بدهيٌّ نتيجة التصنيف السابق للحضارات (تعارفية وتصادمية ومنغلقة) ونتيجة شرح منظومة "السُّلَّم الحضاري" أن نتوقَّع أنَّ الدول أو الحضارات التي ستكون في أعلى السُّلَّم ستبقى مدَّةً أطول، وهذا البقاء سيكون مستقرًّا وآمنًا، أمَّا الدول أو الحضارات التي ستقبع في أسفل السلم "وتقنع بذلك" فهي لن تبقى على قيد الحياة طويلًا!

وهذا يعني أنَّ النظريَّة تُعالج أمرًا جديدًا مهمًّا، وهو الإسهام في تفسير مسألة "قيام الأمم أو سقوطها".

لا شَكَّ أنَّ عوامل بناء الأمم كثيرةٌ ومتعدِّدة، وهي وإن كانت تختلف من مكانٍ إلى مكان، أو من زمانٍ إلى زمان، إلَّا أنَّ هذا الاختلاف ليس كبيرًا في المعتاد؛ فهناك في العادة قواعد معيَّنة تقوم على أساسها الأمم بشكلٍ عامٍّ، وقواعد أخرى تسقط بسببها الأمم كذلك؛ بل أنا على قناعةٍ أنَّ قيام وسقوط الأمم هو جزءٌ من السنن الكونيَّة الثابتة، ومن ثَمَّ فيُمكن أن نُحَدِّد له أُطُرًا معروفة، وأسبابًا واضحة.

وبناء على النظريَّة يُمكن أن نقول: إنَّ من أبرز العوامل التي تُساعد الأمم على القيام هو قدرة هذه الأُمَّة على استيعاب الشعوب والعرقيَّات المختلفة داخلها، وتَوَفُّر المنهج الصالح الذي يهدف إلى التعارف بين الأطياف البشريَّة المختلفة الموجودة في الأُمَّة، الذي يُتيح لهذه الأمَّة أن تُكَوِّن علاقات سويَّة مع مَنْ حولها ممَّا يكون له أبعد الأثر في بقائها واستقرارها، وإذا عدنا إلى ما ذكرناه في النظرية في موضوع المشتركات الإنسانيَّة المختلفة، وتذكَّرنا الترتيب الذي ذكرناه من حيث إنَّ المشترك الأسمى وهو العقيدة يأتي من القمَّة، ثُمَّ المشتركات العامة، فــ الخاصة، وأخيرًا الداعمة، إذا تذكرنا ذلك أدركنا أنَّ الأمَّة التي تحرص على هذه المشتركات ستقوم أسرع وأقوى، وكلَّما كان الاهتمام بالمشتركات الأعلى كان البقاء أطول، وهكذا.

وعلى النقيض من ذلك؛ فالأُمَّة التي ستُهمل بعض هذه المشتركات، وينشأ في داخلها أو خارجها صدام هي في الواقع تُعَجِّل بسقوطها، ولو أهملت كلَّ المشتركات سقطت لا محالة، وإذا راجعنا تاريخ سقوط الحضارات الكبرى لوجدنا فيه تعديًا صارخًا على المشتركات الإنسانيَّة، وكلَّما كان التعدِّي أكبر وعلى مشترك أعلى كان السقوط أسرع وأفجع، ولعلَّه من النادر أن تجد حضارةً سقطت تخرج عن هذا التصوُّر، ويُمكن أن تُراجعوا التاريخ، وكذلك الواقع.

إذا راجعنا تاريخ الدولة الرومانيَّة، وجدنا تعدِّيًا على معظم المشتركات الإنسانيَّة، إن لم يكن كلها، وظهر بجلاء في تتبُّع النصارى واضطهادهم في كلِّ أرجاء الدولة الرومانيَّة، ولم تنظر بعين الاعتبار للمشتركات العامَّة أو الخاصَّة، كلُّ هذا أدَّى إلى سقوطها وتشرذمها، ولقد كانت تضمُّ عشرات الشعوب في داخلها، لكنَّها فقدت القدرة على التعارف الداخلي، فحدث التفكُّك، وزاد الأمر تعقيدًا اصطدامها خارجيًّا مع القبائل الجرمانيَّة في غرب أوربَّا فكان الانهيار!

وسقوط الخلافة الإسلاميَّة العثمانية لم يكن بعيدًا عن هذه الصورة؛ فقد اختلفت فيها الصورة تمامًا عن السنوات العظيمة التي بدأت فيها القيام ثُمَّ الازدهار، فمن دولة تضمُّ عشرات الأعراق وتتكامل بتناسقٍ رائعٍ إلى دولةٍ لا تستطيع استيعاب التنوُّعات الداخليَّة إلى حدِّ هزَّ الاستقرار بشكلٍ لافت، ومن ثَمَّ بدأت العرقيَّات المختلفة في التململ، ثُمَّ الانقلاب والصدام الداخلي، ولا نعني فقط العرقيَّات غير المسلمة؛ كالتي في اليونان وبلغاريا وصربيا.. وغيرها، بل إنَّ الخلافة العثمانيَّة فشلت في استيعاب العرقيَّات المسلمة كالعربيَّة والكرديَّة.. وغيرها، ثُمَّ زاد الأمر تعقيدًا بصداماتٍ خارجيَّةٍ متتاليةٍ مع إنجلترا وفرنسا وروسيا والنمسا، فكان الانهيار!

