تُعدُّ المؤسَّسة الإداريَّة أو النظام الإداريُّ الذي أسَّسه عمر رضي الله عنه النواة الأساسيَّة لكيان الأمَّة الإسلاميَّة الاجتماعيِّ والسياسيِّ في عهده، وأوَّل أشكال الإدارة العربيَّة الجديدة المتأثِّرة بالتجربة المتقدِّمة لشعوب البلدان المفتوحة أو المجاورة لها، وقد كان ذلك أحد أبرز الدوافع التي ساهمت في خلق إدارةٍ ماليَّةٍ تعمل على تنظيم عائدات الخلافة، وتوزيعها وِفْق جداولٍ ثابتةٍ على نحو تخرج معه هذه المؤسَّسة من دائرتها الضيِّقة في الإطار العام الشامل[1]، وذلك في ما يُعرف بالديوان.

كلمة ديوان فارسيَّة معرَّبة معناها السجل أو الجدول، على أنَّ للكلمة مضمونًا أوسع في اللغة العربية؛ إذ يُصبح الديوان مترادفًا مع الجهاز الإداري المنوط به تنفيذ أعمال الدولة الإداريَّة والماليَّة والعسكريَّة، كما تُطلق هذه الكلمة على المكان التي تُحفظ فيه سجلَّات الدولة، ثُمَّ صارت تُطلق على الأمكنة التي يجلس فيها أفراد الجهاز الإداري، ولم تتعدَّ في عهد عمر رضي الله عنه معناها الأوَّل؛ فالديوان هو سجلٌ أُحصي فيه مَنْ فُرِض لهم العطاء من رجال الجيش ومن غيرهم، وذُكر فيه أمام كلِّ اسمٍ عطاء صاحبه[2]، وعَرَّف الماوردي الديوان بأنَّه موضعٌ لحفظ ما يتعلَّق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمَّال[3].

يُقدِّم لنا الماورديُّ عرضًا مكثَّفًا لجملة الروايات الأساسية المتعلقة بديوان عمر رضي الله عنه، موضِّحًا الفروق والتباين فيما بينها، لذلك فإن عرضه يُعطينا لمحةً عامَّةً عن تاريخ الديوان وتركيبه[4].

ديوان العطاء

تتباين روايات المصادر في توضيح أسباب وظروف وضع ديوان العطاء على يد عمر رضي الله عنه، وكذلك يتمُّ تقديم عدَّة تواريخ لوضعه، ولكن بما أنَّ وظيفة الديوان وبنيته وطابعه ترتبط بظروف نشأته وتأسيسه، فلا بُدَّ لنا من البحث عن السنة الفعليَّة التي اتَّخذ فيها الخليفة قراره بوضع الديوان، وتذكر المصادر تاريخين يُمكن أخذها على محمل الجدِّ والاهتمام والبحث في ملابساتهما.

فقد حدَّد الطبري سنة "15هـ/ 636م" كتاريخٍ لوضع الديوان على يد عمر رضي الله عنه فقال: "وفي هذه السنة فرض عمر للمسلمين، ودوَّن الدواوين، وأعطى العطايا على السابقة"[5]. في حين حدَّد البلاذري سنة "20هـ/ 641م"، فقد ذكر "لمـَّا أجمع عمر على تدوين الديوان وذلك في المحرَّم سنة عشرين..."[6]، ولكن جميع الروايات تتَّفق حول نقطةٍ جوهريةٍ وهي أنَّ كثرة تدفُّق الأموال على المدينة المنورة من فتوح الأمصار، كانت السبب الذي دعا عمر رضي الله عنه إلى وضع الديوان.

المعروف أنَّ السنوات الثلاث الأولى من خلافة عمر رضي الله عنه أي بين سنة "14-16هـ/ 635-637م"، اتَّسمت بطابع الغزوات التقليدية؛ حيث كانت الغنائم تُوزَّع بالتساوي على القوى المقاتلة بعد رفع الخُمُس للخليفة، ولهذا لم تكن هناك حاجة إلى القيام بتأسيس نظامٍ لتوزيع وإدارة الفيء المكتسب والأموال المغنومة[7].

تنامت مع المدَّة منذ بدايات الغزو المنسق للفتوح والاستقرار -أي منذ عام "17هـ/ 638م"- كميَّة الأموال المخموسة المتدفقة على المدينة تناميًا شديدًا؛ نتيجة فتوح أراضي الفرس والبيزنطيين، وكانت مقدارًا عظيمًا.

