اللادينيُّون:
وهم مَنْ لا يؤمنون بدين، ولا يعتقدون في إلهٍ على الإطلاق، وهذه الفئة ظلَّت تُمَثِّل الشذوذ البشري طوال التاريخ الإنساني[1]، ولكنَّ الأمر أخذ في التصاعد منذ تزايد الصراع مع الكنيسة في أوربا، وهذا ما حَدَا بكثيرٍ من الفلاسفة والمؤرِّخين أن يُهَاجموا الدين كلَّه ويرمونه عن قوسٍ واحدة، ويُنتجون فلسفاتٍ تُحاول تفسير الحياة والوجود بغضِّ النظر عن الإله.
كان اكتشاف نيوتن لقوانين الحركة[2] ضربةً قاسيةً للمعتقدات الكنسيَّة، التي تقول: إنَّ كلَّ شيءٍ يحدث في هذا الكون إنَّما يتمُّ بقدرة الله؛ إذ إنَّها تقول: إنَّ الحركة الموجودة في الكون تتمُّ طبقًا لقوانين محدَّدة، ولا تتمُّ برعاية الله، ولا تتدخَّل فيها السماء، ثُمَّ ما لبث نيوتن أن تكلَّم عن قانون الجاذبيَّة الذي فسَّر حركة الأجسام الرأسيَّة أيضًا.
وبعد أن نفت آراء كوبرنيكوس (ت 1543م) وبرونو (ت 1600م) وجاليليو (ت 1642م) بشكل ضمني قيمة الأرض بالنسبة إلى الكون، وبالتالي احتمال نزول إلهٍ إليها دون غيرها، إذًا نظريَّة نيوتن تُدَمِّر وجود الإله نفسه، وتنفي أنَّ هناك مشيئة تُسَيِّر الكون، بل إنَّها قوانين حركةٍ صارمةٍ وطبيعيَّة، ولا علاقة لها لا بالخير ولا بالشر ولا بالإيمان ولا بالكفر.
لم يلبث الأمر طويلًا حتى ظهر في ساحة المعركة عالم الأحياء الشهير تشارلز دارون (ت 1882م)، وهو الذي قاده عمله -في مراقبة العلاقة بين الكائنات الحيَّة وتفاعلاتها، وكيف تنسجم مع بيئتها وتتكيَّف معها- إلى أن يقول: إنَّ الكائنات تتطوَّر تبعًا لظروفها وحاجاتها المعيشيَّة، وأنَّها ترتقي إلى كائنات أفضل. ونحن نتوقَّع أنَّه لولا أجواء الصراع التي اعْتُبِرَ فيها العلمُ ضدَّ الدين والدينُ ضدَّ العلم لما تطوَّرت أفكار دارون إلى هذه النتيجة التي تُخالف رُوح البحث العلمي، وتقترب من الرأي العقدي، فلو كانت الأجواء هادئة لكانت النتيجة الطبيعيَّة أن يُقال: سبحان الذي خلق فسوى وقَدَّر فهدى.
ومن الدلائل على هذا أنَّ مندل الذي تُنسب إليه قوانين الوراثة، كانت أبحاثه تُثبت أنَّ الأنواع لا تتغيَّر ولا تتطوَّر، بل يُمكن تحسين صفاتها فقط عن طريق التهجين، غير أنَّ أجواء الصراع كانت تتقبَّل قوانين دارون وتُهمل قوانين مندل؛ لأنَّ المعركة الدائرة لا تقبل بالحلِّ الوسط فإمَّا الدين وإمَّا العلم.
وبين هذه المراحل الثلاثة (كوبرنيكوس وجاليليو، ثُمَّ نيوتن، ثُمَّ دارون) كانت هناك غابةٌ كثيفةٌ من الفلاسفة والأدباء والمفكِّرين الذين كانت آراؤهم في مجملها تُهاجم الكنيسة بعنف، وهذه هي المرحلة التي وُلد فيها الفكر الغربي الذي يرفض وجود الإله، ويعتمد مبادئ الصدفة أو التطوُّر أو الشكِّ، ويُعلي من قيمة العقل، وينقل السلطة والتشريع من الإله إلى الشعب.
ومن ثَمَّ استقرَّ الفكر الأوربِّي على نظريَّتَيْن لتفسير الكون: الأولى استمدَّها من أرسطو، الذي قال: إنَّ الإله قد خَلق الكون، وخلق بداخله القوانين التي تُنَظِّمه، ثُمَّ تركه؛ لأنَّه أعظم من أن يهتمَّ بشيءٍ أقل منه، ويُمثَّل لهذه الحالة بصانع الساعة الذي وضع فيها قوانين الحركة وتركها. والثانية: أنَّ الإله -في الحقيقة- ليس إلَّا جزءًا من الطبيعة ذاتها وخاضعًا لقوانينها، أو هو قانونها وسرُّ قوَّتها الذي بمزيد من المعرفة يُمكن فهمه وإدراكه من خلال دراسة قوانين الطبيعة وسُنَّة الكون؛ وسواءٌ تجلَّى الإله في مخلوقاته حتى يكاد يتوحَّد معها، أو انسحب من الدنيا تمامًا وتركها وشأنها، فإنَّ هذا يعني تهميش الإله[3].
لكن بقيت في هذا الإطار حلقة رابعة أَلَا وهي كارل ماركس، وهو الذي تأثَّر هو وصديقه فريدريك إنجلز (ت 1895م) بدارون، فتجمَّعت السلسلة التي قادت إلى الفكر المادي، ليُقال في صراحةٍ بمبدأ الشيوعيَّة الكبير: "لا إله - الحياة مادة - الدين أفيون الشعوب - كلُّ التاريخ البشري يُمكن تفسيره وَفق حاجات ماديَّة فقط". وكانت الحاجة الماديَّة عند ماركس هي الجوع والمسألة الاقتصاديَّة، هذا الاتجاه بُنِيَتْ عليه الثورة الشيوعيَّة التي أحدثت انفجارًا في زيادة عدد الملحدين في العالم إلى هذه اللحظة.
ولا شكَّ أنَّ الإلحاد يُمثِّل رابطة تجمُّع بين معتنقيه على اختلاف رؤاهم التفصيليَّة، وهي رابطةٌ تتَّفق في استبعاد الإله، كما تتَّفق في إحلال الإنسان أو العقل الإنساني في مكان المرجعيَّة التي تتولَّى أمر التفسير والتشريع.. وما إلى ذلك.
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] مانع الجهني: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة 2/803.
[2] مع الاكتشافات العلمية للتراث العلمي العربي تبيَّن أنَّ آراء كوبرنيكس وجاليليو وبرونو ونيوتن قال بها قبلهم بمئات السنين العلماء المسلمون.
[3] عبد الوهاب المسيري: العلمانيَّة الجزئيَّة والعلمانيَّة الشاملة 1/118، 119.