إنها تلك الأسئلة التي تخطر على بال أطفال الحضانة، أو على بالك أنت شخصيًا بينما تحدق في السقف المظلم قبل أن تخلد للنوم مباشرة. للوهلة الأولى تبدو تلك الأسئلة سخيفة غير منطقية على الإطلاق، وهي كذلك بالفعل في معظمها لذا سنختار منها ما يبدو سخيفًا في الظاهر فقط لكنه ذو تفسير علمي سيهمك معرفته!
وسؤال مقال اليوم السخيف (السؤال هو السخيف وليس المقال أو اليوم من فضلك): لماذا لا يروي عطشنا إلا الماء؟ أعني أنك قد تتناول قدحًا من الشاي أو حتى كوبًا من المياه الغازية المثلجة، لكنك ستحتاج بعدها دومًا لتجرع كوب من الماء البارد لإرواء عطشك. لماذا هو الماء تحديدًا هو ما تشعر معه بلذة الإرتواء؟!
بشكل عام وأساسي، لا تستطيع أن تبقى على قيد الحياة دون ماء، فالماء يمد جسمك بالأكسجين ويغذي خلاياه، و”يغسله” حرفيًا من السموم، وينظم حرارته ويبقي على الجلد رطبًا ويلطف حركة المفاصل، بل ويحافظ على شهيتك مفتوحة لتناول الطعام بشكل طبيعي ومنتظم. صحيح أن أي مشروب آخر كالعصائر، والألبان، وحتى القهوة والشاي يحوي ماءً في تركيبته وأثناء تحضيره، إلا أن الماء يبدو مشروبًا سحريًا بالمقارنة بهم. فهو لا يحوي أي سُعر حراري أو أي إضافات قد تسبب لك مشاكل تتعارض مع حميتك أو صحتك.
هكذا قد تنجح أي من المشروبات الأخرى في الإبقاء على حياتك وحمايتك من التجفاف، لكن يبقى السؤال الحيوي نفسه: لماذا الماء دون بقية السوائل والمشروبات الأخرى هو ما يستطيع إرواء عطشنا حقًا؟
ما هو العطش، ولماذا نشعر به؟
العطش هو الشعور أو الرغبة بشرب شيء ما، الماء في أغلب الأوقات. وفي المارجع الطبية، نجد أن العطش هو آلية حيوية لتأمين حصول الجسم على قدر كاف من السوائل المرطبة. مع العطش نشعر بأن حلقنا جاف وكأنما يحترق، ولا نرتاح إلا بإخماد النيران الصغيرة الجائعة وترطيب فمنا وحلقنا حتى الإمتلاء.
لكن في الواقع، فالعطش مرتبط بإنخفاض كمية السوائل خارج الخلية Extracellular Fluid Volume أو زيادة أسمولية بلازما الدم plasma osmolality. أسمولية تعني ببساطة تركيز جُسَيمات المُذَاب (ذائِبَة) لكل كيلوجرام من المُذيب (السائل)، وهنا فالمذاب هو الماء والمذيب هو الدم، ومع زيادة جسيمات الماء الذائبة في الدم، يحتاج الجسم إلى المزيد منها فينشأ الشعور بالعطش. لهذا يلجأ الأطباء لقياس أسمولية بلازما الدم لتشخيص بعض الحالات المرضية مثل الجفاف، والسكري.
ما يحدث هنا هو أن انخفاض حجم السوائل خارج الخلية (Extracellular fluid volume (ECFV يتسبب في إنخفاض ضغط الدم ومن ثم تتنبه مستشعرات الضغط Baroreceptors بأجسامنا والتي تنظم ضغط الدم إلى ما يحدث فيتولد الشعور بالعطش كي تحفزك على منح الجسم مزيدًا من الماء. الأمر نفسه يحدث عند زيادة أسمولية بلازما الدم، حيث تتنبه حينها مستشعرات الأسمولية Osmoreceptors في الغدة النخامية إلى ما يحدث مما يولد الرغبة في شرب الماء أو العطش. حالما نحصل على القدر الكاف من الماء، تتراجع مستويات ECFV والأسمولية إلى معدلاتها الطبيعية من جديد، ومن ثم يزول الشعور بالعطس لزوال الحاجة له.
ولماذا الماء تحديدًا؟
الجسم البشري يتكون من الماء بنسبة 55% إلى 78% حسب حجم الجسم. ولكي يعمل الجسم البشري بشكل سليم، يحتاج إلى تناول ما بين لتر واحد إلى سبعة لترات من الماء كل يوم لتجنب التجفاف. مقدار الماء المطلوب هنا يختلف باختلاف نشاط الشخص وحرارته ورطوبة الجو وعوامل أخرى. لكن مرة أخرى لماذا الماء تحديدًا هو الأمثل لإرواء عطشنا ومنع التجفاف؟!
