قُتل عمر رضي الله عنه فجأة بيد شخصٍ مغمورٍ لا يعرف النَّاس من أمره إلَّا إنَّه خادمٌ للمغيرة بن شعبة، وهو من زعماء ثقيف بالطائف، أمَّا اسمه فهو فيروز أبو لؤلؤة المجوسي، وهو فارسيُّ الأصل من سبي نهاوند، وكان قد شكا إلى الخليفة ثقل خراجه.
حادثة الاغتيال
في فجر يوم الأربعاء (لأربعٍ بقين من شهر ذي الحجة عام 23هـ/ 23 نوفمبر عام 644م)[1]، خرج عمر رضي الله عنه من منزله ليؤمَّ النَّاس لصلاة الفجر، حتى إذا انتظم جمع المصلِّين، بدأ ينوي للصلاة ليكبر، ودخل في تلك اللحظة رجلٌ ظهر فجأة بجانبه وطعنه بخنجرٍ له نصلان حادَّان، ثلاث طعنات أو ست إحداها تحت سرَّته، وشعر عمر رضي الله عنه بحرِّ السلاح، فالتفت إلى المصلِّين باسطًا يديه يقول: "أدركوا الكلب فقد قتلني"[2]، وحاول القاتل الفرار، فتصدَّى له المصلُّون، فراح يطعنهم يمينًا وشمالًا فأصاب ثلاثة عشر منهم، ثُمَّ إن عبد الله بن عوفٍ أتاه من ورائه وألقى عليه رداءه وطرحه أرضًا، وعندما أيقن فيروز أنَّه مقتولٌ لا محالة انتحر بخنجره[3] مسدلًا الستار على دوافع أهمِّ وأخطر قضيَّةٍ واجهت المسلمين حتى ذلك الوقت؛ لأنَّها كانت فاتحةً لحوادث مماثلة سوف تُواجه المسلمين في المستقبل.
كانت الطعنة التي أصابت عمر رضي الله عنه تحت سرَّته قاتلة فلم يستطع الوقوف من أثرها وسقط طريحًا، فاستخلف عبد الرحمن بن عوف على الصلاة بالنَّاس ونُقل إلى منزله وهو ينزف دمًا، ولمـَّا علم أنَّ أبا لؤلؤة المجوسيِّ هو الذي طعنه، حمد الله الذي لم يجعل قاتله يحاجُّه عند الله بسجدةٍ سجدها له، وتُوفِّي بعد ثلاث ليال، ودُفن يوم الأحد مستهلِّ المحرَّم من عام 24هـ بالحجرة النبويَّة إلى جانب أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد أن استأذن أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها[4].
أسباب حادثة الاغتيال
كان لمقتل عمر رضي الله عنه مقدِّمات تكشف عن إنذارٍ وجَّهه إليه أبو لؤلؤة المجوسي وتحذيرٌ من كعب الأحبار أحد كبار أحبار اليهود في المدينة، فقد خرج عمر يومًا بعد عودته من الحجِّ يطوف في السوق فلقيه أبو لؤلؤة، فقال له: "يا أمير المؤمنين أعدني -انصرني- على المغيرة بن شعبة فإن عليَّ خراجًا كثيرًا، وقال عمر: كم خراجك؟ قال: درهمان في كلِّ يوم، قال عمر: وما صناعتك؟ قال: نجَّار، نقَّاش، حدَّاد، قال عمر: فما أرى خراجك بكثيرٍ على ما تصنع من الأعمال. قد بلغني أنَّك تقول: لو أردت أن أعمل رحى تطحن بالريح فعلت، قال: نعم. قال عمر: فأعمل لي رحى، قال: لئن سلمت لأعملنَّ لك رحى يتحدَّث بها مَنْ بالمشرق والمغرب، ثُمَّ انصرف عنه، قال عمر: لقد توعَّدني العبد آنفًا"[5]. ودخل عمر منزله دون أن يكترث جديًّا بهذا التهديد، فلمَّا كان من الغد جاءه كعب الأحبار، فقال له: "يا أمير المؤمنين، فإنَّك ميت في ثلاثة أيام". وأعاد عليه القول في اليوم الثاني، وفي الغداة من ذلك اليوم قال له: "ذهب يومان وبقي يومٌ وليلة وهي لك إلى صبيحتها"[6]. وقد شهد عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه أنَّه رأى الخنجر الذي طُعن به عمر بن الخطاب مع الهرمزان الأمير الفارسي وجفينة أحد نصارى الحيرة وأبي لؤلؤة، أثناء اجتماعٍ لهم، ممَّا دفع عبيد الله بن عمر رضي الله عنه وهو في ثورة غضبٍ إلى قتل الهرمزان وجفينة[7].
