أحيانًا يستمتع البعض بالعودة للوراء قليلًا واكتشاف كيف كانت بدايات الاختراعات الرهيبة، التي غيرت حياتنا جذريًا، ومنها المكالمات الهاتفية. بدأت المكالمات الهاتفية حينما أجرى مارتن كوبر، وهو مهندس كبير في شركة موتورولا، أول مكالمة هاتفية باستخدام الهاتف المحمول في العالم، وذلك في الثالث من أبريل (نيسان) 1973، حينما اتصل بشركة اتصالات منافسة؛ ليبلغهم أنه يتحدث إليهم عن طريق الهاتف المحمول، وسرعان ما اندلعت بعد هذه المكالمة الهاتفية الأولى، مئات الاختراعات التكنولوجية والهاتفية، التي جعلت من الاتصالات اللاسلكية وسيلة لا غنى عنها في حياة مليارات البشر، تجمع الأحباب عن بعد، وتحافظ على تواصل فعال وآنِي بين الأصدقاء.
مارتن كوبر مخترع الهاتف المحمول، مصدر الصورة: (Wikimedia Commons).
انتشرت الهواتف الخلوية في الدنيا انتشار النار في الهشيم، واستخدمها الناس على نطاق واسع في كل أنحاء العالم، وهو ما أدى إلى حاجة مُلحّة لإيصال إشارة شبكات الهاتف المحمول إلى كل بيت، وكل تجمع سكاني، أو مكان يوجد فيه بشر في هذا العالم، لتلبية الحاجة الدائمة للاتصال والتواصل مع الآخرين، وهو ما دفع الخبراء للاستعانة بأبراج شبكات المحمول.
سر استعانة شركات المحمول بهذه الأبراج
وجد المختصون أن أنسب وسيلة لتقوية شبكة الهواتف الخلوية وإيصالها لكل مكان، هي وضع أبراج لشبكات الهواتف الخلوية في التجمعات السكنية وخارجها، وهذه الأبراج هي مبانٍ مرتفعة أو أعمدة رأسية طويلة، تحوي معدات وهوائيات إلكترونية، تستقبل وترسل من خلالها إشارات التردد اللاسلكي، بما يسهّل إجراء المكالمات الهاتفية، وغيرها من الاتصالات اللاسلكية.
وبشكل أبسط، عند إجرائك مكالمة صوتية عبر هاتفك، فإن هاتفك يصدر موجات كهرومغناطيسية، يتلقّاها الهوائي في أقرب برج شبكات هواتف خلوية، والذي بدوره يقوم بنقل هذه الموجات إلى «مركز تحويل»، ليوصل هذه الموجات للهاتف الخلوي الثاني، وهذا ما يسمح للمستخدمين بإجراء المكالمات.
وفي هذا العالم اللاسلكي، يغطي كل برج من هذه الأبراج مساحة جغرافية معينة، بشكل يضمن عدم وجود ثقوب في التغطية، أو تداخل في الإشارات، وهو ما يتطلب من المهندسين اختيار موقع البرج بعناية شديدة، لبناء شبكة متماسكة تلبي جميع احتياجات المستخدمين في تلك المنطقة.
هل يمكن ألا تضرّ هذه الأبراج بصحتنا؟ الأمر يختلف بين أمريكا والدول النامية
يستخدم الناس، بطبيعة الحال، الهواتف المحمولة في إجراء المكالمات، وهو ما يعني الكثير من الإشارات اللاسلكية المترددة ذهابًا وإيابًا بين أبراج شبكات الهواتف الخلوية، فيسبب انتشارًا لتلك الإشارات في محيط المكان، حيث يتعرض لها الناس بشكل مستمرّ.
مصدر الصورة: Institute for Geopathology.
يقلّل بعض الخبراء بمنظمة السرطان الأمريكية من تأثير تلك الموجات عند مستوى سطح الأرض، لتقطّعها وعدم استمراريتها، فتكون كمّيّة الطاقة أقل منها مقارنة بالمستويات العليا القريبة من هوائيات أبراج شبكات الهاتف الخلوي؛ إذ تنخفض كمية الطاقة بسرعة مع زيادة المسافة عن هوائي البرج، فيصبح مستوى التعرض لتلك الموجات عند مستوى سطح الأرض منخفضًا جدًا مقارنة بالمستوى القريب من الهوائي.
ويؤكد هؤلاء الخبراء أن كمية طاقة تلك الموجات على مستوى سطح الأرض أقل بآلاف المرات من الحد الأقصى الآمن للتعرّض الذي تحدده لجنة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية وغيرها من السلطات التنظيمية، لكن الخطورة تكمن في الاقتراب الشديد من تلك الهوائيات، أو التّعرّض المباشر لها، وهو ما ينبغي الحذر منه.
وجودها خطر تمامًا كالمواد المخدرة في الدول النامية!
