لم يعد أحدٌ في كلِّ هذا العالم الآن بمنأى عن آثار التلوُّث البيئي، حتى ولو لم يكن مساهمًا في صناعته؛ فكلُّ المناطق حول الأرض متأثرةٌ بنوعٍ أو أكثر من أنواع التلوث.

العالم الإسلامي باعتباره قلب العالم يتعرَّض لكثيرٍ من هذه المؤثرات وإن كان غير مساهمٍ في أسباب هذا التلوث؛ ولذا تُمثِّل قضية البيئة مشكلةً في واقع الأمة الإسلامية خصوصًا في هذا الوقت الحالي الذي تُعاني فيه من ضعفٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ كبير.

في إطار الحديث عن أزمة استثمار الموارد البيئية في العالم العربي والإسلامي نجد أنَّ الأزمة تتمثَّل في ثلاثة وجوه؛ أوَّلها: الموارد المهدرة وهي التي تُوجد لكن لا يُوجد من يستثمرها إمَّا عجزًا أو من قبيل سوء التخطيط والإدارة. وثانيها: الموارد المستغلَّة أجنبيًّا؛ حيث أدَّت كثيرٌ من التطورات السياسية والتاريخية والعسكرية إلى السيطرة الأجنبية على مواردٍ بيئيةٍ موجودة في العالم العربي والإسلامي، من أهمها وأبرزها مورد النفط في العالم العربي. وثالثها: الموارد المستثمرة بشكلٍ سيئ؛ حيث يُؤدِّي الاستعمال غير الرشيد لهذه الموارد إلى استنزافها وسرعة نضوبها، كما يُؤدِّي إلى عدم الانتفاع بها بالشكل المرجوِّ منها.

أولًا: موارد مهدرة:

إذا كان العالم العربي والإسلامي في مجمله يقع في المنطقة الصحراوية ويُعاني من ندرة المساحة في الأراضي الصالحة للزراعة، فإنَّ السودان على سبيل المثال يُعاني من عجزه عن استثمار المساحات الهائلة من الأراضي الخصبة.

تبلغ مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في السودان 202 مليون فدان؛ أي ثلث المساحة الكلية للسودان، لا يُستغل منها إلا خمسها فقط (21%) بواقع 42 مليون فدان فقط، هذا إلى جانب الأراضي الأخرى التي تشغلها الغابات بمساحة 65 مليون فدان، والمراعي بمساحة 215 مليون فدان، وتشكو كلُّ هذه المساحات من ضعف التمويل والاستثمارات وضعف البنى الأساسية وتخلُّف التقنيات والنظم الإدارية[1].

يُزيد الشعور بالأزمة الكائنة في استثمار هذه الموارد أن نعلم أنَّه على الرغم من كون هذا الجزء القليل هو فقط المستثمَر من الأراضي السودانية، فإنَّ الزراعة هي النشاط الرئيسيُّ والرائد في الاقتصاد السوداني، وإنَّه يُساهم في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تقترب من النصف، (في عام 2006م كانت نسبة القطاع الزراعي والحيواني 39.2%، ومعدل النمو 8.3%)، وإنَّه يستوعب 75% من القوى العاملة ويعيش عليه 70% من السكان، ويُساهم بحوالي 90% من العائدات غير البترولية، وبحوالي 90% من حصيلة الصادرات من النقد الأجنبي[2].

كما يمتلك السودان أعلى ثروة حيوانية بالنسبة للبلاد العربية والإفريقية؛ إذ يبلغ العدد 140 مليون رأس من الغنم والبقر والإبل، وهذه الثروة الحيوانية تعيش على المراعي الطبيعية التي تملأ الأرض السودانية، وهي تكفي برأي المراقبين لأن تجعل العالم العربي يعيش في وفرة[3].