تتكرَّر في المصادر رواية عن خمس البحرين الذي كان سببًا لتأسيس الديوان، يقول الماورديُّ: "واختلف الناس في سبب وضعه له، فقال قومٌ: سببه أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه قدم عليه بمالٍ من البحرين، فقال له عمر رضي الله عنه: ماذا جئت به؟ فقال: خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر، فقال: أتدري ما تقول؟ قال: نعم مائة ألفٍ خمس مرَّات، فقال عمر: أطيِّبٌ هو؟ فقال: لا أدري، فصعد عمر رضي الله عنه المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيُّها الناس قد جاءنا مالٌ كثيرٌ، فإن شئتم كلنا لكم كيلًا، وإن شئتم عددنا لكم عدًّا، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت الأعاجم يُدوِّنون ديوانًا لهم فدوِّن أنت لنا ديوانًا"[8]. الواضح أنَّ توزيع الأموال في المدينة كان يزداد صعوبةً مع تنامي حجم هذه الأموال المتدفِّقة.

ذكر الجاحظ أنَّه لما وضع عمر رضي الله عنه الديوان قام إليه أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام رضي الله عنهما فقالا: "يا أمير المؤمنين، أديوانٌ كديوان بني الأصفر، إنَّك إن فعلت ذلك اتَّكل الناس على الديوان وتركوا التجارات والمعاش، فقال عمر: قد كثر الفيء والمسلمون"[9].

هذه نظرةٌ سليمةٌ للأمور؛ إذ عندما توقَّف اندفاع الفتوح واشتراك غير العرب فيه، وذلك بعد أن انتقلت العاصمة من المدينة المنورة إلى دمشق ثُمَّ إلى بغداد، تراجع العطاء الذي كان مفروضًا لأهل الجزيرة العربية، فنشأ جيلٌ على البطالة لم يستسغ العمل في التجارة والسعي إلى الرزق، فتراجعت بالتالي مقدرة الحجاز الاقتصادية، والواقع أنَّ عمر رضي الله عنه أدرك هذه الظاهرة ولم تغب عن تفكيره وربَّما توقَّع حدوثها في المستقبل، لذلك كان يحثُّ النَّاس على العمل والسعي والاستكثار من الرزق، كما كان شديد الحساسية ضدَّ أولئك الذين يظهرون الإعراض عن الدنيا تعبُّدًا وزهدًا.

يمدُّنا ابن الطقطقي بمعلوماتٍ مفيدةٍ أثناء شرحه لكيفيَّة تدوين الدواوين في الإسلام: "وكان المسلمون هم الجند، وكان قتالهم لأجل الدين لا لأجل الدنيا... لكنَّهم كانوا إذا غزوا وغنموا أخذوا نصيبًا من الغنائم قرَّرته الشريعة لهم، وإذا ورد إلى المدينة مالٌ من بعض البلدان أُحضر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفُرِّق فيهم حسب ما يراه صلى الله عليه وسلم، وجرى الأمر على ذلك مدى خلافة أبي بكر رضي الله عنه... فلمَّا كانت سنة خمس عشرة للهجرة وهي خلافة عمر رضي الله عنه رأى أنَّ الفتوح قد توالت، وأنَّ كنوز الأكاسرة قد ملكت، وأنَّ الأحمال من الذهب والفضة والجواهر النفيسة والثياب الفاخرة قد تتابعت، فرأى التوسيع على المسلمين، وتفريق تلك الأموال فيهم، ولم يكن يعرف كيف يصنع وكيف يضبط ذلك، وكان بالمدينة بعض مرارزبة الفرس، فلمَّا رأى حيرة عمر رضي الله عنه قال له: يا أمير المؤمنين إنَّ للأكاسرة شيئًا يُسمُّونه ديوانًا، جميع دخلهم وخرجهم مضبوطٌ فيه لا يشذ منه شيء، وأهل العطاء مرتَّبون فيه مراتب لا يتطرَّق عليها خلل، فتنبَّه عمر رضي الله عنه وقال: صفه لي، فوصفه المرزبان، ففطن عمر لذلك ودوَّن الدواوين وفرض العطاء، فجعل لكلِّ واحدٍ من المسلمين نوعًا مكرَّرًا"[10] فإذا كانت ضرورة توزيع وضبط الغنائم الواردة على المدينة السبب في وضع الديوان، فهذا يستتبع تحديد سنة وضعه بالخامسة عشرة للهجرة.

