بدايات الفتح

ترتبط البدايات الأولى لفتح العراق بانتهاء حروب الردَّة، فقد وجد المسلمون أنفسهم على حدود هذا البلد؛ حيث طارد المثنى بن حارثة الشيباني فلول المرتدِّين حتى دخل جنوبي العراق، فاستأذن أبا بكر في غزوه، وطلب منه أن يُؤمِّره على قومه ليُقاتل بهم الفرس، فكان له ما أراد[1]، ويُذكر أنَّه حدث في مطلع القرن السابع الميلادي، ما جعل العراق أرضًا ممهَّدةً ومهيَّأةً للعمليَّات العسكريَّة، فقد تدهورت العلاقات بين الفرس وبين عرب العراق لا سيما قبيلة بكر بن وائل التي ينتسب إليها المثنى، وفي الحديث عن فتوح العراق نقرأ في روايات المصادر ما يُفيد بأنَّ كلًا من المثنى وخالد بن الوليد رضي الله عنهما كان حريصًا على أن يبدأ بفتح المناطق التي تنزلها قبائل عربية.

حشد المثنى جيشًا من قومه، وراح يُغِير على أسفل العراق على نواحي كسكر[2] تارةً وعلى أسفل الفرات تارةً أخرى، وبعد عدَّة عمليَّاتٍ ناجحةٍ تبيَّن له خلو المنطقة من مقاومةٍ جديَّة.

لفت هذا النجاح المبدئي نظر أبا بكرٍ، وأدرك الوضع المتهاوي الذي تتخبط فيه دولة الفرس، وأنه حان الوقت لغزو أراضيها وضمِّها إلى الدولة الإسلامية، فوضع خطَّةً عسكريَّةً تقضي بفتح كافَّة البلدات ابتداءً من الأبلة في الجنوب حتى المصيَّخ[3] في الشمال في خطٍ موازٍ لشهر الفرات، وتطهير منطقة غرب الشهر من القوَّات الفارسيَّة والعربيَّة الموالية للفرس، وبذلك ثقف جيوش المسلمين على حدودٍ لا تبعد أكثر من خمسين كيلو مترًا عن المدائن، وهي الهدف الأسمى.



خطة الفتح الإسلامي للعراق

يتطلَّب تنفيذ هذه الخطَّة إرسال جيشين، يقوم أحدهما بعبور شبكة الأنهار إلى المدائن، ويكون الآخر عونًا له وحاميًا لمؤخرته، على أن يدخلا المنطقة من ناحيتين مختلفتين ويلتقيان في الحيرة، فكتب إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه -وكان آنذاك في اليمامة- يأمره بالتوجُّه إلى العراق لمحاربة الفرس على أن يبدأ بالأبلة، كما كتب إلى عياض بن غنم رضي الله عنه -وكان بالفراض[4]- يأمره بغزو العراق من أعلاه على أن يبدأ بالمصيَّخ حتى يلقى خالدًا رضي الله عنه على أن تكون القيادة لمن يصل إلى الحيرة أوَّلًا، وأمرهما بأن لا يُكرها أحدًا على المضيِّ معهما[5]، وبهذه الخطَّة العسكريَّة الذكيَّة يكون أبو بكرٍ رضي الله عنه قد حصر القوَّات الفارسيَّة الموجودة في العراق بين فكي الكمَّاشة؛ بحيث تواجه أحد الجيشين وهي مهدَّدة من خلفها بالجيش الآخر، ممَّا يُسبِّب لها الارتباك.

انطلق القائدان كلٌّ في الطريق المحدَّد له، ونفَّذا خطَّة الخليفة بتفاصيلها، ولكنَّ قواتهما تناقصت نتيجة عدم رغبة بعض الجنود بقتال الفرس، فكتبا إلى الخليفة يطلبان مددًا، فأمدَّ خالدًا بالقعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنهما، وعياضًا بعبد بن عوف الحميري رضي الله عنهما، وأوصاهما باستنفار من قاتل المرتدِّين، ونهاهما عن الاستعانة بمرتد، كما استنصرهما بالمثنى[6].

