المشترك الأسمى "العقيدة" على الرغم من أنه أوثق وأقوى الروابط بين البشر كما وضحنا سابقًا، فهي كذلك أخطر وأشرس أنواع الصراعات.. وهذا شيءٌ بدهيٌّ يسوق إليه المنطق العقلي: فأقوى أنواع الترابط لا بُدَّ أن ينشأ عن محاولات كسرها أشرس أنواع الصراعات، كما يسوق إليه حديث التاريخ: فأشدُّ الحروب الإنسانيَّة ضراوةً وأطولها عمرًا هي الحروب التي اشتعلت بسبب الاعتداء على هذا المشترك الأسمى.. الدين؛ الحروب التي نشأت بسبب العقيدة كانت أشدَّ من الحروب الناشئة على أيِّ سببٍ آخر، حتى الحروب التي نشأت على الطعام والشراب والموارد الاقتصاديَّة، أو نشأت لتوسيع النفوذ وزيادة رقعة الدولة أو الإمبراطوريَّة، لا شيء أكثر إلهامًا وإثارةً وتحفيزًا للطاقات في النفس الإنسانيَّة من العقيدة والدين.
الحروب الدينيَّة
ويُمكن للحرب الدينيَّة أن تنشأ بين عقيدةٍ وأخرى داخل الدولة الواحدة، وبين دولةٍ وأخرى داخل الحضارة الواحدة، ثُمَّ بين حضارةٍ وأخرى؛ ومن الأمثلة على الحرب داخل الدولة الواحدة ما كان من الحرب الأهليَّة اللبنانيَّة.
كانت الحرب اللبنانية -التي بدأت في عام 1975م، وانتهت باتفاق الطائف الشهير في عام 1990م- من أبرز الأمثلة الدالَّة على ما للنوازع العقديَّة من دورٍ لا يُستهان به في إشعال الصراع كلَّما خفي أو خفت، صحيحٌ أنَّ الحرب بدأت بين القوى المسيحيَّة في لبنان والحركات الفلسطينية؛ إلَّا إنَّ الصراع قد طال كافَّة العناصر والطوائف الأخرى، التي رأت ضرورة الوقوف بجوار هذا أو ذاك، ثُمَّ ما لبث الأمر أن أضحى عقديًّا في أحد جوانبه؛ ليستمرَّ 15 عامًا سقط خلالها الآلاف من الضحايا الأبرياء[1].
ولقد أدَّى مولد البروتستانتية في مطلع القرن السادس عشر الميلادي إلى الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت، حربٌ كبيرةٌ نشأت في داخل الحضارة الواحدة بين الطوائف التي تعتنق هذين المذهبين، وكان من عنفها أن استمرَّت لأكثر من مائة عام، ولا يزال شعور الكراهية يسود بين الكاثوليك والبروتستانت في أجزاء من أوربَّا حتى هذه اللحظة، وعلى سبيل المثال، فلقد أدَّى الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا الشماليَّة إلى كثيرٍ من أعمال العنف في المنطقة منذ الستينيَّات من القرن العشرين[2].
وأمَّا ما نشأ بين حضارتين لكلٍّ منهما دينٌ مختلف، فأبرز مثال له ما كان من الحروب الصليبيَّة، التي كان الدافع العقدي والديني واضحًا فيها؛ ومن ثَمَّ اشتركت فيها كافَّة الأطياف والطبقات الأوربيَّة، وكانت خطبة البابا أوربان الثاني في جنوب فرنسا في نوفمبر عام 1095م دليلًا واضحًا على هذا الحشد الديني، ولقوَّة هذا الدافع فقد استمرَّت الحروب الصليبيَّة ما يقرب من 200 عام متَّصلة، سقط فيها مئات الآلاف من الجانبين، قُتل فيها -كما يقول ول ديورانت- "خيرُ ما في الشرق والغرب"[3].
الدين غطاء للمصالح
وإدراكًا لحقيقة أنَّ الدين هو أقوى الروابط، وأكثر العناصر الفعَّالة لإثارة الطاقات وتفجير المواهب الإنسانيَّة، فإنَّ كثيرًا من الزعماء يستعملونه غطاءً لمصالحهم الذاتيَّة العاجلة، التي تقتضي أن يحشدوا الناس إلى حربٍ تضيع فيها أرواحهم ودماؤهم؛ لذا فإنَّ كثيرًا من المعارك تتحوَّل من حربٍ لأهدافٍ غير عقديَّة إلى معارك عقديَّة بعد مرور وقت، فتأخذ بُعْدًا أكبر من بُعدها الأصلي، فلا تنتهي حتى لو تحقَّقَت المصلحة.
كلُّ الحروب والصراعات تدور حول المصالح، لكنَّ المصالح لا تسير وحدها عاريةً من الأفكار والعقائد والفلسفات والأيديولوجيَّات؛ فالجيوش التي تُحارب -في سبيل المصالح- لا بُدَّ لها من "عقائد قتاليَّة" تدفعها للتضحية في سبيل تحقيق "المصالح"، والجماهير التي تُجَيِّش الجيوش وتُنفق على التسليح وتضحِّي في الحروب، لا بُدَّ لها من أفكار وأيديولوجيَّات وعقائد تشحنها وتُحَرِّضها على تقديم التضحيَّات، ولهذه الحقيقة ارتبطت حروب المصالح وصراعاتها بحروب الأفكار والعقائد والأيديولوجيَّات[4].
ولهذا تسير الجيوش الأميركيَّة بعَدَدها وعُددها فتعبر المحيطات، وتشقُّ الأجواء، وتنزل إلى الصحراء تحت عناوين "تحرير الكويت"، أو "القضاء على الإرهاب"، أو "نشر الديمقراطيَّة"، ثُمَّ إنَّها قبل كلِّ ذلك وبعده تحرص على عقود الإعمار وآبار البترول، لكنَّ رئيسها حين يجد نفسه في موطنٍ يجب فيه أن يحشد الناس فإنَّ لسانه -بقصدٍ أو بغير قصد- يندفع قائلًا: "إنَّها حربٌ صليبيَّة".
وهو ما يُعيد إلى الذاكرة ما حدث قبل قرنٍ من الزمان عند دخول الجنرال الإنجليزي إدموند ألنبي إلى القدس عام 1918م قائلًا: "الآن انتهت الحروب الصليبية". وبعده بعامين 1920م حين دخل الجنرال الفرنسي هنري جورو إلى دمشق بعد انتصاره في معركة ميلسون، ثُمَّ رَكَل قبر صلاح الدين الأيوبي قائلًا: "ها قد عدنا يا صلاح الدين".
وهكذا استطاع الدين إبقاء العاطفة مشتعلة متوقِّدة، تعمل تحت الرماد والركام، حتى تنفجر في اللحظة المناسبة، حتى لو كان هذا بعد انتهاء سلطة الدين في أوربَّا التي صارت علمانية، حتى لو كانت هذه الحروب استعماريَّة قَصَد بها الساسةُ توسيع أملاكهم ونفوذهم وثرواتهم.
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] انظر: فواز طرابلسي: تاريخ لبنان الحديث من الإمارة إلى اتفاق الطائف، ص350-370.
[2] الموسوعة العربية العالمية (أوربَّا).
[3] ول ديورانت: قصَّة الحضارة 13/386.
[4] محمَّد عمارة: الإسلام في مواجهة التحديَّات، ص26.