تُصوِّر الروايات أنَّه وُضع دفعةً واحدة، لكنَّ الواضح أنَّه تطوَّر مع تنامي الفتوح واستقرار المسلمين في الأمصار، وهذا يعني أنَّ بدايته في السنة الخامسة عشرة للهجرة كانت تخصُّ المدينة وحدها دون المسلمين في البلاد المفتوحة، لكنَّ فتوح القادسية والمدائن بدَّلت الأوضاع التي انعكست على بناء الديوان ووظيفته[11]؛ إذ إنَّ إعادة تعريف الناس التي تضمَّنت تحديدًا لعطاءات المقاتلة حسب طبقاتهم قد حدثت في السنة السابعة عشرة للهجرة، فيُمكننن أن نستنتج أنَّ تحويل الديوان من إجراءٍ تنظيميٍّ خاصٍّ بتوزيع الخمس القادم على المدينة إلى وسيلةٍ تنظيميَّةٍ مركزيَّة لضبط عملية توزيع غنائم الأمصار المفتوحة على المقاتلة قد حدثت عمليًّا في السنة السادسة عشرة للهجرة، بدليل أنَّ التبدُّل النوعيِّ من الغارة التقليديَّة إلى الفتح المنظَّم قد حدث في هذه السنة كنتيجةٍ لفتوح القادسيَّة والمدائن. والمعروف أنَّ تدوين الديوان لا يُمكن أن يعتمد على الفيء الذي يرد من الغزو؛ لأنَّه موردٌ غير ثابت، والديوان مصروفٌ سنويٌّ ثابت، لا بُدَّ إذًا أنَّه اعتمد على الجزية والخراج، ولم تبلغ الجزية ولم يبلغ الخراج الذي يسع عطاء المسلمين جميعًا في عام 15هـ[12]، وهذا ما تُشير إليه رواية الطبري التالية: "قالوا: فرض عمر العطاء حين فرض لأهل الفيء الذين أفاء الله عليهم -وهم أهل المدائن- فصاروا بعد إلى الكوفة، انتقلوا عن المدائن إلى الكوفة والبصرة ودمشق وحمص والأردن وفلسطين ومصر، وقال: الفيء لأهل هؤلاء الأمصار ولمن لحق بهم وأعانهم، وأقام معهم ولم يُفرض لغيرهم، ألا فيهم سُكنت المدائن والقرى، وعليهم جرى الصلح، وإليهم أدى الجزاء، وبهم سُدَّت الفروج وُدِّوخ العدو، ثُمَّ كتب في إعطاء أهل العطاء أعطياتهم إعطاءً واحدًا سنة خمس عشرة"[13].

الواضح أنَّ الطبري ومن نقل عنه، لم يُراعوا الفارق الزمنيَّ البسيط بين وضع الديوان وبين فرض العطاء على المقاتلة في البلاد المفتوحة، مهملين التطورات النوعيَّة المهمَّة التي حدثت في السنتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة للهجرة؛ فالطبريُّ يُرجع تأسيس الديوان إلى السنة الخامسة عشرة للهجرة ويُؤرِّخ للفتوح التي تلت القادسية وفتوح المدائن في أوائل السنة السادسة عشرة للهجرة، ويبدو واضحًا أنَّه يُؤرِّخ لجملة هذه التطورات على أنَّها تغيُّرٌ واحد رمزه وعلاقته ديوان عمر رضي الله عنه[14].

يربط البلاذري فرض العطاء باستقرار فتوح العراق والشام "كما افتتح عمر العراق والشام وجبى الخراج جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنِّي قد رأيت أن أفرض العطاء لأهله، فقالوا: نعم رأيت الرأي يا أمير المؤمنين..."[15]، فعلى خلفيَّة كثرة الفيء وكثرة عدد المسلمين المشاركين في الفتوح جاء ديوان عمر رضي الله عنه ليعطي كلَّ فردٍ مقاتلٍ نصيبه منه، فكان إحصاء الناس وتصنيفهم إلى فئاتٍ متعددةٍ طبقًا لقِدَمهم في الإسلام، وفضلهم في الفتوح، المحتوى الاجتماعي الأساسي لديوان عمر رضي الله عنه.