ليس بالضرورة أن تكون الموارد المهدرة متوافرة بكثرة في البلدان العربية، بل قد تُعاني الموارد من الندرة والهدر أيضًا، وعلى سبيل المثال: فإنَّ ندرة المياه التي يُضاعف من شدَّتها انتشار التلوث فيها، تُعتبر في الوطن العربي واحدًا من أهمِّ التحديات الرئيسة التي تتطلَّب معالجتها جهدًا مكثَّفًا في غياب الأساليب المثلى لترشيد استخدام المياه السطحية، والجوفية، ومياه الأمطار، ورفع كفاءة العائد الاقتصادي من وحدة المياه المستخدمة، والتغلُّب على تعدُّد المسئوليات وتوزيعها في تطبيق سياساتٍ إدارة المياه والأراضي بين العديد من المؤسسات والوزارات المختلفة، والحرص على قيام كيانٍ مؤسَّسيٍّ مستقلٍّ مسئولٍّ عن إدارة موارد المياه[4].

يُقدَّر الحجم الإجمالي لموارد المياه المتوافرة في البلدان العربية بنحو 300 مليار متر مكعب سنويًّا، تُمثِّل منها موارد المياه السطحية ما يُقدَّر حجمه الإجمالي بنحو 277 مليار متر مكعب في السنة[5]، وأكثر من نصف موارد المياه السطحية في العالم العربي مشتركٌ مع دولٍ أخرى (57%)، بمعنى أنَّ النهر قد ينبت في البلد العربي ويمرُّ ببلادٍ أخرى، أو العكس يمرُّ النهر أو يصبُّ في بلدٍ عربي وهو ينبع ويمرُّ بدولٍ أخرى، ولهذا فإنَّ العلاقات القائمة بين هذه الدول المشتركة في الموارد يشوبها التوتر والاضطراب ومعرَّضة لنشوب المشكلات[6].

من المشكلات الكبرى -أيضًا- مشكلة "التراخي في العالم العربي في استخدام الأدوات الاقتصادية الحديثة في قضايا البيئة، مثل: اقتصاديات ومحاسبات البيئة ومصادر الثروة الطبيعية، وفي استخدام أساليب التقويم المختلفة: الاستراتيجي والتراكمي والمشروعات وتحليل المخاطر ودورة حياة المنتج"[7].

كذلك تعاني المنطقة العربية من ندرة الأراضي؛ إذ تُعدُّ نسبة 54.8% (أكثر من نصف مساحة العالم العربي) من مساحتها أراضي خالية، وتُمثِّل المراعي منها نسبة 26.8%، ونسبة الأراضي الصالحة للزراعة 14.5% فقط، ولكن لا تُمثِّل نسبة الأراضي المزروعة إلَّا 29 في المائة (أقل من الثلث) من مساحة الأرض القابلة للزراعة أي 4.2% فقط[8].

ثانيًا: موارد مستغلَّة أجنبيًّا.. البترول نموذجًا:

للبترول في العالم العربي قصةٌ عجيبةٌ وتمتلئ بالمآسي، وتصلح لأن تكون عنوانًا على كافَّة أنواع سوء الاستثمار البيئي، وعلى تأثير غياب التعاون الإسلامي والعربي المشترك حول قضية النفط بما جعله سببًا في التنافر بدل أن يكون ورقة ضغط.

تبدأ القصة[9] أو المشكلة في كون العالم العربي الذي "يسيل نفطًا" لا يستطيع استخراج ولا تصدير نفطه بإمكانيَّاته الذاتية، بما جعل الأمر طوال عقد الخمسينيات والستينيات في يد الشركات الأجنبية، وتحديدًا في يد خمس شركاتٍ أمريكية وشركتين بريطانيتين عُرفتا في عالم السياسية باسم "الشقيقات السبع" (إكسون - تكساسو - موبيل - ستاندركاليفورنيا - جلف - بريتش بتروليم - شل)، وكانت هذه الشركات هي المسيطر الفعلي على عالم النفط في العالم غير الشيوعي في ذلك الوقت، وكانت رأس الحربة الغربية في هذا المجال.