لأن الكود المدسوس بجيناتك منذ آلاف السنين يقضي بهذا! أي مشروب آخر غير الماء قد يكون مفيدًا بنسبة أو بأخرى، لكن جسمك سيطلب الماء دومًا كونه الأمثل في تلبية إحتياجاتك. لا شيء يحل محل الماء … لا قهوة، أو شاي أو عصير طازج طبيعي، فلكل مشروب آخر خواص وآثار خاصة به أشبه بالأجندة التي ينفذها. الماء وحده هو الذي لا يملك أجندة خاصة به، وهكذا عندما يدخل أجسامنا نستطيع استخلاص ما نحتاجه منه حقًا أما الشاي والقهوة والعصائر والكحوليات وأي مشروب آخر فهو يملك أجندة خاصة ينشغل بتنفيذها ما أن يدخل جسمك عن طريق المعدة بالإستعانة بالسكر أو الكافيين بتركيبهما الكيميائي الذي لا يعجب جسمك. القهوة وعصير القصب ومشروب المياه الغازية قد يكون خيارًا عظيمًا بالفعل لكن جسمك سينظر له باعتباره طعام بسعرات حرارية وليس ماء في الواقع.
بالإضافة لهذا، ووفق دراسات حديثة قام بها علماء أعصاب بجامعة ميلبورن الأسترالية على مجموعة من الأشخاص شملت 20 رجلًا وامرأة بصحة جيدة وتضمنت إجراء مسوحات مقطعية بالرنين المغناطيسي للمخ قبل وبعد شرب الماء عقب مجهود بدني عنيف ولد لديهم شعورًا بالعطش؛ وجدوا أن تناول الماء العادي دون إضافات وخلافًا لأي مشروب آخر مهما كانت جودته ينشط مناطق معينة في المخ وتحديدًا القشرة الحزامية الأمامية والقشرة المدارية الجبهية Anterior Cingulate Cortex and the Orbitofrontal Cortex وهي مناطق ترتبط بإتخاذ القرارات العاطفية والشعورية.
أي أن أمخاخنا مبرمجة للتعرف فقط على الماء والرضا به لتوليد الشعور بالإرتواء؛ بالتنسيق بالطبع مع مستقبلات أسمولية بلازما الدم ومستقبلات ECFV التي تحدثنا عنها. ليس هذا فحسب، بل أن عقولنا قد تطورت كذلك كي تقيس درجة التشبع بالماء، حيث لاحظ الباحثون أنفسهم نشاطًا زائدًا في مناطق البوتامين، المخيخ والقشرة الحركية Putamen, Cerebellum and Motor Cortex في المخ عندما ارتوى المشاركون من الماء. وخمنوا ماذا؟ هذه المناطق تحديدًا هي المسئولة والمشاركة في مراقبة وتنسيق الحركة لدينا! لهذا نشعر بأن طعم الماء لم يعد محببًا حالما ارتوينا وتضيق فتحة المرئ لا إراديًا حينها لحثك على الإكتفاء.
هذا مدهش ومثير بالفعل! لكن ماذا يتبقى لنا هنا للإجابة على سؤالنا الذي ترون أنه لم يعد “سخيفًا” على الإطلاق؟ أجل، هناك ذلك السؤال الجوهري الأخير …
أيهما أفضل: الماء الساخن أم المثلج؟
بعدما رأينا أن العطش شعور عقلي في المقام الأول لإمداد جسمنا بالماء الذي نفقده بالتعرق وغيرها من الأنشطة، فلربما لاحظتم كذلك أن الماء البارد يروي عطشنا أسرع من الماء الساخن مع ثبات الحجم والتركيبة والخواص. فما الذي يحدث هنا حقًا؟
الماء الدافيء أو الساحن سيخدع عقلك بالشعور بأن ما يدخل جسمك أقرب لوجبة أو طعام قد يزيد من عطشك أو على الأقل لن يرويك جيدًا، بينما سيثير الماء البارد أو المثلج الشعور بالنشاط وترطيب جوفك وتبريده مما سيجعلك تشعر بالإرتواء أسرع. لكن في الواقع، يستطيع جسمك امتصاص الماء أسرع بكثير وهو في درجة حرارة الغرفة، بينما سيبذل المزيد من الطاقة لرفع درجة حرارة الماء المثلج عندما يدخل جسمك! أي أن تناول الماء المثلج قد يولد لديك الشعور بالعطش بمعدل أسرع، والأفضل هو تناول ماء الصنبور أو قنينة الماء مباشرة بعيدًا عن المبرد.
في النهاية ترون أنه لا داعي لتعقيد عملية بسيطة كشرب الماء في الواقع وفي الظروف العادية. فقط أعتقد أنه سيكون من الرائع تذكر ما قرأتموه بالأعلى حال إنقطاع الماء في ظهيرة يوم قائظ أو أثناء رحلة سافاري في قلب الصحراء!