تحدَّثنا في السابق عن أمورٍ كثيرةٍ جدًّا انبثقت من النظرية[1]؛ مثل: تعريف الهوية، والشعوب، والحضارات، وقيام الأمم وسقوطها.. وغير ذلك من معانٍ تُغَيِّر من مسار الإنسانيَّة كلِّها.. إنَّها أمورٌ يُمكن أن تُسعد البشر أيُّما سعادة، ويُمكنها كذلك -إن لم يُنْظَر إليها- أن تُشقي البشر كلَّ الشقاء!

هذه التغيُّرات الكونيَّة من ارتقاءٍ وهبوط، ومن قيامٍ وسقوط لحضاراتٍ ودول، ولشعوبٍ وأمم.. هذه التغيُّرات كبيرة.. من أين تبدأ؟!

إنَّ من أعجب العجب أنَّها تبدأ من جزءٍ صغيرٍ لا يزيد حجمه عن قبضة اليد! وهذا الجزء هو القلب!

وأنا لا أسعى في هذا الكتاب إلى طرح أفكارٍ روحيَّةٍ لا يقتنع بها عامَّة البشر؛ إنَّما أُناقش هذا الأمر مناقشةً علميَّة، يجتمع عليها المسلمون والنصارى واليهود؛ بل ويجتمع معهم على هذه المعاني أتباع الديانات الوضعيَّة والملاحدة.

إنَّها نظريَّةٌ صيغت لتقارب شعوب الأرض مهما اختلفت عقائدهم وأعراقهم.. ومن هنا فإنَّني لا أسعى إلى مناقشة الفرق بين القلب والعقل، ولا أسعى إلى تعريفٍ تشريحيٍّ فسيولوجيٍّ لهذه الأعضاء؛ إنَّما القلب الذي أقصده قد يكون هو العقل في فلسفاتٍ أخرى.. فالمهمُّ هو الوصول إلى المراد، والمراد هو لماذا يختار الإنسان التعارف أحيانًا؟ ولماذا يختار التصادم أحيانًا أخرى؟ ولماذا يشيع "الحب" في مجتمع؟ ولماذا تشيع "الكراهية" في مجتمعٍ آخر؟ وأين يتَّجه البشر إذا تحابُّوا؟ وأين يتَّجهون إذا تباغضوا؟

إنَّها وقفةٌ مهمَّةٌ لا بُدَّ لكلِّ عقلاء العالم وعلمائه ومفكِّريه أن يقفوها مع شعوبهم، ولو أدركت الشعوب هذه المعاني، لتغيَّر شكل الأرض كثيرًا!

ماذا يحدث في القلب؟

إنَّه يحدث نزاعٌ دائمٌ بين رغبتين.. أمَّا الرغبة الأولى فهي رغبةٌ تبحث عن الخير، والخير المقصود هو خيرٌ عامٌّ للإنسان ولمن حوله من البشر، ومِنْ ثَمَّ فهذه الرغبة تدفعه إلى البحث عن خير نفسه، وكذلك عن خير الآخرين، أو حسب ما تناولناه في النظريَّة تبحث هذه الرغبة عن "المصلحة المشتركة"! وعلاقة المصلحة المشتركة هذه علاقة خَيِّرَة، وليست علاقة شريرة كما يظنُّ البعض، فهي ليست علاقةٌ "ماديَّة"؛ إنَّما علاقةٌ "واقعيَّة"، بل إنَّني أراها علاقةٌ "أخلاقيَّة"، فما الضير أن أبحث عن مصلحتي؟! لكن شريطة ألَّا أضرَّ بمصالح الآخرين، ومن هنا يُمكن أن أفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه للمؤمنين: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ"[2]. وليس المقصود هنا النفع الأخروي فقط؛ بل اللفظ عام، ويشمل نفع الدنيا والآخرة، لكنَّنا نفهم هذا الحديث في ضوء التوجيه القرآني الجامع الذي قال فيه الله عز وجل: )إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ( [البقرة: 190]. وفي ضوء قوله تعالى: )وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ( [القصص: 77]. فالحرص على ما ينفعني لا بُدَّ أن يكون مقرونًا بعدم الاعتداء على حقوق الآخرين، ويكون مقرونًا كذلك بعدم الفساد في الأرض.. وهذه هي المصلحة المشتركة التي أعنيها.

فهذه هي رغبة الخير في القلب..

تتنازع مع هذه الرغبة في القلب رغبةٌ أخرى شريرة، تدفع الإنسان إلى البحث عن مصلحته الذاتيَّة دون النظر إلى مصالح الآخرين، وهذا هو المذهب النفعي البراجماتي الذي نرفضه كليَّةً..

وهاتان الرغبتان موجودتان في قلوب كلِّ البشر!

بل إنَّني أزعم أنَّه ليس هناك قرار -أيًّا كان هذا القرار صغيرًا أو كبيرًا- إلَّا ويُؤخذ بعد النزاع بين هاتين الرغبتين في القلب! لأنَّه ما من عملٍ يعمله الإنسان إلَّا ويتأثَّر به غيره، سلبًا أو إيجابًا.