هكذا فإن القاعدة التي اتُّخذت مقياسًا لتوزيع العطاء كانت لها خلفياتٌ متَّصلةٌ بمبدأ العقيدة التي هي جوهر المجتمع، وتبدو واضحةً في قوله: "ما من الناس أحدٌ إلَّا له في هذا المال حق، أُعْطِيَهُ أو مُنِعَهُ، وما من أحدٍ أحقُّ به من أحد إلَّا عبد مملوك، وما أنا فيه إلَّا كأحدهم، ولكنَّا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقِدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيت ليأتينَّ الراعي بجبل صنعاء حظُّه من هذا المال وهو مكانه"[16]. وقد قرَّر الخليفة تقدُّم بني هاشم أسرة النبي صلى الله عليه وسلم على غيرهم في العطاء، ثُمَّ أخذ بمبدأ الأسبقيَّة في الإسلام والمشاركة في أحداثه التاريخيَّة البارزة لا سيما المعارك الأولى كبدرٍ وأُحُد، وبقيَّة المعارك الكبرى في العراق وبلاد الشام.

عندما استشار عمر بن الخطاب المسلمين في تدوين الديوان قال له عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "تُقسِّم كلَّ سنةٍ ما اجتمع إليك من المال ولا تمسك منه شيئًا. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: أرى مالًا كثيرًا يتبع الناس، فإن لم يحصوا حتى يُعرف من أخذ ممَّن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر، فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة : يا أمير المؤمنين قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دوُّنوا ديوانًا، وجنَّدوا جندًا، فدوِّن ديوانًا، وجنِّد جندًا. فأخذ بقوله، فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من نسَّاب قريش، فقال: اكتبوا النَّاس على منازلهم فكتبوا، فبدأوا ببني هاشم، ثُمَّ اتبعوهم أبا بكر وقومه، ثُمَّ عمر وقومه على الخلافة، فلما نظر فيه عمر قال: لوددت والله أنَّه هكذا، ولكن ابدأوا بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله"[17].

روى الطبريُّ: "ولمـَّا أراد عمر وضع الديوان، قال له عليٌ وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما: ابدأ بنفسك، قال: لا، بل أبدأ بعمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ الأقرب فالأقرب، ففرض للعبَّاس رضي الله عنه وبدأ به، ثُمَّ فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، ثُمَّ فرض لمن بعد بدرٍ إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف، ثُمَّ فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر رضي الله عنه عن أهل الرِّدَّة ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، في ذلك من شهد الفتح وقاتل عن أبي بكر رضي الله عنه، ومن ولى الأيام قبل القادسية، كل هؤلاء ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، ثُمَّ فرض لأهل القادسية وأهل الشام ألفين ألفين، وفرض لأهل البلاد البارع منهم ألفين وخمسمائة ألفين وخمسمائة، فقيل له: لو ألحقت أهل القادسية بأهل الأيَّام! فقال: لم أكن لأُلحقهم بدرجة من لم يدركوا، وقيل له: قد سوَّيت من بَعُدت داره بمن قربت داره وقاتلهم عن فنائه، فقال: من قربت داره أحقُّ بالزيادة؛ لأنَّهم كانوا ردءًا للحوق وشجًى للعدو، فهلَّا قال المهاجرون مثل قولكم حين سوَّينا بين السابقين منهم والأنصار! فقد كانت نُصرة الأنصار بفنائهم، وهاجر إليهم المهاجرون من بعد، وفرض لمن بعد القادسية واليرموك ألفًا ألفًا، ثُمَّ فرض للروادف: المثنى خمسائة خمسمائة، ثُمَّ للروادف الثليث بعدهم، ثلثمائة ثلثمائة، سوَّى كلَّ طبقةٍ في العطاء قويُّهم وضعيفهم، عربهم وعجمهم، وفرض للروادف الربيع على مائتين وخمسين، وفرض لمن بعدهم وهم أهل هَجَر والعباد على مائتين، وألحق بأهل بدر أربعة غير أهلها: الحسن والحسين وأبا ذر وسلمان، وكان فرض للعباس خمسة وعشرين ألفًا، وقيل: اثنا عشر ألفًا، وأعطى نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف عشرة آلاف، إلَّا من جرى عليها الملك... وفضَّل عائشة بألفين لمحبَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم إيَّاها فلم تأخذ، وجعل نساء أهل بدر في خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعدهم إلى الحديبية على أربعمائة أربعمائة، ونساء من بعد ذلك إلى الأيام ثلثمائة ثلثمائة، ونساء أهل القادسية مائتين مائتين، ثُمَّ سوَّى بين النساء بعد ذلك، وجعل الصبيان سواءٌ على مائة مائة، ثُمَّ جمع ستِّين مسكينًا، وأطعمهم الخبز، فأحصوا ما أكلوا، فوجدوه يخرج من جريبتين، ففرض لكلِّ إنسانٍ منهم ولعياله جريبتين في الشهر"[18].