لقد صنعت هذه الشركات بسيطرتها الفعلية على عالم النفط أزماتٍ اقتصادية وسياسية بالغةَ التأثير على العالم الإسلامي؛ لقد كانت وحدها تملك القدرة على اكتشاف واستخراج البترول، وبالتالي رفع الإنتاج أو خفضه، ومن ثَمَّ التأثير على السياسة العربية والإسلامية والعالمية بغير كثيرٍ مشقة، فعلى سبيل المثال:

حين قامت ثورة مصدَّق في إيران وعزلت الشاه عام 1951م، واتخذ مصدَّق إجراء تأميم النفط تمَّت محاصرة إيران، وزادت الشركات في اكتشافات النفط في الكويت والسعودية والعراق، حتى انخفضت الأسعار وصار مصدَّق في وضعية المفلس، ثُمَّ دبرت المخابرات الأمريكية الانقلاب على مصدَّق بعد أن فشلت في التفاهم معه على صيغةٍ ترضاها نفطيًّا في عام 1953م -وهذه الآن حقيقة اعترف بها الأمريكان[10]- وحينئذٍ عادت الشركات فرفعت الإنتاج الإيراني من النفط حتى فاق الكويت وتساوى مع السعودية.

كان من وسائل الضغط على مصر بعد إغلاق قناة السويس عام 1956م أن يترفع الإنتاج الليبيِّ من النفط فيتمُّ التصدير لأوربا وأمريكا دون الحاجة للمرور في قناة السويس، فبعد أن كان النفط لا يُعرف في ليبيا إلا من بئرٍ واحدٍ في عام 1955م، ارتفع العدد ليصل إلى 343 بئرًا في عام 1959م، بل استطاعت ليبيا بفضل الاكتشافات النفطية أن تصل في خمس سنواتٍ إلى تصدير 1.5 مليون برميل يوميًّا، وهو ما وصلت إليه السعودية في عشرين سنة. كذلك لمـَّا أُغلقت القناة مرةً أخرى في حرب 1967م تواصل الارتفاع في الإنتاج الليبي ليصل إلى 2.6 مليون برميل يوميًّا عام 1968م، ثُمَّ إلى 3.1 مليون برميل يوميًّا في عام 1969م، بما يعني أنَّ ليبيا في عام 1960 كانت تُعطي أوربا 4% من استهلاكها، فأصبحت بعد تسع سنوات (1969م) تُعطيها 41% من هذا الاستهلاك، وحتى لما قامت ثورة الفاتح من سبتمبر 1969م وتغير النظام السياسي كانت المصلحة الأمريكية والغربية في ارتفاع الإنتاج الليبي، بل وبأسعار أعلى لخدمة النظام الجديد.

حين قام الرئيس العراقِي عبد الكريم قاسم بنزع الأراضي غير المستغلَّة من قبل شركات النفط، خفَّضت الشركات الإنتاج العراقِي من النفط إلى مليون برميل يوميًّا فقط، ولم يرتفع مرةً أخرى إلا حين أُعيدت الأراضي للشركات في عام 1967م.

حينما كانت سياسة الملك سعود التصدِّي للاحتكارات الغربيَّة الممثَّلة بشركات النفط، لم يُسجل زيادة تذكر في إنتاج السعودية من النفط خلال عشر سنوات (1955 إلى 1964م)، فلما فهم الملك فيصل هذه الفعالية وخاض سياسة التعاون مع الشركات للاستفادة من النفط بدأ الإنتاج يرتفع بمعدل 5% حتى وصل إلى 18% في السنة، فيما عُرف إعلاميًّا بـ "أعجب مرحلة في الكشف وزيادة الإنتاج في تاريخ النفط كلِّه"[11].

لمـَّا كانت السياسة الأمريكية تُريد لحليفها الشاه الإيراني أن يكون هو زعيم المنطقة العربية وشُرطيها، وكانت الحالة الاقتصادية للشاه لا تسمح بتمويل برنامجٍ تسليحيٍّ كبير، كما كانت أمريكا لا تستطيع التمويل المباشر وهي خارجةٌ قريبًا من حرب فيتنام، بدأ الشاه عن رفع أسعار النفط، وهو ما حدث فعلًا في أوائل السبعينيات.