إنَّ حادثةً على هذا المستوى تحتاج إلى إثباتاتٍ مقنعةٍ قبل الحكم الموضوعيِّ على دوافعها، وقد اندثرت مع قتل الأشخاص الثلاثة؛ إذ إنَّ إقدام أبي لؤلؤة المجوسي على قتل الرجل الأول في الدولة لأمرٌ يخرج عن القواعد المألوفة إلَّا إذا كان به مسٌّ من الجنون، وهذا لم تُشر إليه الرواية التاريخيَّة[8]، وفي هذه الحالة لا يستطيع الباحث أن يتجاهل ربط هذه القضية بعوامل خارجيَّة بعد رفض الأسباب الهزيلة التي تناقلها المؤرِّخون التقليديُّون حول ثقل خراج أبي لؤلؤة، وتشير القرائن إلى وجود مؤامرةٍ اشترك فيها كلٌ من الهرمزان وجفينة وأبي لؤلؤة، ولا أستبعد أن يكون كعب الأحبار مشتركًا فيها أو مطلعًا على خيوطها؛ إذ إنَّ تحذيره لعمر رضي الله عنه وتحديده ليوم القتل وساعته له دلالته، والمعروف أنَّ اليهود أخذوا يتآمرون ضدَّ الإسلام في كلِّ بلدٍ وصل إليه، ويُدبِّرون الاغتيالات لحكَّام هذه البلاد المسلمة، وبدأت مؤامرتهم الدنيئة باغتيال عمر مستعينين بالفرس الموجودين في المدينة، لقد قضى عمر رضي الله عنه على الإمبراطورية الفارسيَّة، وأخرج البيزنطيين من بلاد الشام ومصر، كما أخرج اليهود من جزيرة العرب، فأضمروا الحقد للإسلام والمسلمين بعامَّة، ولعمر بن الخطاب بخاصَّة، فحاكوا هذه المؤامرة التي كان أبو لؤلؤة أداتها التنفيذيَّة، ورُوي عن عمر رضي الله عنه قوله حين علم بأنَّ أبا لؤلؤة هو الذي طعنه: "قد كنت نهيتكم عن أن تجلبوا علينا من علوجهم أحدًا فعصيتموني".
قد تكون حادثة الاغتيال تصبُّ في مصلحة بعض المتذمِّرين من بقايا التجَّار وأصحاب الثروات الذين وجدوا في نظام عمر رضي الله عنه الصارم ضربةً لمصالحهم الحيويَّة، والمعروف أنَّ عمر رضي الله عنه فرض رقابةً مشدَّدةً على انتقال الشخصيَّات الحجازيَّة إلى المدن والقرى في البلدان المفتوحة، وكان يرى أنَّ كثرة الأموال والثروات وانتشار قريشٍ في الأمصار المفتوحة يُمكن أن يفتح آفاقًا جديدةً في تطوُّر المسلمين، تُبعدهم عن الأجواء الأولى لظهور الإسلام، وانسجامًا مع هذه الرؤية ضيَّق على المهاجرين بخاصَّة وعلى قريشٍ بعامَّة، وحصرهم في المدينة[9]، ممَّا أثار صدمةً لدى هؤلاء الذين شعروا بأنَّ فرص العمل التجاري وجني الأرباح تضيع من أمامهم دون أن ينجحوا في حمل الخليفة المتشدِّد على تعديل قراره، ولهذا تعارضت أهدافهم ومواقفهم مع أهداف عمر رضي الله عنه ومواقفه، وهو الملتزم بفكرة الدولة وقوانينها، لكنِّي أستبعد اشتراك هؤلاء في المؤامرة، بدليل قول عمر رضي الله عنه: "ما كانت العرب لتقتلني"، هذا على الرغم من أنَّ هذه الفئة سوف تُؤدِّي دورًا بارزًا في اختيار شخصيَّة البديل بما يتوافق وحوافزها المتحركة.
المصدر من كتاب: تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، لمحمد سهيل طقوش.
ـــــــــــــــــــ
[1] الطبري: ج4 ص193، 194، واليعقوبي: ج2 ص52.
[2] ابن قتيبة: ج1 ص23.
[3] ابن كثير: ج7 ص137.
[4] الطبري: ج4 ص192، 193.
[5] الطبري: ج4 ص191.
[6] المصدر نفسه.
[7] المصدر نفسه: ص240.
[8] بيضون: ص101.
[9] الطبري: ج3 ص396، 397.