وما قلناه عن الدولة الرومانية والخلافة العثمانية يُمكن أن تقوله عن الاتحاد السوفيتي الحديث، بل إنَّ الاتحاد السوفيتي كان أظهر في تعدِّيه على المشتركات الإنسانيَّة، وخاصَّةً المشترك الأسمى، وكذلك المشتركات الإنسانيَّة العامَّة، ونتيجة هذا التعدِّي على قمَّة المشتركات كان سقوطه مروِّعًا ومفاجئًا.

إِذَنْ تُوَضِّح لنا النظريَّة سببًا قويًّا من أسباب قيام أو سقوط الأمم، وهو قدرة الأُمَّة أو فشلها في التعامل مع المشتركات الإنسانيَّة..

وعود إلى "السُلَّم الحضاري" وتصنيف الحضارات إلى تعارفيَّة في الدرجتين الأعلى، ثُمَّ الانغلاقيَّة في الدرجتين الأوسط، ثُمَّ التصادميَّة في الدرجتين الأدنى..

إنَّنا في هذا السلم الحضاري، وبعد أن ذكرنا دور التعارف أو التصادم في قيام أو بناء الأمم يُمكن أن نتصوَّر قيام الأمم على أنَّه صعودٌ في السُلَّم الحضاري، ونتصوَّر سقوط الأمم على أنَّه نزولٌ في السلم الحضاري، وهذا يعني أنَّ الأُمَّة الواحدة يُمكن أن تُرْصَد مرَّةً في المرحلة التعارفيَّة، ومرَّةً في المرحلة الانغلاقيَّة، ومرَّةً في المرحلة التصادميَّة، وعلى هذا فليست هناك أُمَّةٌ تبقى أبد الدهر في أحد هذه الدرجات؛ بل إنَّ التقلُّب بين أنواع الحضارات هو سُنَّةٌ ماضيةٌ من سُنَنِ الكون، كما أنَّ الارتقاء والهبوط للأمم سُنَّةٌ ماضيةٌ كذلك، وهذا ما نقرؤه في قول الله تعالى: )وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ( [آل عمران: 140].

ولنراجع سويًّا هذا التصوُّر..

كيف قامت الدولة الإسلاميَّة الأولى التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

لقد كان العرب قبل الإسلام أُمَّةٌ تصادميَّةٌ على المستويين الداخلي والخارجي؛ فكان يُغِير بعضهم على بعض، ويأكل القويُّ منهم الضعيف، ولا كرامة لعاجز، ولا حريَّة لعبد، بل وكانت هناك صدامات داخليَّة كثيرة؛ كالتي كانت بين الأوس والخزرج، أو بين بني هاشم وبني مخزوم، حتى وصل الأمر إلى أن قال قائلهم[1]:

وَأَحْيَانًا عَلَى بَكْرٍ أَخِينَا إِذَا مَا لَمْ نَجِدْ إِلَّا أَخَانَا

فهذه حضارةٌ لا وزن لها تقبع في ذيل السُلَّم الحضاري..

ثُمَّ كانت البعثة النبوية، وبدأ تأسيس نواة الدولة من مجموعةٍ من المسلمين داخل مكة المكرَّمة، وهذه مرحلة الحضارة الانغلاقيَّة، التي عكف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم على تربية النواة الأولى للدولة، ولم يسعَ بشكلٍ حثيثٍ للخروج من مكَّة أو إقامة علاقاتٍ تعارفيَّةٍ مع الخارج..

ثُمَّ تطوَّر الأمر إلى تكوين حضارةٍ تعارفيَّة على المستوى الداخلي في المدينة المنورة؛ حيث وَحَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأطياف المختلفة والأعراق المتعدِّدة، بل والعقائد المختلفة.. وَحَّدَ كلَّ ذلك في كيانٍ ناشئٍ جديد اسمه "الدولة الإسلاميَّة"، ويضمُّ في داخله مسلمين ويهود ومشركين، ويضمُّ مهاجرين قرشيِّين عدنانيِّين، وأنصارًا أوسًا وخزرجًا قحطانيِّين، ويضمُّ عربًا وغير عرب، كما يضمُّ الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والكبار والأطفال، وكلٌ يجد نفسه دِعامةً للدولة، وبلغ التعارف والتعايش ذروته بمسألة المؤاخاة المشهورة.

ثُمَّ تطوَّر الكيان الجديد مع الوقت حتى دخل في مرحلة التعارف الخارجي؛ أي: مرحلة الحضارة التعارفيَّة الأعلى التي تنجح على المستويين الداخلي والخارجي، وهذه قمَّة السُلَّم الحضاري، وفيها راسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوك العالم وتعارف عليهم.

