تتدلى اعذاقها النضدة عن يمين وشمال، وجذعها الباسق يرتوي ماءاً من أبي الخصيب، ومثيلاتها المئات ينتشرن بأرجاء المدينة، فيضفيان عليها جمالا وروعة .. هي أم النخيل في قضاء أبي الخصيب في البصرة..
أبو الخصيب مركز لناحية تابعة لقضاء شط العرب قديماً، ثم أصبح أخيراً قضاء في البصرة، ويطل أبو الخصيب على شط العرب من بدايته حتى نهاية حدوده الإدارية مع قضاء الفاو، ويقع إلى جنوب البصرة ويبعد عنها مسافة (20) كم، ويقع على النهر المتفرع من شط العرب.
وأبو الخصيب بلدة قديمة جنوب العراق، قد سكنتها الكثير من العوائل التي هاجرت من نجد والحجاز وذلك بسبب موجة الجفاف والقحط التي ضربت تلك المناطق خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وبلغ مجموع سكان مركز القضاء حسب إحصاء 1947 (41841) نسمة.
وقد برز من أهل أبي الخصيب رجال في العلوم الشرعية والعلوم الأخرى مثل الشعر والأدب والرياضة وغيرها ومن هؤلاء الرجال الشاعر المعروف (بدر شاكر السياب)، والعالم المعروف عبد الله بن يوسف الجديع العنزي، وهو معروف في أنحاء العالم الإسلامي، وقال عنه الشيخ الألباني -رحمه الله- في كتابه تحريم آلات الطرب
اشتهر أهل أبي الخصيب بزراعة النخيل بأنواعه مثل الحلاوي الساير والبرحي، قيل ان أول نخلة برحي كان مولدها في أبي الخصيب في بستان آل زيدان، وسمي البرحي نسبة الى البراحة وهو نوع جديد في بساتين البصرة ولهذا يذكر هذا النوع من الأصناف القديمة من التمور في أبي الخصيب من أهم أنواع التمور في العراق والمنطقة.
كما وتنتشر شجرة السدر في أبي الخصيب، ويستفاد من خشبها لصنع الأبواب والأدوات الخشبية، كما تستعمل قشور جذوره كمادة لصبغ الملابس لأن هذه القشور حمر اللون ومن انواع النبق الذي تثمر به أشجار السدر في أبي الخصيب: النبق التفاحي والبمباوي والملاسي، ويتكاثر السدر بسرعة وذلك لسهولة تركيبه وتتم عملية التركيب في شهر نيسان.
ويشتهر في أبي الخصيب صناعة حلاوة (نهر خوز)، وقد أطلق على حلاوة نهر خوز تسمية (ماكنتوش أبو الخصيب)، ولكن يبدو ان هذا الاسم لم يعجب الخصيبيين لأن (نهر خوز) هذه القرية الجميلة في أبي الخصيب هي صاحبة براءة الاختراع لهذا النوع من الحلويات.
يمتد عمر النخيل في بلاد الرافدين إلى أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد،وتشير المراجع إلى انها زرعت في اريدو جنوب العراق، وهذه المدينة هي مدينة الحضارة الإنسانية قبل الطوفان حيث ثبت أنها مثالية لزراعة النخيل.
وقد اهتم السومريون والبابليون والاشوريون بزراعة النخيل وشرعت مواد دستورية من اجلها فقد جاء في شريعة حمورابي وفي نص المادة التاسعة والخمسين منها: تغريم من يقطع نخلة واحدة بنصف (مَنٍّ) من الفضة، والمن هو وحدة وزن مقدارها (64) كغم.
وكان العراق يتقدم دول العالم بأجمعها بأعداد النخيل، حيث كان هناك 90 مليون نخلة في العالم، ثلثها في العراق، وفي البصرة وحدها فكانت أعداد النخيل فيها بحدود 13 مليون نخلة حسب إحصاء عام 1952/1953، تدنت أعدادها إلى 2.7 مليون نخلة حسب إحصاء عام 1997 حيث احتلت بابل الصدارة ووصلت أعداد النخيل فيها إلى 3.370 مليون نخلة.
وأبو الخصيب عبارة عن غابة نخيل تمتد على الضفة اليمنى من شط العرب إلى مسافة بعيدة، فكان مما مّيز هذا القضاء عن غيره من الاقضية كثرة مكابس التمور المؤقتة والثابتة، وخلال موسم جني محصول التمر تزدهر حتى انها تشكل عامل جذب لكثير من الناس الذين يشدون الرحال إليه للارتزاق، حيث يقومون بجمع التمور وتعقيمها وكبسها، ثم حملها إلى الخارج، كما أقيم فيها معمل عصري لتعقيم وكبس التمور.
يقول الدكتور أسامة نظيم مدير مركز أبحاث النخيل في جامعة البصرة للرائد حول تدني أعداد النخيل في أبي الخصيب: (تعرضت أعداد كثيرة من النخيل في المنطقة الجنوبية إلى إبادة تامة جاوزت أعدادها 20 مليون نخلة، فضلاً عن ان الأعداد المتوقعة من الفسائل التي كان يجب زراعتها خلال العشرين سنة الأخيرة التي تقرب اعدادها من 20 مليون فسيلة، لم تتم زراعتها وبذلك فقد العراق موقعه كأول بلد للنخيل في العالم).
وأضاف نظيم للرائد: (وبعد اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية تراجعت كميات التمور المصدرة وقل تسويقها، كما هجر أعداد هائلة من الفلاحين، وعزوف الناس عن خدمة بساتينهم، وخصوصا في المنطقة الجنوبية، حيث تحولت بساتين أبي الخصيب في البصرة إلى ساحة للعمليات العسكرية واستمرت الحالة هكذا حتى سنة 1989، فتحولت عمليات البيع والتصدير للتمور العراقية إلى الشركة العراقية لتسويق التمور التي تحولت بعدئذ إلى قطاع مختلط سنة 1991 لم يقم إلا بتصدير جزء يسير من هذه التمور).
تشكو جداول قضاء أبي الخصيب كغيرها من الجداول والأنهر في البلاد من نقص ملحوظ بمناسيبها، الأمر الذي يؤثر سلبا على بساتين القضاء التي كانت إحدى أبرز معالمها، وكان يتميز القضاء قبيل الحرب العراقية-الإيرانية بكثرة أنهاره الكبيرة التي تتفرع عنها نهيرات لا حصر لها، بحيث أصبح هذا القضاء بستاناً من النخيل يعتمد في إروائه على مياه المد من شط العرب.
المقالة منقولة بتصرف
والصور بعدسه حيدر مصطفى الناصر