تُمثِّل الكلمات والألفاظ والمصطلحات دورًا كبيرًا في إيصال المعاني إلى الناس، ومن البلاغة أن يختار الإنسان اللفظ المناسب، حتى ولو كان له عشرات المترادفات، ولقد اشتهر بين الناس أنَّ العرب كانوا يُطلقون على الشيء الواحد أسماءً كثيرةً جدًّا، قد تتجاوز المئات أحيانًا! ولكن فاتهم أن يذكروا أنَّ هذه التعريفات العربية الكثيرة للشيء الواحد لم تكن قط متساوية، بمعنى أنَّ كلَّ تعريفٍ له دلالاته الخاصَّة، وليس مساويًا تمامًا للتعريف الآخر، فعلى سبيل المثال نحن نقرأ قول الله عز وجل: )فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ( [الأنعام: 14]، ونقرأ قوله: )خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ( [الأنعام: 102]. فيظنُّ البعض أنَّ الكلمتين مترادفتان، ويظهر ذلك بوضوحٍ عند الترجمة؛ ففي اللغة الإنجليزية -مثلًا- نجد أنَّ هذه الكلمة قد تُرجمت في الحالتين إلى "Creator"، بينما الحقيقة أنَّ كلَّ كلمةٍ لها دلالتها الخاصَّة، ومعناها اللغوي العميق، والفرق الطفيف الذي بينهما قد يُحدث أثرًا مختلفًا تمامًا عند السامع، خاصَّةً إن كان عليمًا باللغة وأسرارها[1].

وما قلناه على اللغة العربيَّة نقوله كذلك على اللغات..

ومن ثَمَّ كان لزامًا على المفكِّرين والفلاسفة أن يُراعوا هذا جيِّدًا عند إطلاق المصطلحات التي تُعَبِّر عن أفكارهم؛ لأنَّه كثيرًا ما يُخالف التعبير اللغوي ما يقصده المفكر والفيلسوف، فيُحدِثُ خسارةً من حيث يرجو الربح، ويُحقِّق ظلالًا سلبيَّة، بينما كان الغرض السير بإيجابيَّة نحو معنى معيَّن.. ولا بأس بالعودة إلى علماء اللغة المتخصِّصين وإشراكهم في مثل هذه المسائل حتى تخرج الكلمة معبِّرة تعبيرًا دقيقًا عن كوامن نفس العلماء والمفكرين.

قَدَّمْتُ هذه المقدِّمة لأتناول بالنقد مصطلحًا صار شائعًا بين العلماء والمفكِّرين، المهتمِّين بقضايا التواصل بين الشعوب، والحوار بين الحضارات، ومع أَنَّي على يقين أنَّ الذين استخدموا هذا اللفظ يُريدون معانٍ إيجابيَّةٍ في هذا الشأن، وتحمل كتبهم مضامين رائعة في التواصل، إلَّا أنَّ دلالات المصطلح قد تكون مغايرة تمامًا للمقصود، ومن ثَمَّ رأيتُ أنَّه من الواجب -في ظلال النظريَّة- أن نقف عنده ونُحلِّله.. وهذا المصطلح المقصود هو مصطلح "الآخر"!

لقد تداول كثيرٌ من العلماء المهتمِّين بقضايا التواصل والحوار بين الشعوب هذا اللفظ معبِّرين به عن الشعوب التي نرغب في التواصل معها، ولعلَّه يذكر في كلماته كلَّ التقدير والاحترام له، لكنَّه نسي أنَّه من البداية يُعَرِّفه على أنَّه "آخر"!

وكلمة "الآخر" بدلالاتها اللغويَّة المعروفة تُوحي بالمغايرة والاختلاف؛ فنحن شيءٌ، وهم شيءٌ "آخر"، وهذا من البداية يضع حواجز بين الفريقين.. حتى لو كانت هذه الحواجز لا شعوريَّة، أو غير متعمَّدة..

ونحن في نظريتنا هذه أثبتنا أنَّ الاشتراك بين البشر كبيرٌ جدًّا ومتعدِّد، وأنَّ معظم هؤلاء "الآخرين" مثلنا، وأنَّ أوجه التشابه لا حصر لها، وذلك على كلِّ المستويات الفكريَّة والاجتماعيَّة والدينيَّة والحياتيَّة.. وغيرها، فلماذا الحديث عن غيرنا من الشعوب والحضارات على أنَّه "آخر"؟!

إنَّني -انطلاقًا من النظريَّة- أُرَشِّح مصطلحًا بديلًا أراه مناسبًا عند الحديث عن الحضارات أو الشعوب أو الأفراد، الذين لا يُكَوِّنُون جزءًا من مجتمعاتنا، إنَّما ينتمون إلى مجتمعات غيرنا، وهذا المصطلح البديل هو: "الشريك"!

فواقع الأمر أنَّ أيَّ إنسانٍ هو شريكٌ لغيره من البشر في هذه الحياة، وأيَّ شعبٍ هو شريكٌ للشعوب الأخرى على هذا الكوكب، وهذه الشراكة هي التي تُعَمِّر الأرض وتُنَمِّيها، والكلمة تُلقي بظلالها التعاونيَّة والتواصليَّة على العلاقات بين الشعوب، وهي تفتح القلوب حتى قبل أن تشرح وتتكلم.. فما أجمل أن تبدأ كلامك بأن هذا الموضوع يخصنا ويخص شركاءنا في الحياة! فكم من جبال الجليد ستذوب! وكم من الحواجز ستسقط عند هذا الاستهلال الهادئ!

ولقد تناولنا في نظريَّتنا كثيرًا كلمة "المشترك"، وهي ليس تخديرًا للناس، بل هي الحقيقة؛ فالنَّاس "شركاء" في أمور كثيرة ذكرناها في النظريَّة؛ بل إنَّ هذا اللفظ تحديدًا استخدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حديثه عن العلاقة بين الناس عامَّةً، والذين لا تربطهم ببعضهم البعض روابط دم أو نسب، فقال صلى الله عليه وسلم: "النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلأ وَالنَّارِ"[2].

ولقد بنينا العلاقة السليمة في هذه النظريَّة على مسألة تحقيق المصلحة "المشتركة"، فهي نوعٌ متواصلٌ من الشراكة مع الناس، وأظهرنا مدى النجاح الذي يُحقِّقه المجتمع الذي يُبْنَى على تحقيق المصالح المشتركة، ومدى رقيِّ الحضارات التي تتعامل بهذا المنطلق، ووضح لنا أنَّ الحب والكرم والإيثار هي النتائج المباشرة لسيادة مبدأ تحقيق المصلحة "المشتركة" في المجتمع، والمصلحة المشتركة تعني شراكة بين اثنين أو أكثر، فصار كلُّ واحد منهم شريكًا لأخيه الإنسان، وليس "آخر" لا نعرفه ولا يعرفنا.

إنَّني على قناعةٍ تامَّةٍ أنَّ القلوب القاسية قد تلين بكلمةٍ طيِّبة، وأنَّ الأبواب المغلقة تُفتح بمثل هذه الكلمة، وعلى قناعةٍ كذلك أنَّ كلمة "الشريك" من الكلمات الطيِّبة التي قد تُوَثِّق العلاقات بين الدول والحضارات، حتى قبل أن يبدأ الحوار!

كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] راجع في ذلك كتاب الفروق اللغويَّة لأبي هلال العسكري، ص407.
[2] أورده ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام (272) وقال: رجاله ثقات. وهو بلفظ: "المسلمون شركاء..." رواه: أبو داود (3477)، وابن ماجه (2472)، وأحمد (23132) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. والبيهقي (11612).