من أبرز المشكلات التي حلَّ فيها النفط سببًا وضيفًا ونتيجةً هو السيطرة الأجنبية على سياسات كثير من البلاد الإسلامية بوسائل وأساليب مختلفة أعلاها الاحتلال وأدناها الاتفاقيات والتفاهمات المشتركة، بما جعل كثيرًا من الدول العربية تدخل في منازعات بعضها مع بعض، إمَّا لحساب غيرها وإمَّا لانعدام الشعور بالمسئولية القومية المشتركة، وسعي كلِّ طرفٍ إلى التكسُّب مما يملك بالقدر الذي يستطيع؛ فالدول التي تملك مخزونًا احتياطيًّا كبيرًا يهمها أن تنخفض أسعار النفط لأنَّها قادرةٌ على إمداد الأسواق لفترةٍ طويلة ممَّا يُتيح لها مكاسب مستمرَّة تحتاج إليها في بناء صناعاتها وتقنياتها ووسائل الدولة الناهضة، بينما تضرُّ هذه السياسة ضررًا بالغًا بالدول التي لا تملك مخزونًا كبيرًا، ولا تملك التقنيات القادرة على استثمار النفط، فلا يُهمُّها أكثر من بيعه كمادةٍ خام، فإذا انخفضت الأسعار فهي كمن فقد الكنز بثمنٍ بخس.

فبدون تعاونٍ مشترَكٍ وسياسيةٍ مشترَكةٍ بين هذه الدول سيظلُّ النفط العربيُّ والإسلاميُّ مسببًا للأزمات العربية الإسلامية الداخلية، وبطبيعة الحال فإنَّ الأعداء لا يقفون موقف المشاهد من بعيد، فكيف إذا كانت لهم اليد العليا في اكتشافه واستخراجه وتسويقه؟!

فإذا خرجنا من دائرة السيطرة الأجنبية على النفط العربي والإسلامي، فإنَّ ارتباط الدول الإسلامية بمؤسساتٍ دوليةٍ وغياب التوافق العربي الإسلامي، يجعل النفط رهينًا بتوافقاتٍ دوليةٍ خارجية، ويجعل قرار النفط مرتبطًا بتوازناتٍ أخرى لدولٍ من خارج الدائرة العربية والإسلامية.

ثالثًا: موارد تُعاني سوء الاستغلال:

إنَّ من المدهش في حال البلاد العربية أنَّ استثمارها لمواردها في المجمل العام لا يتحسَّن، بل إنَّ رصد حال الصناعة في البلدان العربية يقول: إنَّها كانت في العام 2007م أقلَّ تصنيعًا منها في عام 1970م. ويشمل ذلك البلدان ذات الدخل المتوسط والقاعدة الاقتصادية المتنوعة نسبيًّا في الستينيات، مثل الجزائر وسوريا والعراق ومصر؛ أي أنَّ المشهد العام في أربعين عامًا يقول بالتراجع الصناعيِّ في البلاد العربية[12].

بالنظر إلى بياناتٍ إحصائيةٍ لبنية الناتج المحلي الإجمالي للبلدان العربية، ومساهمة كلِّ قطاعٍ اقتصاديٍّ في هذا الناتج عبر أربعين عامًا (1970- 2007م) يتضح هذا المستوى من الركود أو الهبوط، وبهذا تتأكَّد المشكلة الكبرى الموجودة لدى العالم العربي في استثمار موارده البيئية، وهي ما تُؤدِّي بطبيعة الحال إلى ثبات نوع الإنفاق أو إلى زيادة أنواع الإنفاق في الاتجاه الخطأ.

في هذا الشكل بيانٌ بشكلٍ مقارنٍ لبنية العالم العربي الاقتصادية في المجمل، ومقارنتها بأنواع الإنفاق عبر أربعة عقود.

من أبرز المؤشرات على سوء استثمار الموارد البيئية أنَّ معظم البلاد العربية كانت بضائعها المصنعة تُمثِّل أقلَّ من 11% من السلع المصدرة في العام 2006/ 2007م[13].

كما أنَّ هذا لا يعني ازدهارًا في القطاعات غير الصناعية، كالزراعة مثلًا؛ إذ إنَّ المشكلة الحقيقية في أنَّ اقتصادات الدول العربية قائمةٌ على القطاع النفطي، وتتجلَّى هذه "الهشاشة الاقتصادية" في الانخفاض الحادِّ في نصيب القطاعات الإنتاجية غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي في معظم البلاد العربية[14].

من الموارد التي تُعاني من سوء الاستغلال كذلك الغابات؛ فهي تُمثِّل بالنسبة إلى المنطقة العربية 3.9% من إجمالي المساحة الكلية، ويقع 80% منها في السودان والجزائر والمغرب، وتتعرَّض هذه الغابات لضغوطٍ متزايدة، وتفقد سنويًّا ما يُعادل 1.59%[15].

