلمين إليه، ويتمتَّع الوالي بصلاحيَّاتٍ عسكريَّة ومدنيَّة واسعة بوصفه رأس الهرم التنظيميِّ في ولايته؛ فهو الذي يًوجِّه القادة، ويُعيِّن العمَّال على الكور، ويُوافق على عقود الصلح التي يبرمها قادته[22].
يعتمد أسلوب عمر رضي الله عنه في اختيار الولاة على توفُّر عدَّة صفاتٍ في المرشَّح في ما سُمِّي بالشروط العمرية، لعلَّ أهمَّها[23]:
- القوَّة والقدرة المؤهِّلة للنهوض بالعمل المسند إلى المكلَّف به، ويقول في ذلك: "إني لأتحرَّج أن أستعمل الرجل وأنا أجد أقوى منه". فعندما عزل شرحبيل بن حسنة عن ولاية الشام وأسندها إلى معاوية، قال له الأوَّل: "أعن سُخطةٍ يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، إنَّك لكما أحبُّ، ولكنِّي أريد رجلًا أقوى من رجل"[24].
- الرحمة والرأفة بالناس؛ فكان عمر رضي الله عنه لا يُولِّي الرجل الذي يُخشى من شدَّته على الرعيَّة لفقدان الرحمة.
- أن لا يكون من آل النبيِّ ولا من أكابر الصحابة؛ ذلك لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يُولِّيهم شيئًا من ذلك؛ إنَّه لا يريد أن يُدنِّسهم بالعمل، فقد يرتكبون أخطاءً لا يُمكن السكوت عليها فيقع الخليفة في الحرج من واقع إنزال العقاب المناسب بهم، وذلك لا يُريده، أمَّا السكوت عن تجاوزاتهم وأخطائهم فهو أشدُّ على عمر رضي الله عنه، ثُمَّ هناك الحاجة إلى مشورتهم وفقههم، لذلك فإنَّه لم يولِّ عثمان بن عفان أو عليَّ بن أبي طالب أو عبد الرحمن بن عوف أو العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهم وغيرهم[25].
- أن لا يكون المرشح حريصًا على الولاية، فقد أُثر عن عمر رضي الله عنه أنَّه أراد تولية رجلٍ على ولاية فجاء الرجل يطلبها، فتوقَّف عمر رضي الله عنه عن ذلك ولم يُولِّه؛ مقتديًا بذلك بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّه كان لا يُولِّي أمرًا من طلبه ولو كان قادرًا؛ فطالب الولاية لا يًولَّى[26].
- كان عمر رضي الله عنه يستشير إذا أراد أن يُولِّي قائدًا أو أميرًا، من ذلك عندما ولَّى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قيادة جيش المسلمين في العراق استشار الناس فأشاروا عليه بسعدٍ رضي الله عنه[27]، وكذلك حين أراد أن يُولِّي قائدًا على أوَّل جيش يبعث به إلى العراق مددًا للمقاتلين هناك، وبعد الاطلاع على مختلف الآراء اختار أبا عبيدٍ الثقفي رضي الله عنه، وهكذا نجد أنَّ عمر رضي الله عنه كان قدوةً في اختيار الولاة فيُولِّيهم ويعزل من يستحقُّ العزل ويُثبِّت مَنْ يستحقُّ ذلك.
- حرص عمر رضي الله عنه على اختيار ولاته، فإذا حدث أن اختار أحد الأشخاص يُعطيه عهد التعيين الذي يتضمَّن شروطًا سلوكيَّةً مشهودًا عليها ليُنفِّذها خلال ولايته، وأهمَّها تطبيق حكم الله، وإحلال العدل، ونشر الأمن والطمأنينة بين الناس، وأن لا يركب برذونًا، ولعلَّ هذا المنع يعود إلى الصفات الخِلْقِيَّة لهذه الدابة التي تبعث على الخُيَلاء والكِبْر التي خشيها عمر على نفسه فكيف على ولاته؛ وذلك خشيةً عليهم من الوصول إلى الخيلاء والكبر التي قد تُصبح صفةً خُلُقِيَّة للوالي، وبخاصَّةٍ أنَّ له تجربةً سابقةً عندما قَدِم إلى بلاد الشام[28]، ومنعهم من لبس الرقيق؛ ذلك بفعل حرصه على محافظة العمال على الأخلاق الإسلاميَّة الرفيعة في المظهر، والمعروف أنَّ لبس الرقيق من الثياب له دلالة على الإسراف والتميُّز على الناس، وإذا حصل ذلك فإنَّه يُؤدِّي إلى تعالي الحكَّام على غيرهم وحقد الرعيَّة عليهم، ومنعهم –أيضًا- من أكل النقيِّ من الدقيق؛ ذلك لحرص عمر رضي الله عنه على مساواة الحكَّام بالمحكومين في المأكل والمشرب، ومنعهم –أيضًا- من إغلاق بابهم دون حوائج الناس، واتِّخاذ حاجبٍ يكون حاجزًا بينهم وبين الرعيَّة يحجبهم متى شاء ويُدخلهم متى شاء، وقد يميل الوالي إلى الدَّعة ويعتاد على حجب النَّاس ممَّا قد يًؤدِّي إلى حرمان هؤلاء من الاستفادة من الوقت والشعور بقرب الحاكم وتفهُّمه لقضاياهم[29].
