إنَّ نظريَّة "المشترك الإنساني" أردنا لها أن تكون الداعي إلى تجمُّع البشر بين المشتركات الموجودة بالفعل بيننا جميعًا، وأن تكون وسيلة التعريف بسبل التعارف والتقارب بين الشعوب جميعًا.. لكن لا يعني هذا أنَّ النظريَّة قد أحاطت بكلِّ ما هو مطلوبٌ في هذا الباب.. بل إنَّني أنظر إليها على أنَّها حلقةٌ في سلسلةٍ طويلةٍ من الأعمال والدراسات والنظريَّات، التي استهدفت جميعًا سعادة الإنسان في هذه الأرض، وبحثت عن راحته، واهتمَّت بحقوقه ومطالبه، وسعت إلى الحفاظ عليه وحمايته.
والنظريَّة في الوقت نفسه قراءةٌ جديدةٌ للقرآن الكريم، وللسُّنَّة النبويَّة المطهرة، وللتوراة والإنجيل، ولأقوال الفلاسفة والعلماء والمفكِّرين من شتَّى بقاع الدنيا، وفي كلِّ مراحل التاريخ.. فليس الْمُخْرَج منها هو جهدُ فردٍ أو أفراد؛ إنَّما هو نتاج جهود البشر جميعًا في فهم كتبهم السماويَّة، وفي تقييم تجاربهم الإنسانيَّة في الحياة.
وهي في ذاتها استكمالٌ لجهود السابقين من العلماء الأجلَّاء الذين أبدعوا نظريَّات وفلسفات تهدف إلى نشر ثقافة السلام، وإلى الحفاظ على الإنسان، وإلى الرحمة به، والعناية بأمره.
ولعلِّي أُشير هنا أنَّني وجدتُ -على غير اتِّفاقٍ وترتيب- توافقًا كبيرًا بين نظريتي هذه ونظريَّة "مقاصد الشريعة"[1] التي تكلَّم عنها أبو حامد الغزالي رحمه الله، وتبعه في ذلك خَلقٌ كثيرٌ من علماء أصول الفقه وغيرهم.
فمقاصد الشريعة في رؤية الغزالي خمسة؛ هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
وقد توافقت معها في قطاعٍ كبيرٍ من النظريَّة؛ حيث إنَّ حفظ الدين تمثَّل عندي في المشترك الأسمى وهو العقيدة، وحفظ النفس والنسل فتمثَّل لديَّ في مشتركٍ من المشتركات العامة، وهو مشترك الاحتياجات الأساسيَّة، الذي منها كلُّ شيءٍ يحفظ النفس من الهلاك، ومنها كذلك حفظ الأسرة التي تُعتبر من الاحتياجات الأساسيَّة للإنسان، وأمَّا حفظ العقل فجاء عندي بشكلٍ مباشرٍ في المشتركات العامَّة، تحت عنوان "العقل"، وأخيرًا حفظ المال رأيناه متمثِّلًا في مشترك "التملُّك"، وهو من المشتركات الإنسانيَّة العامَّة في النظريَّة.
وهذا يعني أنَّ مقاصد الشريعة الخمسة في رؤية الغزالي ومَنْ وافقه من العلماء قَدْ استوعبتُها في نظريَّتي في المشترك الأسمى، وفي بعض المشتركات العامَّة، التي أوضحتُ أنَّ التعدِّي عليها يُمثِّل جرمًا كبيرًا يقود حتميًّا إلى صدام.
لكنَّني في الوقت نفسه اختلفتُ مع نظريَّة مقاصد الشريعة في عدَّة أمورٍ أحسب أنَّ مناقشتها مهمَّة..
فأنا أرى في هذه النظريَّة أنَّ مقاصد الشريعة الإسلاميَّة تحديدًا، وكذلك مقاصد الأديان السماويَّة بشكل عامٍّ، أوسع من هذه المقاصد الخمسة فقط.
فلو قلتَ: إنَّ المقاصد الرئيسة للشريعة هي عبارةٌ عن المشترك الأسمى والمشتركات الإنسانيَّة العامَّة؛ باعتبار أنَّ الإنسان لا يستطيع بحالٍ أن يعيش دونها، لتبيَّن لنا أنَّ مقاصد الشريعة أكثر من هذه الخمسة المذكورة.