يُقدَّر مخزون المياه الجوفية في البلاد العربية بـ 7.734 مليار متر مكعب، يقع منها المخزون الأكبر والأكثر تجدُّدًا في الدول العربية في منطقة شمال إفريقيا وشرقها (تونس، الجزائر، السودان، الصومال، ليبيا ، مصر، المغرب)[16]، وعامَّةً فإنَّ المياه الجوفية وإن لم تكن مصدرًا للقلق في العالم العربي باعتبار أنَّ الكميَّات المتوافرة تُلبِّي حاجات المناطق الموجودة بها للمياه العذبة، مع تفاوتٍ في النِّسب بطبيعة الحال، إلَّا إنَّ المشكلة تبدو في سوء استعمال هذه الموارد وتركها تبعًا للنموِّ العشوائي والاستغلال غير المنظَّم لهذه الموارد، بما يجعل المياه الجوفية، خصوصًا في المناطق الساحلية التي ينمو فيها التوسع السكاني والعمراني، معرضةً للنضوب أو إلى فساد هذه الموارد التي يُؤدِّي استخراجها غير المنظَّم إلى تكوين ثغراتٍ وأخاديد واسعة الغور تُهدِّد باقتحام مياه البحر المالحة لموارد المياه الجوفية[17].

إنَّ من المؤشِّرات البالغة الخطورة أن تدخل المنطقة العربية في طور فقر المياه، وأن يُصبح نصيب الفرد فيها من المياه هو الأسوأ في العالم؛ إذ يُساوي 1000 متر مكعب للفرد، في حين أنَّ حصة الفرد على الصعيد العالمي هي سبعة أضعاف هذه الكمية، ويتوقع التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2001م أنَّ هذه الحصة قد تنخفض إلى أكثر من النصف (460 متر مكعب) بحلول عام 2025م، وهي حصةٌ أقلُّ من "مستوى الفقر المائي المدقع" بحسب التصنيف الدولي لمستويات فقر المياه، كما تبدو المشكلة الكبرى أنَّ كميات المياه المتوافرة هي بالفعل تُوجد بعيدة عن مناطق الاستهلاك، بما يجعل كلفة تخزينها ونقلها غير مجدية اقتصاديًّا، سواءٌ كانت للشرب أم للاستخدامات الزراعية والصناعية[18].

بلغت الأزمة كما يصفها تقرير التنمية البشرية لعام 2006م الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن دخلت دولتا الإمارات والكويت في مرحلة الإجهاد المائي الحرج- وهي أخطر مستويات الأزمة- بينما دخلت الدول العربية مثل فلسطين والبحرين والعراق وقطر واليمن في مرحلة الإجهاد الخطير، وحتى الدول التي تجري فيها الأنهار الكبيرة دخلت في مرحلة الإجهاد الطفيف مثل مصر ولبنان وسوريا[19].

رابعًا: مشكلة استثمار الموارد تحت الاحتلال:

على الرغم من أنَّ عامَّة الدول العربية والإسلامية قد تحرَّرت وتحكمها الأنظمة الوطنية، فإنَّه ما تزال بعض الأقطار العربية والإسلامية واقعةً تحت الاحتلال الأجنبي، ومن أبرز حالات الاحتلال: فلسطين والعراق وكشمير وتركستان والشيشان وغيرها، إلى جانب احتلالاتٍ قصيرةٍ كما حدث بالصومال من قِبل إثيوبيا.

لكن يظلُّ النموذج الفلسطيني هو أعمق وأخطر هذه الأنواع؛ لأنَّه احتلال "إحلالي" لا يهدف للسيطرة على الموارد والثروة فقط بل يهدف لإبادة أو تهجير الفلسطينيين. كما أنَّه الاحتلال الأطول عمرًا والأخطر أثرًا، ولذا سنأخذ هذا النموذج كحالةٍ للمشاكل البيئية الناتجة عن الاحتلال.