- نهى عمَّاله عن ممارسة أيِّ عملٍ آخر والتفرُّغ فقط لشئون الحكم؛ ذلك حتى لا يشغله العمل الخاصُّ عن عمله العام ممَّا يُعدُّ خسارة على الوالي والمجتمع، وكان حريصًا على إغنائهم عن العمل الخاص.
تعيين مراقب على عمل الولاة
نتيجة لاتساع رقعة الدولة الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه وازدياد عدد ولاياتها، أضحى من الصعب الإحاطة بكلِّ ما يجري في كلِّ ولاية، ولمـَّا كان عمر حريصًا على أن يقف على دقائق الأمور في تصرُّف ولاته وما كان يجري في كلِّ ولاية، اختار رجلًا من خيرة رجاله تقوى وقوَّةً وأمانةً وسنًّا وتجربةً، هو محمد بن مسلمة الأنصاري ليكون مراقبه الخاص على العمال وأعمالهم والنظر في الشكاوى المرفوعة لهم، ويذكر أبو يوسف: "فدعا -أي عمر- محمَّد بن مسلمة وكان رسوله إلى العمَّال، فبعثه وقال: إئتيني به؛ أي بالوالي الذي خالف الشروط وهو عياض بن غنم، على الحال الذي تجده عليها. قال: فأتاه فوجد على بابه حاجبًا، فإذا عليه قميصٌ رقيق، قال: أجب أمير المؤمنين، قال: دعني أطرح عليَّ قبائي. قال: لا إلَّا على حالك هذه. فقدم به عليه؛ أي على عمر في المدينة"[30].
محاسبة الوالي
كان عمر رضي الله عنه يُحاسب عمَّاله عن أخطائهم، وبخاصَّةٍ تلك التصرُّفات التي تدلُّ على الفخر والتميُّز والتعالي وهدر الأموال العامَّة، وهذا الموقف نابعٌ من واقع موقفه من الأمَّة الإسلاميَّة حيث كانت الأمَّة في نظره -أي جماعة المسلمين- متساوين في الحقوق والواجبات، فإذا برزت مؤشِّراتٌ تدلُّ على سوء تصرُّف الوالي يستدعيه إلى المدينة مثلما حدث مع أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه حاكم البصرة عندما رُفعت شكوى ضدَّه، فاستدعاه عمر رضي الله عنه وحقق معه بنفسه[31]، وكان يحصي وضع العامل الماليِّ وقت إرساله ثُمَّ يُشاطره ماله وقت عزله إذا زاد رأس ماله بشكلٍ يُثير الشبهة، وكان يقول لعمَّاله: "نحن إنَّما بعثناكم ولاةً ولم نبعثكم تجَّارًا". على أنَّ هذه الشدَّة في محاسبة الولاة لم يكن يُقصد منها إضعاف سلطتهم؛ فقد كانت لهم الحريَّة المطلقة في إصدار الأحكام وتنفيذها، وسلطاتهم مساوية لسلطات عمر بن الخطاب ما لزموا العدل، فإذا اعتدى عليهم معتدٍ أو استهان أحدٌ بهم عُوقب بشدَّة، ثُمَّ إنَّه كان يسمع لحجَّة عامله فإذا أقنعته لم يُخفِ اقتناعه بها ويُثني عليه بعدها، لقد قَدِم إلى الشام راكبًا حمارًا فاستقبله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في موكبٍ فخمٍ مهيب، ونزل معاوية وسلَّم على عمر رضي الله عنه بالخلافة، فمضى في سبيله ولم يردَّ عليه السلام، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "أتعبت الرجل يا أمير المؤمنين؛ فلو كلَّمته! فالتفت عمر إلى معاوية رضي الله عنهما، وسأله: إنَّك لصاحب الموكب الذي أرى؟ قال معاوية رضي الله عنه: نعم! قال عمر رضي الله عنه: مع شدَّة احتجابك ووقوفك ذوي الحاجات ببابك؟ قال معاوية رضي الله عنه: نعم! قال: ولِمَ! ويحك؟ وأجابه معاوية رضي الله عنه: لأنَّنا ببلادٍ كثر فيها جواسيس العدو، فإن لم نتَّخذ العدَّة والعدد استخفَّ بنا وهجم علينا، وأمَّا الحجاب فإنَّنا نخاف من البِذلة جرأة الرعيَّة، وأنا بعد عاملك فإن استنقصتني نقصت، وإن استزدتني زدت، وإن استوقفتني وقفت". قال عمر رضي الله عنه: يا معاوية ما سألتك إلَّا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقًّا إنَّه لرأيٌ أريت، ولئن كان باطلًا إنَّه لخديعةٌ أدَّيت، قال: فمرني يا أمير المؤمنين بما شئت، قال: لا آمرك ولا أنهاك"[32].