فمن مقاصد الشريعة -مثلًا- موضوع الأخلاق، وخاصَّة الأخلاق الأساسيَّة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ"[2]. فهذا مقصدٌ مباشرٌ صريحٌ في كلامه صلى الله عليه وسلم؛ ومن ثَمَّ صار حفظ الأخلاق من مقاصد الشريعة! ومن مقاصد الشريعة -كذلك- تكريم الإنسان، ومظاهره في الشريعة لا تُحصى، وبالتالي يُصبح حفظ الكرامة من مقاصد الشريعة.
ومن المنظور نفسه سنجد أنَّ الشريعة جاءت لتحفظ للإنسان حريَّته، وعلمه، وعمله.
فهذه خمسةٌ جديدة أُضيفت لمقاصد الشريعة: حفظ الأخلاق، والكرامة، والحريَّة، والعلم، والعمل. فتُصبح مقاصد الشريعة عشرة!
أعلم أنَّنا من الممكن أن نُدخل هذه الخمسة الجديدة تحت أحد العناوين التي اقترحها الغزالي ~؛ فيدخل العلم -مثلًا- تحت العقل، ويدخل الخُلق تحت الدين، لكنِّي في الواقع أرى أنَّ هذه الخمسة الجدد كليَّات كبرى ينبغي ألَّا تُذكر عنوانًا جانبيًّا تحت عنوانٍ أعمَّ.
بل إنَّني يُمكن أن أقول: إنَّ الشريعة جاءت كذلك لتحفظ "هويَّة" الإنسان، المتمثِّلة في المشتركات الإنسانيَّة الخاصة؛ فهي تحفظ له أرضه التي يعيش عليها، وتحفظ له عِرْقَه المتمثِّل في أسرته ورحمه وعائلته الصغرى والكبرى، وتحفظ له لغته التي يعتزُّ بها، وغير ذلك من مشتركات.. بل تحفظ له عاداته وتقاليده التي لا تتعارض مع الشريعة، بل أكثر من ذلك تُعتبر هذه العادات والتقاليد جزءًا من الشريعة نفسها، إذا راعت أصول الشريعة ولم تتعدَّ عليها، وهو ما يُعرف في أصول الفقه "بالعُرف".
ولا تعجبوا إن قلتُ: إنَّ من مقاصد الشريعة -كذلك- حفظ المشتركات الإنسانيَّة الداعمة، التي تُرَوِّح عن الإنسان، وتُزيل الملل عن قلبه، وتُعينه على أداء مهامِّه الكبرى في الدنيا، بشرط ألَّا تُخالف بندًا من بنود الشريعة.
إنَّ مقاصد الشريعة تتَّسع بهذا المنظور حتى تُصبح عشرين! وهي المشتركات التي ذكرتها في النظريَّة!
ولعلَّ هناك بعض الأسباب التي أدَّت إلى هذا الاختلاف والتباين بين نظريَّة المشترك الإنساني ونظريَّة مقاصد الشريعة..
من هذه الأسباب -مثلًا- أنَّ نظريَّة الفقيه الجليل أبي حامد الغزالي كانت منصبَّة على الجوانب الفقهيَّة، التي يجب أن ينظر إليها الفقيه والحاكم ليُوَفِّرُوها لكلِّ إنسان في المجتمع المسلم، بينما نظرتُ في رُؤيتي إلى الجوانب الإنسانيَّة الأخرى في حياة البشر؛ كالأخلاق والاهتمامات والآمال والرؤى.
ومنها كذلك أنَّه كان كعادة الفقهاء ينظر إلى الجوانب الماديَّة في نظريَّته، ولا يشمل في هذه الرؤية الجوانب الروحيَّة، وإن كان الغزالي رحمه الله في كتاباتٍ أخرى كثيرة -لعلَّ من أهمِّها "إحياء علوم الدين"- ينظر إلى الجوانب الروحيَّة والأخلاقيَّة بشمولٍ عجيب، لكنَّه في النظرة الفقهيَّة يتعامل بطريقة الفقهاء العلميَّة، فهم حين يتحدَّثون -مثلًا- عن الصلاة يكون محور اهتمامهم أركانها وسننها ونواقضها، وغير ذلك من أبوابٍ فقهيَّة، بينما لا يُشملون رُؤيتهم هذه جوانبَ الخشوع والتفكُّر ورُوح الصلاة، وهل تنهى عن المنكر أم لا؟ وما إلى ذلك من جوانب يهتمُّ بها علماء الرقائق والأخلاق.