تعقيبٌ على ديوان العطاء

- كان أبو بكر رضي الله عنه يرى أنَّ السابقة والقِدَم في الإسلام ثوابه على الله، وأنَّ المعاش "فالأسوة فيه خيرٌ من الأثرة"، لهذا قام بتوزيع الأموال القليلة التي كانت تصل إليه من أخماس الغنائم بالتساوي بين جميع المسلمين، وكان عمر رضي الله عنه أوَّل من رفع هذه المساواة في الرزق، وقد جاءت هذه الخطوة انسجامًا مع التطوُّرات الجذريَّة والعميقة التي نتجت عن الفتوح، لهذا لبَّى حاجةً جديَّةً لمستجدَّات الظروف الحياتيَّة الجديدة للمسلمين في البلاد المفتوحة[19].

- لقد تضمَّنت جيوش الفتوح البدريين وأهل الرِّدَّة على حدٍّ سواء، لهذا كان من الضروريِّ مراعاة هذه الفوارق لدى قسمة الفيء عليهم.

- لاقت هذه السلوكية العمريَّة الرضى والقبول من عامَّة المسلمين، وبخاصَّةٍ أنَّها لم تتعارض مع الأعراف والقيم السلوكيَّة للقبائل الإسلامية المختلفة، ولا مع البنية القبليَّة للفاتحين، وتُحقِّق العدالة من واقع نصيب القبيلة في الجهاد، وتنسجم مع الأخلاقيَّة الدينية؛ لأنَّ إحصاء عمر رضي الله عنه للنَّاس صنَّفهم وِفْقَ معيارٍ دينيٍّ وهو الفضل والأسبقيَّة في الإسلام ونصرته[20].

- تداخل نظام العرافة تداخلًا عضويًّا مع ديوان عمر رضي الله عنه من واقع السيادة القبليَّة التي كانت الأساس الاجتماعي للفتوح، كما وضَّح لنا هذا النظام هيكليَّة الديوان من واقع المحافظة على الوضع الاجتماعيِّ للقبائل والعشائر والبطون. ويروي الماورديُّ في هذا الصدد: "وكان الديوان موضوعًا على دعوة العرب في ترتيب النَّاس فيه معتبرًا بالسابقة في الإسلام وحسن الأثر في الدين، ثُمَّ رُوعي في التفضيل عند انقراض أهل السوابق بالتقدُّم في الشجاعة والبلاء في الجهد"[21].

- إنَّ الفصل في ترتيب النَّاس حسب النسب وبين تفصيل العطاء استنادًا إلى السابقة، مهمٌّ جدًّا لاستيعاب الطابع التاريخيِّ والاجتماعيِّ للديوان[22]؛ فعلى الرغم من التصنيف الذي جعل بني هاشم في رأس الأفضلية فإنَّه أوجد الفرصة المتكافئة للذين صنعوا الأحداث الكبيرة بمعزلٍ عن أيِّ معايير فئويَّة أو اجتماعيَّة.

- استمرَّ التقسيم القبليُّ للنَّاس الأساس الاجتماعي لهذه المؤسَّسة الإداريَّة الجديدة بتحقيق فيء الناس من خلال توزيع مردوده عليهم فردًا فردًا[23].

- بقيت الوحدة القبليَّة الشخص الحقوقي والمعنوي الذي تعاطى معه الديوان؛ إذ حينما تمَّ تدوين ديوان الأنصار سأل المدوِّنون عمر رضي الله عنه بمن يبدأون، فقال لهم: "ابدأوا برهط سعد بن معاذ الأشهلي رضي الله عنه من الأوس، ثُمَّ الأقرب فالأقرب لسعد"[24].

