إن الحراك الإسلامي الثائر على فيلم صهيوني يسيء إلى النبي الكريم مفهوم، ولكنه غير مسوّغ. وهو يندرج في الغضب على مجمل الإساءات الدينية التي افتُعلت لاستفزاز المسلمين: الرسوم الكاريكاتورية وحرق المصحف وهذا الفيلم أخيراً. ولقد يكون مقبولاً أن يثور الغضب المعتدل، وليس المجنون، لو أن مقدسات المسلمين مصونة؛ لكن حين نرى المساجد في فلسطين تحرق ومنها ثاني أعظمها عند المسلمين، أي الأقصى، هذا المسجد الذي لا يــــزال يدنّس باستمرار ويُعمل على هدمه، وحين نرى الصهاينة ينشرون الكتابات المهينة للإسلام على جدران فلسطين المحتلة، ونرى حماة الأقصى يُقتلون كل يوم على يد دولة الاغتــــصاب المحمية من الولايات المتحدة وسائر الغرب، وربما الشرق المعادي للإسلام أيضاً، ونرى الأنظمة العربية تحاصر أولئك الحماة، يصبح الفيلم والكاريكاتور وحرق المصحف حاشية صغيرة ضيئلة الأهمية. ويحضرني في هذا المقام ذلك الحديث الذي رواه أحمد بن حنبل والبيهقي، وفيه أن الإمام علياً دعا قرّاء القرآن الذين خرجوا عليه بسبب قبوله التحكيم، ثم طلب مصحفاً وجعل يضرب عليه بيده ويقول :«أَيُّهَا المُصْحَفُ حَدِّثِ النَّاسَ». فقيل له: إن الذي تخاطبه إنما هو ورق ومداد (حبر)، فرد عليهم قائلاً :«أَصْحَابُكُمُ الذِينَ خَرَجُوا، بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ كِتَابُ اللهِ تَعالى»الخ. ففرْق بين المصحف وكتاب الله، أي القرآن؛ المصحف هو المخطوط في صحـف أو المطبوع مــن الكتب، سواء كان مقدساً أو بشرياً، فله قيمة مادية، وأما كتــاب الله فهو الكلام المقدس نفسه، وهو في اعتقاد المسلمين محفــوظ في لوح عند الله، وقد أوحي به إلى النـبي شفاهية من طريق جــبريل، أو إلى أي نبي آخر. ولم يكن ما قاله الناس للإمام علي ليخفى علـيه، وكان بكل تأكيد يعرف الفرق بين المصحف والقرآن، لكنه أراد أن يعلّمهم درساً، وهو أن القرآن ليــس بكتابته على الورق أو حفظه في الذاكرة حفظاً أصم، كما كـــان يفعل بعض القراء الخوارج، بل هو بما يفهم منه ويعمل به. وقياساً على ذلك، فإن إقدام مجنون كالقس جونز على إحراق المصحف، فإنما هو إقدام على إحراق طروس محبّرة، ولا يمس الكلام المقدس بسوء. ولولا ذلك لما تجرأ الإمام علي على أن يضرب المصحف بيده، وأن يطلب في الوقت نفسه أن يكون القرآن، لا المصحف، حكَماً بينه وبين الخوارج. أما الرسوم الكاريكاتورية فلا أهمية لها إلا بمقدار ما نوليها من عنايتنا. ولقد أخرجت السينما الغربية أفلاماً كثيرة تسخر من رجال الدين المسيحي وراهباته ومن الدين معاً، ولم يسلم هؤلاء حتى من أفلام العهر، ولكن كل تلك الأفلام ذهبت أدراج الريح لأن الناس لم يعبأوا بها؛ ربما اشمأزوا لساعة، وربما ضحك بعضهم قليلاً، لكنهم في النهاية جعلوا الأمر وراءهم ظهرياً. ولئن أحرق القس المجنون المصحف علناً، وظهرت صور الكاريكاتور في بعض الصحف الغربية، وظهر الفيلم على «الإنترنت»، فإن ثمة كثيراً من الكتب والأفلام والأحاديث الـــعلنية والخاصة تزري بالإسلام والمسلمين عامة، وبالعرب مســـلمين ومسيحيين خاصة، ولا نطلع عليها، ولا نلقي إليها بالاً، وربما كان بعضها أشد خطراً مما أشرنا إليه، أفنـــلاحق الناس في بيوتهم وصحفهم ومدارسهم ودور عبادتهم ووسائل إعلامهم ونفرض عليــهم رقــابة مشددة لكيلا يتعرضوا للعرب والمسلمين وعقائدهم؟ أم أننا لا نـــثور إلا على الظاهر ونسكت عن غيره؟ وفي بلاد المسلمين نفسها مذهبيون، دولٌ أو جمعيات أو أفراد أو وسائل إعلام، يســـيئون يومياً إلى المسلمين من المذاهب الأخرى إساءات بالغة، تقارب الإساءة إلى النبي الكريم في خطورتها، ومع ذلـــك لا يتظاهر الناس ولا ينددون؛ فهل نستثير غرائزهم لأجل ذلك، وندفع بهم إلى فتن كالتي تقع في العراق وفي باكستان؟