نزل خالد في النباج وكتب إلى المثنى -وكان بـ"خفَّان"[7]- أن ينضمَّ إليه مع قوَّاته البالغ عددها ثمانية آلاف مقاتل فأتمر بأمره، كما كتب إلى أمراء الجند المنتشرين في المنطقة بأن ينضمُّوا إليه ففعلوا، وكانت تحت إمرتهم ثمانية آلاف مقاتلٍ أيضًا، فبلغ عديد جيشه عندما دخل إلى العراق ثمانية عشر ألف مقاتل[8].



معركة ذات السلاسل:

سار خالد إلى الأبلة في شهر (محرم 12هـ= أواخر مارس 633م)، وعندما اقترب من مشارفها كتب إلى حاكمها هرمز يدعوه إلى إحدى الخصال الثلاث: الإسلام أو الجزية أو الحرب[9]، وهو بهذا يستوفي ركنين شرعيين:

الأوَّل: أداء واجب الدعوة قبل الحرب.

الثاني: إعلان الحرب في حال الرفض[10].

بالإضافة إلى إحداث أثرٍ نفسيٍّ بإلقاء الرعب في قلب عدوِّه بما اشتمل عليه الكتاب من تهديدٍ ووعيد[11].

رسم خالد خطَّته العسكريَّة على أساس دخول العراق من أربعة محاور على أن تلتقي الفرق العسكريَّة الأربع في الحفير[12]، وعندما علم هرمز بزحف المسلمين تصرَّف على محورين:

الأوَّل: كتب إلى الإمبراطور قباذ الثاني شيرويه وإلى أردشير بن شيرويه يُخبرهما بالوضع الميداني المستجد.

الثاني: عبَّأ قوَّاته وزحف بها إلى الحفير للاصطدام بالمسلمين، لكنَّ هرمز لم يحظَ بالجيش الإسلامي؛ لأنَّ خالدًا غيَّر بعض جزئيَّات خطَّته العسكريَّة لأسبابٍ تكتيكيَّة، وتوجَّه إلى كاظمة[13]، فلحقه هرمز إلى هناك واصطدم به بعد أن ربط جنوده بالسلاسل خشية الفرار، فبارزه خالدٌ وقتله، وتعرَّض جيشه للهزيمة، وفرَّت فلوله فطاردهم المثنى[14]، وانتقل خالدٌ بعد المعركة إلى منطقة البصرة ونزل في موقعها، وسيطر على الخريبة[15] وهي من مسالح الفرس.



معركة المذار[16]:

علمت الدوائر الحاكمة في المدائن بأنباء الهزيمة التي مُني بها الجيش الفارسي في كاظمة، فأدرك القيِّمون على الحكم مدى تأثيرها السلبيِّ على وضعهم في العراق، وأنَّهم إذا لم يتحرَّكوا فورًا لوقف الزحف الإسلامي فإنَّ عاصمتهم تُصبح مهددة، لذلك قرَّروا متابعة القتال.

كان الإمبراطور الفارسي قد جهَّز -فور تسلُّمه كتاب خالد من عامله هرمز- جيشًا بقيادة قارن بن قريانس، وأرسله مددًا لهرمز غير أنَّه لم يدركه، وعندما وصل إلى المذار بلغته أنباء الهزيمة ومصرع هرمز، ووصلت إليه فلول ذات السلاسل فضمَّها إلى صفوف قوَّاته، ثُمَّ أجرى مباحثاتٍ مع القيادة المركزيَّة تقرِّر بنتيجتها أن يُعسكر الجيش في المذار على ضفَّة الثني استعدادًا للتصدِّي للمسلمين[17].

علم المثنى -الذي كان يجوب المنطقة- باستقرار الجيش الفارسي في المذار، فكتب إلى خالد الذي بادر فورًا بالتوجُّه إلى هناك وهو على تعبئة، وفتح أثناء زحفه بزندورد في إقليم كسكر، ودرتي، وهرمزجرد[18].

الواقع أنَّ المذار لم تكن على محور (الأبلة-الحيرة) المرسوم للتقدُّم، غير أنَّ طبيعة التحرك الفارسي حتَّم على خالدٍ رضي الله عنه أن يُوفِّر عنصر الأمن لجيشه المتقدِّم من أن يُضرب من جانبه الأيمن، ومع ذلك لا تُعدُّ خروجًا على الخطَّة التي وضعها أبو بكرٍ رضي الله عنه.