فهو ليس قصورًا إذًا في رؤيته رحمه الله بقدر خدمتها مجالًا محدَّدًا، بينما تخدم نظريَّتي مجالًا أوسع..
ومن أسباب الاختلاف -أيضًا- أنَّ الغزالي رحمه الله كان ينظر في هذه الرؤية إلى الفرد في الأساس وليس إلى المجتمع، ولم يُعَلِّق على المجتمع كثيرًا معتمدًا على أنَّ صلاح الفرد سيُؤَدِّي إلى صلاح المجتمع، لكنَّ الواقع أنَّ هناك بشرًا كثيرين يكونون على حالةٍ من الانضباط الفردي الشديد لكنَّهم لا يُحسنون التعامل مع حقوق الآخرين؛ ومن ثَمَّ فالنظرة إلى المجتمع لا بُدَّ أن تكون واضحةً في الرؤية.. وأنا في نظريَّتي لم أنظر إلى المجتمع المسلم فقط، بل نظرتُ إلى كلِّ مجتمعات الإنسانيَّة، ولم يكن همِّي هو علاقة المسلم بأخيه المسلم فقط، ولا حتى علاقة المسلم بغير المسلمين في مجتمعه، بل كان همِّي هو علاقة المجتمعات الإنسانيَّة ببعضها البعض، حتى إنَّني كثيرًا ما خرجتُ عن المجتمعات الإسلاميَّة كليَّةً، وضربت الأمثلة من تعاملات مجتمعات غير مسلمة مع مجتمعات أخرى غير مسلمة كذلك، فلم تكن مساحة نظريتي هي الأُمَّة الإسلاميَّة، ولكن مساحة النظريَّة كانت تشمل الأرض بكاملها.
وأخيرًا فإنَّ الإمام الغزالي رحمه الله كان ينطلق من الشريعة الإسلاميَّة فقط، وهذا رائعٌ -لا شكَّ- عند الحديث عن الفقه الإسلامي والأحكام داخل الأُمَّة الإسلاميَّة؛ لكنَّني -ولكونِّي أتعامل مع قضيَّةٍ إنسانيَّةٍ عالميَّة- حرصتُ على تتبُّع آراء المفكِّرين والمنظِّرين والفلاسفة من كلِّ بقاع الأرض، وليس في مرحلةٍ تاريخيَّةٍ محدَّدة، بل في كلِّ مراحل التاريخ؛ لأبحث متجرِّدًا عن طموحات كلِّ البشر، وعن أحلامهم، وعن رؤيتهم للكون الذي يعيشون فيه؛ ومن ثَمَّ أستطيع أن أجد "شيئًا مشتركًا" بينهم يُمكن أن يجتمعوا عليه.
إنَّ هذه المقارنة ينبغي بحالٍ ألَّا يُنظر إليها على أنَّها انتقاصٌ -حاشا لله- من علماء أجلَّاء أَثْرَوْا تاريخ الإنسانيَّة كلِّها، وليس تاريخ المسلمين فقط؛ إنَّما هو جهدٌ فكريٌّ قُصِدَ من ورائه لفت النظر إلى حاجتنا إلى التجديد المستمرِّ في نظرتنا في الشريعة والفقه، وكذلك في أفكار وأقوال العلماء، وعندها سيظهر لنا في كلِّ يومٍ جديد، وهذه هي روعة الشريعة، وكذلك هي دعوةٌ للاستفادة من ميراث الإنسانيَّة كلِّها، ومن أفكار كلِّ المصلحين من كلِّ الأجناس ومراحل التاريخ، بشرط ألَّا تتعارض هذه الأفكار مع أصول العقيدة والشريعة، وألَّا تهزَّ ثوابت الأُمَّة.
وأنا على يقينٍ أنَّ مَنْ يقرأ النظريَّات السابقة في فهم أصول التعامل بين المجتمعات الإنسانيَّة، ثُمَّ يقرأ نظريَّتي، فإنَّه سيأخذ من هذا وذاك، ثُمَّ يُبدع في إخراج نظريَّةٍ جديدةٍ اعتمدتْ على ما سبقها من جهود، وهكذا يظلُّ الإنسان الرشيد بادئًا من حيث انتهى إخوانه في الإنسانيَّة، وشركاؤه في الحياة.
والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل..
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] الغزالي: المستصفى، ص174.
[2] الحاكم عن أبي هريرة: كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، من كتاب آيات رسول الله r التي هي دلائل النبوة (4221)، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. والبيهقي في سننه الكبرى (20571).