"الإفراط في تعدد اللهجات"
بقلم: حسن سعيد رضا.
لكُلِّ لغةٍ في العالم قواعدها النحوية والصرفية، وتلك القواعد تنقسم الى قواعد عامة بسيطة يتحدثها عامةُ الناطقين بها، وأخرى دقيقة معقدة لا يعرفها الّا المتخصصين في دراسة تلك اللغة وعلومها.
ومن الطبيعي أن نجد في كُلِّ لغةٍ لهجاتٍ محليةٍ تختلف من منطقةٍ الى أخرى من مناطق تواجد الناطقين بها، فهذا شيءٌ طبيعيٌ لا مشكلة فيه، وهو في حقيقته نتاج اختلاف البيئات التي تحيط بمجموعة من المتكلمين بلُغةٍ معينة، لكن من غير الطبيعي أن نجد لهجات فرعية داخل اللهجات المحلية الرئيسية وبكثرة.
ومن باب التعبير عن هذه المشكلة بأسلوبٍ كوميديٍّ يتداول البعض هذه الطُرفة: {كويتي جالس في الطائرة شاهد المضيفة تتحرك بكثرة فقال سائلاً "وش فيهة هاي هَري مَري ؟" سمعت المضيفة كلامه فسألت الذي يجلس بجانبه -الذي كان سعودياً- عن معناها فأجابها "يعني سَرْدَح مَرْدَح" لم تفهم كلامه فسألت مَن بجانبه وكان بحراني فقال "يعني سرداد مرداد" لم تفهم وسألت الذي بجانبه وكان قطَري الذي أجاب "يعني خِيْطِي بِيْطِي" ثم سألت مَن بجانبه وكان تونسي فقال "يعني غادي مَييجي" يقولون المضيفة بقيت شهر تتعالج في مستشفى الأمراض النفسية من هذه الكلمات} ، هذا غَيض مِن فَيض مما تُعانيه الشعوب العربية في التفاهم بينها.
الأمَر مِن هذا انقسام كُل لهجة في بلد عربي الى لهجات متعددة، ففي العراق مثلاً توجد اللهجة الموصلية [المصلاوية كما نسميها في العراق] ولهجة المنطقة الغربية ولهجات منطقة الفُرات الأوسط ولهجات الجنوب، أكثر مِن ذلك توجد في كل محافظة لهجتين أو ثلاثة، أما بغداد فحدِّث ولا حرج حيث ينتشر عدد كبير من اللهجات نتيجة لكونها خليط من سكان باقي المحافظات فضلاً عن سُكّانها الأصليين القدامى، فتجد اللهجة البغدادية القديمة في مناطق الكرخ والرصافة القديمة اضافةً الى البغدادية الحديثة ولهجة الكاظمية [الكظماوية كما يسمونها] ولهجات السُكّان ذوي الأصول من المحافظات الأخرى.
خلال زيارتي للصديق حسين الخالدي في محافظة الديوانية، وأثناء الحديث ثار موضوع تعدد اللهجات، حدَّثنا أحد الحاضرين وهو الأستاذ ماجد الحمزاوي الذي يعمل مذيعاً في إحدى الإذاعات المحلية قائلاً {كنت عسكري في السُلَيمانية، طلب مني أحد أصدقائي من أكراد المحافظة المذكورة طلب مني أن أجعلهُ ملمّاً باللهجات العربية العراقية كي ينتفع بها في تجارته بين السُلَيمانية وبغداد، كانت أمامنا حنفية مياه فقلت لهُ "تشوف هذا البوري" قال "أكيد أشوفه شبيه؟" قلت "هذا وحده عنده ستة أو سبعة أسماء: ناس تسميه بوري وناس تسميه حنفية وأكو يسموه لولة وقسم يسموه مكينة واحنة بالديوانية نسميه مَزملَة وبالبصرة يسموه طرمبة" ابتسم الكردي وقال "كاكة بطلت خليني على لهجة بغداد كافي"}.
مثل هكذا حادثة تعكس مدا الإفراط في التعدد اللَهْجَوي الذي تُعانيه اللغة العربية، هذا بالتأكيد شيء غير إيجابي فإذا استمرَّ هذا التعدد المُسرَف فيه ستتفكك العربية الى لغات أخرى كما أصاب جارتها اللاتينية حيث تشظّات الى لغات أوروبا الحالية، وأصبح شعوبها بحاجة الى مترجمين للتفاهم بينهم -وإن كان هذا الشيء أصاب الشعوب العربية جزئياً حيث نحتاج الى ترجمة بعض كلمات لهجاتها المحلية- ، هناك حقيقة تجب الإشارة إليها: لولا أنَّ القرآن الكريم نزل باللغة العربية .. ولولا أنَّ تسعين بالمئة من العرب مسلمون لانقسمت لغتنا الى عدة لغات ولانمحت من الوجود وأضحت أسيرة كتب التاريخ كما هو حال اللاتينية، مع التنويه الى أنَّ لغتنا حالياً أسيرة الكتب ولا استعمال لها في كلامنا المتداول في حياتنا العامة اليومية إذ أحللنا محلها لهجاتنا المحليَة.
إنَّ إعادة نشر اللغة العربية يكون ببث روح تعلُّمها عند العامة، ويتمُّ ذلك بعدة أساليب منها التشجيع على دراستها بصفتها ضرورية لقراءة القرآن الكريم وفهم آياته ومعانيه وفهم أحكام ديننا الحنيف، وبزرع ثقافة تعل\ُّمها بصفتها هويتنا القومية كعرب وبدونها لا يمكن التواصل في ما بيننا، لا أُطالب بأن نتكلم باللغة الفُصحة دائماً .. لكن على الأقل نتكلم بلهجات مَمزوجة بها بحيث لا تبتعد عنها كما في لهجاتنا الحالية.