بسم الله الرحمن الرحيماللهم صل على محمد وال محمد
سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله
يقول تعالى في كتابه العزيز:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}[الأنبياء: 1ـ3].
إنّ الحساب يقترب من الإنسان، حتّى ليكاد يواجهه في كلّ لحظةٍ تقترب
به من الموت، لأنّ الموت يعني الانتقال من دار العمل الّتي هي الدّنيا، إلى
دار الحساب الّتي هي الآخرة، فيما عبّر عنه الإمام عليّ(ع) في كلمته
المأثورة: «اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل». وقد جرى
القرآن على إثارة النّتائج السلبيّة أمام الإنسان في مجال التّعبير عن الموت،
كما في قوله تعالى: {وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ* وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الزّمر:54 ـ 55]، حيث
عبّر عن الموت بالعذاب، بلحاظ أنّ العذاب يستتبع الموت للخاطئين
المسرفين على أنفسهم، الّذين لم يتوبوا إلى الله.
وهكذا اقترب للنّاس حسابهم باقتراب الوصول إلى دار الحساب من دون
تحديدٍ لموعده؛ هل هو بعد الموت مباشرة، كما جاءت الرّوايات عن
حساب القبر، أو هو عند قيام القيامة، عندما يقوم النّاس جميعاً لربّ
العالمين، لأنّ المسألة هي إثارة الحساب في وعيهم ووجدانهم، {وَهُمْ فِي
غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ}، فقد عاشوا الغفلة كأعمق ما يعيشها الإنسان الّذي
يبتعد فكره عن الحقيقة، لأنّ هناك أكثر من حاجز يحجزه عنها، فيدفعه
إلى الإعراض عن كلّ دعوة للحق، لأنّه لا يعيش الوعي المنفتح عليه.
وقد أثار بعضهم التّساؤل حول الجمع بين الغفلة الّتي توحي بعدم الانتباه،
وبين الإعراض الّذي يستلزم الالتزام، لأنّه يُمثّل موقفاً سلبيّاً اختياريّاً من
الموضوع؟! والجواب عن ذلك، أنّ الإعراض يعبّر عن حالة سلبيّة واقعيّة،
قد تلتقي بالوعي للموقف، أو بالغفلة عنه، وذلك لأنّه يمثّل الإهمال
الفعليّ لحركة المسؤوليّة في حياته من خلال موقف الحساب. والله العالم.
ويقول تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}، فهم لا يعيشون الجديّة في مواقفهم أمام المسؤوليّة، بل يواجهونها
من موقع اللّهو واللّعب، كمن يلعب بمصيره غافلاً عن النّتائج السلبيّة الّتي
يلاقيها. وهذا ما كانوا يمارسونه عندما كان الأنبياء يأتونهم برسالات
ربّهم الّتي ترشدهم إلى الفلاح في الحياة، وتثير في داخلهم الشّعور بالسموّ
الرّوحيّ الّذي يلتقون من خلاله بالله، ويتّضح لهم الكثير من المشاكل
الواقعيّة الّتي تصادفهم في قضايا الفكر والحركة والشّعور. فقد كانوا
يستمعون إلى الأنبياء استماع اللاعب الّذي لا يريد أن يشغل عقله بما
يسمع، أو يربّي روحه به، أو يعيش المعاناة من خلاله، بل يريد أن يُحرّك
حسّه، ويشغل فراغه، فلا يكون همّه مما يسمعه إلا الأصداء الّتي تنطلق
من الكلمات بعيداً عن معانيها، أو الأجواء السّاخرة الّتي يحاول أن يثيرها
في ما يتّخذه من المواقف المضادّة تجاهها.
وعن اللّهو القلبيّ، يقول تعالى: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ}، بكلّ زخارف الدّنيا
وزينتها، وبكلّ مواقع الشّهوات ومراتعها، وبكلّ مظاهر القوّة وأدواتها،
فهي مشغولة بذلك كلّه، مبهورة بالألوان اللامعة، وبالصّور السّاحرة، في
حالة من اللّهو المتحرّك في نبضاتها، المهتزّ في مشاعرها، حيث لا تطمئنّ
إلى هدوء الفكر، وصفاء الرّوح، وإشراقة الوجدان، لتكتشف، من خلال
ذلك كلّه، أنّ وراء كلّ هذه الأوضاع اللاهية الباهرة عمقاً للحياة، بما
تختزنه من مشاكل ومتاعب وبلايا وآلام، ما قد ينسف كلّ هذا الواقع
الّذي يسترخون فيه، ويطمئنّون إليه، فلو تصوّره النّاس بحقيقته، لابتعدوا
عن الاستسلام لما يستسلمون له الآن، وأعرضوا عن اللّهو الّذي يأخذون به.ولعلّ مشكلة اللّهو القلبيّ أخطر من مشكلة اللّهو الجسديّ، لأنّه يستنزف
كلّ عناصر الإحساس الجدّيّ في عمق الذّات، بينما يتحرّك اللّهو
الجسديّ ليشغل العين واليد واللّسان... وبذلك يبتعد الإنسان عن خطّ
الالتزام في حركة الواقع من خلال الرّسالة.
وقد أبعدهم هذا اللّهو عن الارتباط بالحقيقة الرّساليّة، ولكنّه لم يبعدهم
عن الشّعور بالخطر الّذي قد يتهدّدهم، نتيجة ما يثيره الرّسول في
أفكارهم من إيمان يهزّ معتقداتهم، وهداية تصيب عقول أبنائهم بالانحراف
كما يتصوّرون. ولِذلك كانوا يحاولون أن يرسموا الخطط، ويدرسوا
الأساليب الّتي تنقذ ساحتهم من ذلك كلّه. وهذا ما أثارته الفقرة التّالية
من الآية {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر والانحراف،
وائتمروا فيما بينهم في أجواء المناجاة الّتي كانوا يتداولون فيها الشّعار المثير
الّذي يطرحونه في النّاس لإبعادهم عن خطّ الرّسول، ويحذّرون به بعضهم
البعض من الانجذاب إليه، مما يمكن أن يتأثّروا به من دعوته، وذلك في
الدّائرة السريّة من أحاديثهم.
____________
نسألكم الدعاء