استنادًا إلى التقاليد العسكرية التي كانت سائدة في ذلك العصر والقاضية بالتزام المبارزة قبل الالتحام، خرج قارن من قلب جيشه ودعا المسلمين للمبارزة، فهرع إليه خالد ومعقل بن الأعشى رضي الله عنهما، وكان الثاني الأسرع في التحرك فبارزه وقتله، ثُمَّ التحم الجيشان في رحى معركةٍ رهيبةٍ كانت أشدَّ قتالًا ممَّا كان في ذات السلاسل، وأسفرت عن انتصار المسلمين، وقُتِل من الفرس زهاء ثلاثين ألفًا كان من بينهم قائدان مشهوران هما أنوشجان وقباذ، ولجأ من نجا إلى السفن ليعبروا، فغرق بعضهم، وحال الماء دون مطاردة المسلمين لهم لافتقارهم إلى السفن، وجرت المعركة في شهر (صفر 12هـ= إبريل 633م)[19].



ذيول معركة المذار:

أقام خالد والمسلمون في المذار واتَّخذوها قاعدةً للانطلاق وتقصِّي أخبار الفرس، وأقرَّ خالد -في خطوةٍ لافتة- الفلاحين على أرضهم وفَرَض الخراج والجزية، ثُمَّ استعدَّ للتقدُّم نحو الحيرة، وعمد قبل الإقدام على هذه الخطوة إلى تنفيذ إجراءٍ (إداري - عسكري) تمثَّل بما يلي:

- وضع حامياتٍ عسكريَّة تجاه الأبلة والخريبة في وضع جسر البصرة على شطِّ العرب وفي أسفل دجلة.

- عيَّن حاكمًا عسكريًّا للمنطقة، هو سويد بن مقرِّن المزني رضي الله عنه على أن يتمركز في الحفير في موقعٍ خلفيٍّ ليحمي مؤخرة الجيش الإسلامي المتقدِّم.

- عيَّن أمراء في النواحي المختلفة وربطهم بالقيادة في الحفير، نذكر منهم: سويد بن قطبة على ناحيته من منازل بني ذهل من جهة البصرة، قحطبة بن قتادة السدوسي على جهته، شريح بن عامر القيني السعدي على الخريبة.

وجاء هذا الإجراء لأسبابٍ منها:

- أهمية منطقة الأبلة الاقتصادي والعسكري بوصفها الطريق المائي الوحيد بين المدائن والشرق.

- قطع الطريق على أيِّ تحرُّكٍ فارسيٍّ مضادٍّ لاستعادة المنطقة في حال توغَّل في عمق الأراضي العراقية.

- تأمين سلامة قوَّاته والمحافظة على خطوط مواصلاته مع المدينة.

كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
ــــــــــــــــــ
[1] البلاذري: فتوح البلدان: ص242.
[2] كسكر: كورة واسعة بين الكوفة والبصرة. الحموي: 4/461.
[3] المصيخ: بين حوران والقلت على حدود الشام ممَّا يلي العراق. المصدر نفسه: 5/144، 145.
[4] الفراض: موضع بين البصرة واليمامة قرب فليج من ديار بكر بن وائل. الحموي: 4/243.
[5] الطبري: 3/344-347، وابن أعثم، أبو محمد أحمد: الفتوح: 1/73-76.
[6] الطبري: 3/346، 347.
[7] خفان: موضع قرب الكوفة. الحموي: 2/379.
[8] الطبري: 3/347.
[9] الطبري: 3/347، 348.
[10] كمال، أحمد عادل: الطريق إلى المدائن: ص214.
[11] سويد: ص202.
[12] الحفير: أوَّل منزل من البصرة لمن يُريد مكة. الحموي: 2/277.
[13] كاظمة: هي على سيف البحر في طريق البحرين من البصرة بينها وبين البصرة
مرحلتان. المصدر نفسه: 4/431.
[14] الطبري: 3/348-350.
[15] البلاذري: ص243.
[16] المذار: في ميسان بين واسط والبصرة، وهي قصبة ميسان بينها وبين البصرة مقدار
أربعة أيام، وتقع على الشاطئ الشرقي لنهر دجلة، وتتشعَّب عندها الطريق إلى الأهواز
والجبال وفارس والسواد. الحموي: 5/88.
[17] الطبري: 3/351.
[18] البلاذري: ص244.
[19] الطبري: 3/351، 352.