فِعْل المتظاهرين شجباً للفيلم مفهوم، ولقد يكون ردَّ فعل لاشعورياً، مشروعاً مبدئياً، على الحملة الصهيونية الأميركية على الإسلام، وعلى جعله مرادفاً للإرهاب والتخلف، وجعل المسلمين مستحقين أن يُقتلوا وتهدم بيوتهم ويهجّروا ويُلقوا في السجون بغير محاكمة، ســواء في فلسطين أو في الــولايات المتحــدة أو في العراق أو في أفغانستان أو في غيرها، حتى في لبنان حيث ساهم بعض أتباع الــولايات المتحدة في تلك الحملة. لكن الحملة المشار إليها لا تقـاوَم بفعل يوحي بتسويغـها والبرهان على صوابها. ثم لماذا لا تخرج المظاهرات الشاجبة للقتل شبه اليومي للفلسلطينيين في غزة، ولتدنيس الأقصى، ولقضم الأراضي المقدسة في فلسطين شيئاً فشيئاً. الصهيونية العالمية، ومنها الولايات المتحدة وراء الفيلم، وهي أيضاً وراء الفعل الأخطر وهو محاولة محو الإسلام والمسيحية في فلسطين وتهجير المسلمين والمسيحيين منها؛ أفنقاتل الصــورة سواء ظهرت في فيلم أو رسم أو كتابة جدارية، ونترك الفعل الوحشي الذي يقضي على حضارة وعقائد بطريقة منهجية همجية؟ أليست مهزلة أن يسقط القتلى والجرحى كلما خرجت مظاهرة تنديد بهذا الاستفزار أو ذاك، وأن يظهر التنديد أحياناً وكأنه صـــراع بين المسلمين والمسيحيين العرب أنفسهم، لا بينهم وبين الصهاينة، وكأن المستفز يكتب تعويذة لنصطرع في ما بيننا ونقتل أنفسنا بأيدينا، ويجلس ضاحكاً شامتاً على كرسيه؟ كل الناس أصبحت تعرف القس جونز؛ طلبَ الشهرةَ فظفر بها بفضل نزقنا، وهو على الأرجح نكرة لا مكانة له. نحن نصنع المشاهير بردود أفعالنا وبدمنا أيضاً. ولو أهملناهم لما اهتم الناس لهم، أو على الأقل لم يصبحوا مشهورين. علي عبد الرازق، ألف كتاباً صغيراً في نظام الحكم في الإسلام، كان له فيه آراء شجاعة حقاً، لكننا نقرأها فنجدها أقل جرأة بكثــير مما يكتــب ويقال الـــيوم عن النظام الإسلامي، بيد أن الحملة عليه شهرته، وجعلت رأيه في نظام الحكم نظرية تدرس في الجامعات. وطه حسين يستحق الشــهرة، فهو مفكر وأديب كبير، لا ريب في ذلك، ولكن الحملة التي ثارت عليه دينياً وسياسياً عجّلت شهرته ومكانته، وروّجت كتبه وأفكاره، بأسرع كثيراً ممــا كان يتمــنى، وربما كانت السبب في تبوئه المراكـــز العالية، ومنها وزارة التربية. وصادق جلال العظم ألف كتاباً في نقد الفكر الديني عرض فيه لآراء بعض المتصوفة، فنسبها بعض الصحافيين إليه وأثار حملة عنيفة عليه أدت إلى شهرة لم يكن يحلم بها، وصار أحدهم إذا سمع بكتاب له يسرع إلى شرائه ليرى ما كتب هذا المارق، في نظر المتشددين. وسلمان رشدي صاحب كتاب آيات شيطانية ما كان ليُقرأ إلا من قلة من الناس، ولأُهمل ونُسي بسرعة لولا الحملة الشرسة عليه، وإهدار دمه. الناس صارت تعرف هذا الرجل وتعرف عنوان كتابه من غير أن تقرأه، وربما فاز بالجوائز بفضل محاربة بعضهم له. الذين حاربوه هم الذين أهدوا الجوائز إليه بصورة غير مباشرة، فضلاً عن الشهرة، أو بفضل الشهرة التي منحوه إياها مجاناً. ونصر حامد أبو زيد رُمي بالكفر والرِدة لجرأته العلمية في تناول النص القرآني، أو بالأحرى خوفاً من منافسته لزملائه في جامعة القاهرة بنيله رتبة أستاذ، سنة 1995، وحسداً له لنيله عدة جوائز ووساماً بفضل مؤلفاته، لكنه كان معروفاً بصورة محدودة، فطارت شهرته في الآفاق، وذاعت كتبه، ونال جوائز عالمية جديدة، واحتل كراسي أكاديمية في عدة جامعات أجنبية. المظاهرات تجعل من المنـــدد بهم فـــيها مشاهير أو تزيد شهرتهم، سواء استحقوا الشهرة والمكـــانة العالية أم لا، وكـــلما عنفت المظاهرات تضـــخمت الشهرة، وعلت المكانة، حتى مكانة السخفاء كالقس جونز. فلا تكافئوا أيها المسـلمون المتشددون أولئـــك الســخفاء النكرات، ولا تحققوا أهداف الخطط الصهونية وأنتــم لا تعــلمون، ولا تســـطروا بدمائكــم تاريخاً يريد الــصهاينة كتابته ضدكم، وأَولى بكم أن تبــذلوا الدماء في ساحات الفداء لا في ساحات النزق الجاهلي وأنتم تحسبون أنكم تدافعون عن الإسلام.
كاتب واكاديمي ـ لبنان.
مصطفى الجوزومنقول للامانة