في موضوع المياه ثَمَّة اتفاقياتٍ بين الإسرائيليين والفلسطينيين تُنظِّم أمر المياه، ولكنَّ الواقع العملي أنَّ إسرائيل قيَّدت الفلسطينيين وألزمتهم ببنودٍ تمنعهم من الحفر على مستوياتٍ معينة، وبتقييد ضخ المياه؛ مما ولَّد أزمةً حادةً في ظلِّ هذه الاتفاقيات واتسعت الفجوة بين الطلب المتزايد على المياه وبين كميات المياه المتاحة[20].

تزداد الأزمة حين تكون المياه التي تُغذِّي ما يزيد عن عُشر الفلسطينيين (11.7%) يحصلون عليها من شركة المياه الإسرائيلية (ميكروت Mekorot)، بواقع 116 تجمعًا سكانيًّا في الضفة وقطاع غزة يسكنها 454 ألف نسمة[21].

حسب تقريرٍ صادرٍ عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فقد بلغت كمية المياه المشتراة من شركة ميكروت الإسرائيلية نحو 48 مليون متر مكعب، وحسب آخر الإحصاءات المتوفرة، فقد بلغت كميَّة المياه المتاحة في الضفة الغربية وقطاع غزة 335.4 مليون متر مكعب، وبلغت كميَّة المياه المزودة للاستخدام المنزلي 175.6 مليون متر مكعب. وبلغت حصَّة الفرد الفلسطينيِّ من المياه المزودة للقطاع المنزلي 135.8 لترًا في اليوم، أقلها في محافظة طوباس؛ حيث بلغت حصة الفرد 46.6 لترًا في اليوم[22].

في تقريرٍ للبنك الدولي حول الوضع المائي في الضفة الغربية وقطاع غزة، ذكر أنَّ معدَّل كمية المياه التي يحصل عليها الفرد الواحد في "إسرائيل" يصل إلى أربعة أضعاف كمية المياه التي يحصل عليها الفرد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة[23].

صرَّح رئيس سلطة المياه الفلسطينية شداد العتيلي أنَّ كميَّة الأمطار المتجدِّدة في الأحواض المائية في الضفة الغربية سنويًّا تتراوح ما بين 700 إلى 800 مليون متر مكعب، يستخدم الفلسطينيون منها ما بين 100 إلى 200 مليون متر مكعب سنويًّا فقط، والباقي يستخدمه الإسرائيليون[24].

أظهرت بيانات مسح التجمعات السكانية إلى أنَّ 123 تجمعًا سكانيًّا في الأراضي الفلسطينية لا يُوجد فيها شبكة مياهٍ عامَّة، وهي تُمثِّل ما نسبته 22.9% من التجمعات السكانية، ويبلغ عدد السكان فيها 177275 نسمة، جميعها في الضفة الغربية[25].

من المتوقع خلال السنوات الخمسة المقبلة أن يُعاني أكثر من 400 ألف فلسطيني نقصًا في المياه، بنحو 80 مليون متر مكعب في مياه الشرب، و20 مليونًا في الزراعة، و30 مليونًا في السياحة والصناعة. ويتوقع أن يصل العجز المائي سنة 2010م نحو 280 مليون متر مكعب، وهو ما يُشير إلى أزمةٍ مائيةٍ حقيقية تنتظر الفلسطينيين[26].

باستعراضٍ سريعٍ للمشكلات الناتجة عن حصار قطاع غزة في مجال استثمار الموارد البيئية، نجد أنَّ القدرة الإنتاجية للقطاع الخاص في قطاع غزة انخفضت منذ فرض الإغلاق الشامل على قطاع غزة في منتصف يونيو 2007م إلى 11% من قدرتها الكاملة. وتُشير الإحصاءات إلى أنَّ أكثر من 43% من مؤسسات القطاع الخاصِّ قامت بوقف أنشطتها التجارية بالكامل، كما أنَّ أكثر من 55% من تلك المؤسسات أوقفت أنشطتها التجارية بنسبة تتجاوز 75%[27].

بلغت الخسائر في القطاع الصناعيِّ أكثر من 200 مليون دولار[28]، حتى تمَّ إغلاق 97% من أصل 3900 مصنع وورشة عمل، وتوقَّف الباقي بسبب انقطاع الكهرباء ونقص الوقود[29].