- يُعدُّ ديوان عمر رضي الله عنه إجراءً تنظيميًّا فنيًّا يضبط علاقات المسلمين فيما بينهم بالنسبة لقسمة الفيء وتخصيص توزيعه، وهو بالمقارنة مع ظروف تلك المرحلة حدثٌ غير عادي، وتحوُّلٌ نحو مصالح الفئات الشعبية التي أخذت تتحسَّس عمليًّا حجمها المعنويِّ في مجتمعٍ تتكافأ فيه الفرص والتضحيَّات بصورةٍ نسبيَّة[25].

- الواضح أنَّ عمر رضي الله عنه دوَّن الديوان وفرض العطاء ليتفرَّغ المسلمون للجهاد، ولهذا منع قسمة الأراضي المفتوحة بين المقاتلين حتى لا يعملوا بالزراعة فتشغلهم عن الجهاد، وتجذبهم الأرض إليها فتُنسيهم الرسالة الكبرى التي ألقى القدر عليهم أن ينهضوا بها، وقد ساعد تدوين الديوان وفرض العطاء أولئك المسلمين على أداء الرسالة.

- لم تكن الدواوين التي هي سجلَّات العطاء موجودةٌ كلُّها في المدينة، بل كان كلُّ ديوانٍ على حدة عند والي البلد أو القبيلة التي فُرض فيها لأهل العطاء. فكان ديوان حِمْيَر عند والي اليمن، وديوان البصرة عند واليها، وديوان كلِّ إمارةٍ عند أميرها، بحيث أضحى كلُّ مسلم يقبض عطاءه من البلد الذي هو فيه، كما أضحى كلُّ والٍ مسئولًا عن إيصال العطاء إلى أصحابه في ولايته، وكان عمر رضي الله عنه يُوصل العطاء لأصحابه في المدينة وما حولها[26].

ديوان الجباية

يُميِّز الماورديُّ بين ديوان العطاء الذي أنشأه عمر رضي الله عنه وبين ديوان الجباية، ويُحذِّر من الخلط بينهما "وأمَّا ديوان الاستيفاء وجباية الأموال فجرى هذا الأمر فيه بعد ظهور الإسلام بالشام والعراق على ما كان عليه من قبل، فكان ديوان الشام بالروميَّة؛ لأنَّه كان من ممالك الروم، وكان ديوان العراق بالفارسية؛ لأنَّه كان من ممالك الفرس، فلم يزل أمرهما جاريًا على ذلك إلى زمن عبد الملك بن مروان فنقل ديوان الشام إلى العربيَّة سنة إحدى وثمانين هجرية"[27].

يُشير ابن خلدون إلى ضرورة التمييز بين الدواوين، مؤكِّدًا أنَّ ديوان عمر رضي الله عنه كان ديوانًا داخليًّا عربيًّا لا علاقة له بمسائل تنظيم وجمع الضرائب من السكَّان والفلاحين وهو كان مبدأ ديوان الجيش؛ فإنَّه كان ديوانًا للقبائل من أجل إيصال حقوقها إليها، وأمَّا ديوان الجباية فبقي بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل، ديوان العراق بالفارسيَّة وديوان الشام بالروميَّة، وكتَّاب الدواوين من أهل العهد من الفريقين[28].

المعروف أن هذا الديوان بقي لا علاقة له مطلقًا بديوان عمر رضي الله عنه (العطاء) الذي دخل لاحقًا في ديوان الجيش، ويُذكر بأنَّ ديوان مصر كان يُكتب بالقبطية، ويتولَّى هذا الديوان موظَّفون أقباط.

أمَّا شئون ضبط الخراج وجمعه وتنظيمه فبقيت من صلاحيات الدواوين الفارسيَّة والبيزنطيَّة المحليَّة، ويبدو أنَّ العرفاء وأمراء الأجناد كانوا الوسطاء الشخصيين بين هذه الدواوين المحليَّة وبين المسلمين الفاتحين وهم الذين كانوا يأخذون سنويًّا الأموال المجموعة من قِبَل هذه الدواوين المحليَّة ويقومون بتوزيعها ضمن إطار العرافة، وعلى أرضيَّة ديوان عمر رضي الله عنه على الناس والقبائل[29].