إنَّ ما حدث مع دولة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو إلَّا نموذج لقيام الحضارات.. وقد حدث هذا على المساحة الصغيرة التي كان يعيش فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنَّ هذا النموذج قابلٌ للتطبيقات مع كلِّ الكيانات، الكبرى منها والصغرى كذلك.

فالصعود بإيجاز هو صعودٌ من حضارةٍ تصادميَّةٍ إلى حضارةٍ انغلاقيَّة، ثُمَّ إلى حضارةٍ تعارفيَّةٍ داخليًّا ثُمَّ خارجيًّا.. هكذا تُبْنَى الأمم..

وأمَّا السقوط فعكس ذلك! تفقد الأُمَّة القويَّة قدرتها على التعارف الخارجي، ثُمَّ تفقده على المستوى الداخلي، ثُمَّ تدخل في مرحلة التقوقع والانغلاق، وتكون النهاية بصدامٍ خارجيٍّ وداخليٍّ يُفَتِّت الأُمَّة إلى شراذم..

ولنأخذ مثالًا على ذلك من سقوط دولة عبد الرحمن الناصر رحمه الله وابنه الحكم بن عبد الرحمن الناصر..

لقد كانت هذه الدولة في مجدها من أعظم دول العالم، إن لم تكن أعظمها مطلقًا، وكانت لها القدرة الكاملة على التعارف العالمي، والتواصل مع كافَّة ملوك الأرض وشعوبها، وكانت كذلك مستقرَّة داخليًّا، ومتمتِّعة بدرجةٍ كبيرةٍ من التعارف الداخلي بين أطيافها المختلفة (من 300 إلى 368هـ).

ثُمَّ تقلَّصت هذه العلاقات التعارفيَّة تدريجيًّا، بل وتقلَّصت على المستوى الداخلي، ودخلت الدولة في طور "الحضارة الانغلاقيَّة"، وهي الفترة التي عُرفت في التاريخ بعهد الدولة العامريَّة نسبة إلى محمد بن أبي عامر (368-399هـ).

ثُمَّ أخيرًا دخلت في مرحلة التصادم غير السوي، سواءٌ على مستوى الخارج أو حتى الداخل، فتَفَتَّت الدولة إلى دويلات كثيرة متصادمة لا وزن لها، وهو العهد الذي عُرف بعهد "ملوك الطوائف" (399 إلى 479هـ).

لقد انتقلت الحضارة من المرحلة التعارفيَّة إلى الانغلاقيَّة ثُمَّ التصادميَّة.. وهذا هو سقوط الأمم!

وبالطبع فليس الصعود أو الهبوط حادًّا كما قد يتصوَّره القارئ؛ فالانتقال من مرحلةٍ إلى أخرى لا يعني أنَّ الحضارة انتقلت كليَّةً دون أيِّ رواسبٍ أو بقايا.. بمعنى أنَّ الحضارة يُمكن أن تنتقل من الحالة التعارفيَّة إلى الانغلاقيَّة، لكن يظلُّ لها بعض العلاقات التعارفيَّة، ويظلُّ في قصَّتها بعض الصور التي تدلُّ على التعارف الإيجابي، وقد يكون على العكس فيها بعض صور التصادم إلى جوار التعارف.. فحديثنا هنا عن الصورة "الأغلب"، التي تكون عليها الحضارة، وعادةً لا تكون هذه الصورة خالصةً تمامًا.

وعامل الزمن وإن كان مهمًّا في الصعود والهبوط، أو القيام والسقوط، إلَّا أنَّه ليس هو العامل الأهم والأعظم؛ فقد تبقى أُمَّةٌ في إحدى المراحل فترةً طويلةً جدًّا قد تصل عشرات أو مئات السنين! وقد تتجاوز إحدى هذه المراحل في سنواتٍ قليلة.

ممَّا سبق يتبيَّن لنا أنَّنا يُمكن أن نرصد أُمَّة من الأمم في أيِّ حالةٍ من الحالات الحضاريَّة الثلاثة الذي ذكرناها؛ ومن ثَمَّ فنحن لا نستطيع أن نحكم حكمًا إجماليًّا على حضارةٍ من الحضارات، إنَّما نحكم عليها في زمنٍ معين، وقد يتغيَّر حكمنا عليها في زمنٍ آخر، وهي قد تتحرَّك من النقيض إلى النقيض، وليس الخلافة العباسيَّة في زمان هارون الرشيد كالخلافة العباسيَّة في زمان المستعصم بالله، وليس التتار في عهد جنكيز خان هم التتار في عهد بركة خان!

كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] البيت للقطامي، وهو لقبٌ غلب عليه، واسمه عمير بن شييم، وهو شاعرٌ إسلاميٌّ مُقِل، وكان نصرانيًّا فأسلم، وكان فحلًا في الشعر، رقيق الحواشي، كثير الأمثال. انظر: ديوان الحماسة 1/128، والمبرد: الكامل، ص17، والمرزوقي: شرح ديوان الحماسة 1/104.