بل أكثر من ذلك قد ينظر الإنسان إلى منفعته الأخرويَّة، فيضرُّ بمصالح الآخرين الدنيويَّة، فلا يرضى الله عز وجل عن هذا الاختيار، الذي ضحَّى فيه العبد بمصالح الناس، حتى ولو كان العمل تعبُّديًّا أخرويًّا بحتًا!

ولعلَّ في قصَّة سلمان الفارسي رضي الله عنه مع أبي الدرداء رضي الله عنه ما يُفَسِّر لنا ذلك الأمر، فقد انتهى الموقف بتقرير حقيقةٍ أقرَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الحقيقة هي: "إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"[3]. فمع أنَّ أبا الدرداء رضي الله عنه كان مشغولًا بعبادة الله عز وجل من صيامٍ وقيام، إلَّا أنَّه ليس مسموحًا له أن يُضَيِّع حقَّ الزوجة ولا حقَّ الأولاد، ولا حقَّ الضيف.. ليس مسموحًا له أن يبحث عن مصلحةٍ فرديَّةٍ ذاتيَّةٍ -ولو كانت أخرويَّة- دون أن يُراعي مصالح الآخرين.. إنَّما كان عليه أن يبحث عن "المصلحة المشتركة" التي تُحَقِّق نفعًا للجميع.

إذًا هناك "صراع قلبي" بين رغبتين أصيلتين: مصلحته مشتركة أم مصلحة ذاتيَّة.. ماذا يحدث في المجتمع والعالم إذا تغلَّبت إحدى الرغبتين على الأخرى؟!

تعالوا نتتبَّع سلسلة الأحداث عند غلبة إحدى الرغبتين..

إذا انتصرت رغبة الخير، وبدأ الإنسان الخيِّر يبحث عن "المصلحة المشتركة"، فإنَّه لا بُدَّ أن يبحث عن آليَّات "التعارف" مع هذا الشريك، الذي سيتبادل معه المصلحة، فلا يُمكن أن أُحَقِّق مصلحةً مشتركةً مع أحد إلَّا إذا "عرفتُ" كيف يُفكر، وماذا يُريد، وما طموحاته، وما مصالحه، وما مخاوفه، وما فكرته عنِّي، وما أخلاقيَّات التعامل في أعرافه وتقاليده.. إنَّه تعارفٌ كاملٌ يُتيح للإنسان -لو كان صادقًا في رغبته- أن يُحَقِّق مصلحته ومصلحة الآخرين؛ أي: المصلحة المشتركة..

وكلَّما زاد التعارف قوَّةً زاد تحقيق الهدف نجاحًا؛ أي: زاد تحقيق مصالح مشتركة أكثر وأكثر..

والعلاقة في الوقت نفسه تبادليَّة؛ بمعنى أنَّه كلَّما زاد تحقيق المصالح المشتركة زادت الرغبة في توثيق التعارف؛ وذلك بحثًا عن نتائج إيجابيَّة أكثر وأكثر.. أي: أنَّ التعارف يزيد المصالح المشتركة نجاحًا، والمصالح المشتركة تزيد التعارف نجاحًا! إنَّها إذًا دائرةٌ مغلقة! وهي ما أُسمِّيها "الدائرة النبيلة"!

فإذا استمرَّت هذه "الدائرة النبيلة" فترةً من الزمان، وترسَّخ عن الطرفين ثقةٌ في صدق النوايا، وتحقَّقت مصالحٌ كثيرة، وتمَّ التعارف بشكلٍ أوثق وأعمق، فإنَّ عنصرًا ثالثًا -غير التعارف والمصلحة المشتركة- يدخل في "الدائرة النبيلة".. وهذا العنصر هو "الحب"!

فالإنسان بشكلٍ عامٍّ لا يُحب مَنْ يجهله، ولكي تُحبَّ إنسانًا لا بُدَّ أن تعرفه، بل لكي تُحبَّ "الله" لا بُدَّ أن تعرفه؛ لذلك نجد في القرآن الكريم ذكر الصفات الكثيرة الجليلة لله عز وجل حتى "يُحبَّه" خلقه، وهكذا نجد -أيضًا- في كلِّ الأديان السماويَّة أو الوضعيَّة، فلن يُحبًّ الإنسان أحدًا إلَّا إذا عرفه.. والحبُّ ثمرةٌ طبيعيَّةٌ للتعارف، وكلَّما ازداد التعارف قوَّة زاد الحبُّ عمقًا.. وكم من البشر كنَّا نكرههم لاختلافٍ في المناهج والأفكار والعادات.. وغير ذلك، فلمَّا "تعارفنا" عليهم وجدنا فيهم بذور خيرٍ كثيرةٍ لم نكن "نعرفها"، فانقلبت كراهيَّتنا إلى حب، وعداوتنا إلى صداقة!