كان عمر رضي الله عنه يجمع عمَّاله بمكَّة في موسم الحج من كلِّ عام يسألهم عن أعمالهم، ويسأل النَّاس عنهم ليرى مدى دقَّتهم في الاضطلاع بواجبهم وتنزُّههم حين أدائه لأنفسهم أو لذويهم، وكان يغتبط حين يرى عمَّاله يتجرَّدون لخير الرعية، ويثني عليهم لذلك ثناءً عظيمًا.
وفق رؤيةٍ كهذه كانت السلطة الفعليَّة تتطابق عمليًّا مع الإدارة الجماعيَّة والمصالح الجماعيَّة للأمة، ولم تكن الإمارة إلَّا وسيلةً لتحقيق هذه الإرادة وتدبير تلك المصالح الجماعيَّة[33]، وهكذا فالإمارة ليست بنظر عمر رضي الله عنه وفي سلوكه سيادةً وملكًا؛ وإنَّما تفويضٌ وتوكيلٌ من الجماعة التي تبقى صاحبة الأمر، لذلك كان يعزل الوالي إذا أخلَّ بشروط التفويض الخاصِّ به من واقع تغليب المصلحة العامَّة، ولنا في عزل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن ولاية العراق مثلٌ على ذلك وإن كان يشوب التهم الموجَّهة إليه عدم الوضوح[34].
تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، لمحمد سهيل طقوش.
ـــــــــــــــ
[1] ابن منظور: لسان العرب: ج4 ص229.
[2] القريشي، غالب بن عبد الكافي: أوليَّات الفاروق في الإدارة والقضاء: ج1 ص53، 45.
[3] انظر القريشي: ج1 ص79-84.
[4] بيضون: 96.
[5] الرساتيق جمع رستاق، وهي مشتقة من اللفظ الفارسي روستا بمعنى حي أو قرية.
[6] نظام البنود البيزنطية أو ما يُسمَّى Them، وتعني فرقة من الجيش تُعسكر في إقليم،
ولم يتسع معناها للدلالة على الأقاليم نفسها إلَّا في وقتٍ متأخر، انظر: رنسيمان، ستيفن:
الحضارة البيزنطية: ص97. ترجمة عبد العزيز جاويد مكتبة النهضة المصرية 1961.
[7] نظام الكور، مفردها كورة، وهي لفظة يونانية. curia ومعناها المركز.
[8] الطبري: ج3 ص610.
[9] فتوح مصر وأخبارها: ص298.
[10] المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين: التنبيه والإشراف: ص150.
[11] الهمذاني المعروف بابن الفقيه: كاتب صورة الأرض: ص156.
[12] المصدر نفسه: ص161.
[13] البلاذري: ص124.
[14] المصدر نفسه: ص146-148.
[15] خماش، نجدة: الإدارة ونظام الضرائب في الشام في عصر الراشدين: ص415. مقال في
كتاب بلاد الشام في صدر الإسلام، المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام 1987.
[16] الطبري: ج4 ص145، وابن خلكان: ج2 ص83، 84.
[17] الإمام الشافعي: الأم: ج4 ص125.
[18] ابن كثير: ج7 ص112.
[19] البلاذري: ص116، 117، وقارن بالطبري: ج3 ص390.
[20] البلاذري: ص117.
[21] المصدر نفسه: ص123.
[22] المصدر نفسه: ص152.
[23] انظر: القريشي: ج1 ص294-302.
[24] الطبري: ج4 ص64، 65.
[25] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر: ج2 ص321، 322.
[26] انظر صحيح مسلم بشرح النووي: ج2 ص207، 208.
[27] الطبري: ج3 ص480-482.
[28] ابن الأثير: ج2 ص330، 331.
[29] أبو يوسف: ص116.
[30] المصدر نفسه.
[31] الطبري: ج4 ص184، 185.
[32] ابن كثير: ج8 ص124، 125.
[33] إبراهيم: ص220.
[34] الطبري: ج4 ص121.