بيت المال

وأنشأ عمر رضي الله عنه بيت المال ولم يكن موجودًا في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أبي بكر رضي الله عنه؛ حيث قضت سياستهما بتوزيع ما يأتي من الأخماس وأموال الزكاة إلى المدينة على من فيها، وقد رفض عمر في بادئ الأمر الخروج على هذه السياسة. فعندما قال له أحد المسلمين: "يا أمير المؤمنين لو تركت في بيوت الأموال عدَّة لكون إن كان! فقال: كلمة ألقاها الشيطان على فيك وقاني الله شرَّها، وهي فتنةٌ لمن بعدي، بل أعد لهم ما أمرنا الله ورسوله: طاعة الله ورسوله، فهما عدَّتنا التي بها أفضينا إلى ما ترون، فإذا كان هذا المال ثمن دين أحدكم هلكتم[30].

يبدو أن كثرة موارد الدولة المالية بعد استقرار الفتوح دفعت عمر رضي الله عنه إلى تغيير سياسته، ووافق على تأسيس بيتٍ للمال يُحفظ فيه الأموال الفائضة عن أعطيات الجند والإنفاق الضروري على مصالح المسلمين.

تعدَّدت موارد بيت المال من الزكاة والصدقات والجزية والعشور والخراج، وكانت هذه الأخيرة على جانبٍ كبيرٍ من الأهميَّة وبخاصَّةٍ بعد قرار الخليفة بإبقاء الأراضي الزراعية في أيدي أصحابها المحليين، ممَّا ساهم في توفير مناخٍ مشجِّعٍ للاستقرار في البلاد المفتوحة من جهة، ودعم عائدات الدولة الماليَّة من جهةٍ أخرى، وكان هذا القرار معبِّرًا عن نظرة الخليفة البعيدة للوصول إلى تحقيق الانصهار والتلاحم بين مجتمعات هذه البلدان وبين المسلمين الفاتحين، لا سيما وأنَّ هؤلاء لم تكن لديهم التجربة الزراعية الكافية للقيام بهذا الدور[31].

كان يجري تسجيل هذه المصادر الماليَّة في بيت المال تحت إشراف جهازٍ ينتدبه الخليفة لهذه المهمَّة، وفي مقدمته المسئول الأوَّل الذي صار يُعرف بـ"صاحب بيت المال"، وكانت عملية التوزيع تأخذ شكلها المنظَّم الذي يتعدَّى الهبة أو المكافأة إلى الرواتب المستقرَّة أو إلى عطاء، فضلًا عن الأموال المحمولة بأمر الخليفة في مشاريعٍ ذات خصائصٍ عامَّة[32].

المصدر من كتاب: تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، لمحمد سهيل طقوش.
ـــــــــــــــــــ
[1] بيضون: ص88.
[2] دائرة المعارف الإسلامية: ج9 ص378.
[3] الأحكام السلطانية: ص249.
[4] المصدر نفسه: ص249-252.
[5] تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص613.
[6] فتوح البلدان: ص436.
[7] إبراهيم: ص207.
[8] الأحكام السلطانية: ص249.
[9] العثمانية: ص211.
[10] ابن الطقطقي، محمد بن علي بن طباطبا: الفخري في الآداب السلطانية والدول
الإسلامية: ص68، 69.
[11] إبراهيم: ص208، 209.
[12] إبراهيم: ص208، 209.
[13] تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص615.
[14] المصدر نفسه: ص619-623، ج4 ص5-39، وإبراهيم: ص209.
[15] فتوح البلدان: ص435.
[16] الطبري: ج4 ص211.
[17] المصدر نفسه: ص209، 210، والبلاذري: ص435، 436.
[18] تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص614، 615.
[19] إبراهيم: ص211.
[20] إبراهيم، ص212.
[21] الأحكام السلطانية: ص252.
[22] إبراهيم: ص212.
[23] المرجع نفسه.
[24] البلاذري: ص437.
[25] بيضون: ص91، 92.
[26] البلاذري: ص438.
[27] الأحكام السلطانية: ص252، 253.
[28] المقدمة: ص202، 203.
[29] إبراهيم: ص202، 203.
[30] الطبري: ج3 ص615.
[31] بيضون: ص89، 90.
[32] بيضون: ص91.