واللطيف أنَّ هذا الحبَّ المتزايد يدفع إلى بحثٍ عن مصالح مشتركة أكثر وأكثر؛ لأنَّ الإنسان يُحبُّ المصلحة والخير لمن أحبَّ، وهو مصداقٌ للقاعدة التي قرَّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"[4].

وهذا يعني أنَّ "الدائرة النبيلة" أصبحت ثلاثيَّة! البحث عن المصلحة المشتركة يدفع إلى التعارف، والتعارف يُورث الحب، والحب يدفع إلى مصالح مشتركةٍ أكثر، فتدفع المصالح المشتركة الإنسان إلى تعارفٍ أكثر، وهكذا!

فإذا دارت هذه "الدائرة النبيلة" فترةً من الزمان بشكلها الجديد وازداد الحبُّ في القلب ازديادًا حقيقيًّا دون تكلُّفٍ ولا اصطناع دَخَلَ عنصرٌ رابعٌ في الدائرة، وهو عنصر الكرم! ولا يدخل هذا العنصر السامي في الدائرة إلاَّ إذا كان الطرفان محافظين تمامًا على كلِّ المشتركات الإنسانيَّة بينهما.

والكرم هو عطاء بلا مقابل.. فهنا يُصبح أحد الطرفين على استعداد أن يُعطي الطرف الثاني أكثر ممَّا يستحق، لا لشيءٍ إلَّا لأنَّه يُحبُّه حبًّا جمًّا!

هذا خلقٌ سامٍ -لا شَكَّ- يجعل العلاقة رائعة وممتعة، ويُصبح البحث عن مصالح مشتركة أمرًا فطريًّا تمامًا وتلقائيًّا، فأنت لو تعاملت بكرمٍ مع أحد الأطراف، فإنَّك تأسره بهذا الكرم، ومن ثَمَّ سيبحث هذا الطرف عن مصالح مشتركةٍ جديدةٍ مع هذا الكريم، والمصالح المشتركة ستدفع إلى تعارف، ثُمَّ إلى حب، ثُمَّ من جديد إلى كرم.

فإذا استمرَّت هذه "الدائرة النبيلة" فترةً أطول من الزمان، وأصبح الكرم عنصرًا أصيلًا فيها، فإنَّه قد يدخل فيها عنصرٌ خامسٌ وأخير، وهو في الحقيقة نادر، وهو عنصر "الإيثار"! والإيثار خُلُقٌ عجيب؛ حيث يرتقي فيه الإنسان إلى سموٍّ نادر، يُشجعه على العطاء للآخرين حتى لو تسبَّب هذا العطاء في ضررٍ ذاتيٍّ له! والإيثار بهذا يختلف كثيرًا عن الكرم؛ فالكريم يُعطي من فضل ماله وملكه الآخرين دون مقابل، أمَّا في الإيثار فالمعطي هنا يُعطي من المال أو الملك الذي يحتاجه، فهذا عطاءٌ ينفع الآخرين، ويضرُّه هو!

وإذا كنَّا قلنا: إنَّ الكريم يأسر النَّاس بكرمه، فما بالكم بالذي يُؤْثِر الناس على نفسه؟! إنَّه ما مِن شكٍّ أنَّ الجميع سيسعى إلى التعامل معه، والتعارف عليه، وتقوية العلاقة به، وسيُصبح شكل الأرض مختلفًا، وستكتمل "الدائرة النبيلة"، وتسعد الدنيا باكتمالها





هذا كلُّه يحدث إذا غَلَّب الإنسان رغبة المصلحة المشتركة -وهي رغبة الخير في قلبه- على رغبة المصلحة الذاتيَّة، دون النظر إلى مصالح الآخرين، وهي رغبة الشرِّ في القلب..

كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] نظرية المشترك الإنساني (نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب) للدكتور راغب السرجاني.
[2] مسلم: كتاب القدر، باب في الأمر بالقوَّة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله (2664) عن أبي هريرة، وابن ماجه (79)، وأحمد (8777)، والبيهقي (20668).
[3] آخى النبي r بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: إنَّ أخاك أبا الدرداء ليس له حاجةٌ في الدنيا. قال: فلمَّا جاء أبو الدرداء قرَّب إليه طعامًا، فقال: كُلْ. قال: فإنِّي صائم. قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكل. قال: فأكل، فلمَّا كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم، قال له سلمان: نَمْ. فنام، ثُمَّ ذهب يقوم، فقال له: نَمْ. فلمَّا كان عند الصبح، قال له سلمان: قُمِ الآن. فقاما فصلَّيَا، فقال: "إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ". فأتيا النبي r فذكرا ذلك، فقال له: "صَدَقَ سَلْمَانُ". البخاري: كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوُّع ولم يرَ عليه قضاء إذا كان أوفق له (1867)، والترمذي (2413) عن ابن أبي جحيفة واللفظ له.
[4] البخاري: كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (13)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أنَّ من خصال الإيمان أن يُحب لأخيه... (45) عن أنس بن مالك.