يفرح الناس كثيرًا حين يتمكنون من الوصول لشبكة اتصال أقوى، تتيح لهم استخدام هواتفهم في كافة أرجاء المنزل، وقد يشعرون بالضيق الشديد عند تذبذب شبكة الاتصال اللاسلكية أو ضعفها في إحدى نواحي المنزل، ظنًّا منهم أن لسوء حظهم التواجُد في منطقة سكنية تضعف فيها شبكة الاتصالات، لكن ما لا يعرفه كثيرون أن هذا قد يكون لحسن حظهم لا غيره، إذ على عكس رأي خبراء منظمة السرطان الأمريكية، تأتي آراء كثيرة ضد أبراج شبكات الهاتف الخلوي؛ إذ تشدّد الوكالة الدولية للبحوث المتعلّقة بالسرطان، التابعة لمنظمة الصحة العالمية، أن أبراج الهاتف المحمول هي أبراج قوية جدًا، تسبّب أمراضًا مختلفة للأشخاص الذين يقيمون في نطاق 50 مترًا من هذه الأبراج.
وذهبت الوكالة إلى أبعد من ذلك، فقالت إن الإشعاعات الناتجة عن هذه الأبراج مسرطنة للإنسان، وقد تسبب سرطان الدماغ، إذ تؤثر على صحة الإنسان نفس الآثار التي يتعرّض لها عند وجوده في مكان محاط بمواد الكلوروفورم المخدرة، والرصاص، والبنزين العادم، بالإضافة لمادة الدي دي تي المحظورة في أمريكا.
وتضيف الوكالة أن قِيم الإشعاع الناتج عن هذه الأبراج أقلّ بكثير من حدوده القصوى المسموح بها، لكن في كثير من البلدان النامية لا توجد قواعد منظّمة للإشعاع الناتج عن هذه الأبراج، ولم تُراعَ المناطق السكنية أو المدارس أو المكاتب أو المستشفيات أو الملاعب في محاولات تقليل التعرض للإشعاع.
حتى الطيور والأجنة لم تَسلم من هذه الأبراج
مع أن السرطان يعدّ أخطر تهديد لمن يعيشون في محيط أبراج الهاتف المحمول، لكنه ليس هو التهديد الوحيد بحسب الخبراء، إذ يعاني الناس في تلك المناطق غالبًا من مشاكل صحية أخرى، مثل اضطرابات النوم، والتعب والإعياء، والصداع الذي قد يصل لمشاكل في الذاكرة، مع الاكتئاب، ومشاكل السمع، وآلام المفاصل، والأمراض الجلدية، بالإضافة لمشاكل القلب والأوعية الدموية.
Embed from Getty Images
طيور متجمعة عند أحد أبراج شبكات الهاتف المحمول.
ويلاحظ الخبراء أن أعداد الطيور تتضاءل كثيرًا في مناطق أبراج شبكات الهواتف الخلوية، مع تضرر جماجم الأجنة وصغار الطيور، وقشور البيض، وهو ما ينطبق أيضًا على الأجنة الذين لم يولدوا بعد؛ إذ لهم جماجم أرقّ، فيصبحون أكثر تأثرًا بالإشعاع، وهو من أخطر آثار وجود أبراج شبكات المحمول في المناطق السكنية، وهو أمر مروع حقًا.
هل يصل الأمر لخصوبة الرجال؟
تعدى خطر أبراج شبكات الهواتف الخلوية أكثر مما يتوقع كثيرون؛ إذ تكشف دراسات علمية أجريت في عام 2007، أن 25% من الأشخاص الذين يقيمون في نطاق 300 متر من أبراج شبكات الهاتف الخلوي، يعانون اضطرابات هرمونية، مع اختلاف في إفرازات المواد الكيميائية التي يفرزها المخ، وأن من يسكنون في حدود تلك الأبراج لمدّة عشر سنوات، معرّضون للإصابة بالسرطان؛ مثل سرطان البروستاتا، وسرطان البنكرياس، وسرطان الثدي، وأمراض الرئة والجلد، وذلك بنسبة تفوق ثلاثة أضعاف عن غيرهم.
ويؤكد الدكتور جمال شعبان، نائب رئيس المعهد القومى للقلب في مصر السابق، أن الانبعاثات الناتجة عن هذه الأبراج تؤثر بشكل مؤقت على مستوى خصوبة الرجال، بجانب آثار سلبية على المخ والقلب، لما تسببه من قصور في الدورة الدموية في الجسم، يسبب تيبسًا في الأطراف، وأوضح شعبان أن الدول المتقدمة تنقل تلك الأبراج خارج المناطق السكنية، وهو ما يحدث عادةً في الدول النامية ومنها العديد من الدول العربية.
ومع الأهمية القصوى للاتصالات الهاتفية، فلم يعد أحد يستطيع أن يستغني عنها ولو ليوم واحد، لكنها كعادة أغلب التقنيات التكنولوجية، لا تكاد تنطوي على مميزات، حتى تتكشف فورًا عيوبها الفتّاكة، وهو ما يتطلب حرصًا وانتباهًا عاليًا في التعامل معها، وإبعاد كافة أشكال التكنولوجيا والهواتف الذكية من حولنا بعض الوقت، ولو فقط خلال النوم.