أمَّا عن الخسائر الناتجة عن حرب غزة (ديسمبر 2008م - يناير 2009م)، فيُلخِّصها الجدول الصادر عن وزارة التخطيط في قطاع غزة[30]

ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــ

[1] من تقريرٍ منشورٍ على موقع وزارة الزراعة والغابات السودانية على الإنترنت: www.sudagric.gov.sd.
[2] من تقريرٍ منشورٍ بموقع بوابة الاقتصاد السوداني www.sudaneconomy.com.
[3] من موقع وزارة الثروة الحيوانية والسمكية السودانية www.marf.gov.sd.
[4] مصطفى كمال طلبة: التحديات البيئية الأساسية في البلدان العربية، ورقة منشورة بتقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009م، ص34.
[5] طبقًا لحسابات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي - مكتب تقرير التنمية الإنسانية العربية، بالاستناد إلى قاعدة البيانات الإحصائية لنظام المعلومات العالمي عن المياه والزراعة (AQUASTAT) لدى منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة.
[6] من تقرير المنظمة العربية للتنمية الزراعية، التابعة لجامعة الدول العربية لعام 2003م.
[7] مصطفى كمال طلبة: التحديات البيئية الأساسية في البلدان العربية ص34.
[8] مصطفى كمال طلبة: التحديات البيئية الأساسية في البلدان العربية ص34.
[9] عن كتاب محمد جلال كشك (قيام وسقوط إمبراطورية النفط)، وهو الكتاب الذي يُحلل فيه قصة النفط العربي ويُعلق على ما نشره الصحفي الأمريكي جاك أندرسون (Jack Anderson) المتخصص في نشر وثائق المخابرات الأمريكية في كتابه (fiasco) وكيف كانت الشركات التي تحتكر النفط هي اللاعب الفعال الذي استخدمته أمريكا والغرب في العديد من الأزمات في العالم الإسلامي. (كتاب أندرسون صدر عام 1983م واشترك معه في التأليف جيمس بويد، وكتاب جلال كشك صدر في عام 1986م).
[10] قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما في القاهرة يوم 4/6/2009م: "والتاريخ بين بلدينا تاريخٌ عاصفٌ بالفعل؛ إذ لعبت الولايات المتحدة في إبَّان فترة الحرب الباردة دورًا في الإطاحة بالحكومة الإيرانية المنتخبة بأسلوبٍ ديموقراطي".
[11] محمد جلال كشك: قيام وسقوط إمبراطورية النفط ص19، وص32 وما بعدها.
[12] تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009م، ص103.
[13] تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009م، ص105.
[14] تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009م، ص105.
[15] مصطفى كمال طلبة: التحديات البيئية الأساسية في البلدان العربية ص34.
[16] من تقرير المنظمة العربية للتنمية الزراعية، التابعة لجامعة الدول العربية لعام 2003م.
[17] من تقرير المنظمة العربية للتنمية الزراعية، التابعة لجامعة الدول العربية لعام 2003م.
[18] التقرير الاقتصادي العربي الموحد الصادر عن صندوق النقد العربي، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول لعام 2001م.
[19] تقرير التنمية البشرية لعام 2006م، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (ب).
[20] التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لعام 2008م، ص260.
[21] التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لعام 2008م، ص260.
[22] التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لعام 2008م، ص261.
[23] تقرير البنك الدولي بعنوان "تقييم العقبات التي تواجه تطوير قطاع المياه الفلسطيني" على موقعه على الإنترنت www.web.worldbank.org.
[24] جريدة الرأي الأردنية 27/3/2009م.
[25] التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لعام 2008م، ص260.
[26] ملكي سليمان: الحرب على المياه شكل آخر للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، جريدة إيلاف 26/3/2009م.
[27] تقرير اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار بتاريخ 9/3/2008م، على موقعها على الإنترنت www.freegazza.ps.
[28] تقرير اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار بتاريخ 9/3/2008م، على موقعها على الإنترنت www.freegazza.ps.
[29] تقرير اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار بتاريخ 25/11/2008م، على موقعها على الإنترنت www.freegazza.ps.
[30] نقلاً عن: التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لعام 2008م، ص326.