إنَّ تكوين الأسرة أمرٌ فطريٌّ يسعى الإنسان إلى تكوينه منذ وجوده على الأرض، وتحكي الكتب السماويَّة، وكثيرٌ من المؤلَّفات التاريخيَّة والثقافيَّة في مختلف بلدان العالم أنَّ أوَّل إنسانٍ وُجد على الأرض هو آدم عليه السلام، وقد خلق الله حوَّاء ليترابطا ويتزوَّجا لتبدأ الإنسانيَّة في الوجود والتطوُّر[1].
وقد حَذَت الإنسانيَّة حذو آبائها الأوَّلين في البحث عن شريك الحياة، فلم يخلُ مجتمعٌ إنسانيٌّ من المرأة، وتكوَّنت الأسرة التي هي المكوِّن الرئيس للمجتمع، ثُمَّ انتشرت الأجناس والأعراق على ظهر الأرض، ولقد كان غرض الزواج متعدِّدًا ومتنوِّعًا تبعًا لاختلاف الأجناس والعرقيَّات والثقافات، وعلى الرغم من تنوُّع هذه الأغراض -التي يأتي على رأسها الإشباع الغريزي- فإنَّ غريزة البحث عن الشريك كانت -وما زالت- المسيطرة على الإنسان.
وإنَّ مَنْ يقول -من علماء الأنثروبولوجيا- بوجود مرحلةٍ بدائيَّةٍ من النسب الأمومي لم يكن فيها للأب حقوقٌ ولا واجبات، يصطدمون بالواقعة المهمَّة التي تُوَضِّح أنَّه حتَّى عند البدائيِّين الأكثر تخلُّفًا، الذين يعيشون بصورةٍ أساسيَّةٍ أو حصريَّةٍ على القنص، ومن المنتجات الطبيعيَّة التي يستطيعون الحصول عليها دون زراعة الأرض أو تربية الحيوانات الداجنة؛ فإنَّ الأسرة المكوَّنة من الزوجين والأبناء هي وحدةٌ اجتماعيَّةٌ محدَّدةٌ بوضوح، وإنَّ الأب هو سيِّدها وحاميها[2].
وهذا ما تُقِرُّه الدراسات الأنثروبولوجيَّة الحديثة مُفَنِّدة بذلك مزاعم مَنْ قالوا بالإباحيَّة والشيوعيَّة الجنسيَّة في المجتمعات البدائيَّة الأولى؛ وهو يُدلِّل على أنَّ رابطة الزواج وتكوين الأسرة لصيق الصلة بوجود الإنسان على الأرض.
لقد كان الزواج -ولا يزال- نظامًا أساسيًّا في كلِّ المجتمعات البشريَّة، صحيحٌ اختلفت مضامينه وأشكاله من مجتمعٍ لآخر بحسب الثقافات والمفاهيم المتنوِّعة من بيئةٍ لأخرى ومن عصرٍ لآخر، لكنَّه نظامٌ ثابتٌ أَقَرَّتْهُ كلُّ المجتمعات والأعراف منذ وجود الإنسان على الأرض، ففي نهاية العصر البدائي الأوَّل كان نظام "الزواج الذي يُضيف الزوج إلى أسرة زوجته" قائمًا متعارفًا عليه؛ إذ يقضي هذا النظام أن يهجر الزوج قبيلته ليعيش مع قبيلة زوجته وأسرتها، ويعمل من أجلها أو معها في خدمة والديها؛ فالأنساب في هذه الحالة يُقتَفَى أثرها في جانب الإناث، والتوريث يكون عن طريق الأم؛ حتى حقُّ العرش أحيانًا كان يهبط إلى الوارث عن طريق الأم لا عن طريق الزوج؛ على أنَّ هذا الحقَّ الذي للأمومة ليس معناه سيطرة المرأة على الرجل؛ لأنَّه حتى إنْ وَرَّثَت الأم أبناءها فليس لها على مِلْكها هذا الذي تُورثه إلَّا قليلٌ من السلطان؛ وكلُّ ما في الأمر أنَّ الأم كانت وسيلة تَعَقُّب الأنساب؛ لأنَّه لولا ذلك لأدَّى إهمال الناس عندئذٍ في العلاقات الجنسيَّة وإباحيَّتهم إلى طمس معالم القُربى[3].
لكن من جملة الأسباب التي دفعت الإنسان في كافَّة الأزمنة والأمكنة ناحية تكوين الأسرة نجدُ إنجاب الأطفال، ولم تخلُ المصادر التاريخيَّة للحضارات العالميَّة القديمة من سعي تلك الأمم إلى تكوين أسر، وإنجاب أطفالٍ كثر وأقوياء، فلقد اعتبر قدماء اليونان أنَّ إنجاب الأطفال واجبٌ مقدَّس[4]، وممَّا يُلاحظ أنَّ "الصينيِّين قد حرصوا على إنجاب أبناء أقوياء كانوا من القوَّة بحيث يجعلهم يسمحون عادةً للقادرين منهم بأن يتَّخذوا لهم سراري. أمَّا تعدُّد الزوجات فكان في نظرهم وسيلةً لتحسين النسل؛ وحجَّتهم في هذا أنَّ مَنْ يستطيعون القيام بنفقاته منهم هم في العادة أكثر أهل العشيرة قدرة على إنجاب الأبناء، وكانت الزوجة الأولى إذا ظلَّت عاقرًا تحثُّ زوجها على أن يتَّخذ له زوجةً ثانية"[5] لإنجاب الأولاد.
من هذا المنظور الديني والتاريخي نرى أنَّ الزواج مشتركٌ إنسانيٌّ عامٌّ، لا يخلو مجتمعٌ من المجتمعات -قديمها وحديثها- من وجود هذه الرابطة المقدَّسة، التي تجمع بين الرجل والمرأة على قيمٍ سامية؛ مثل: الرحمة، والمودَّة، والطمأنينة، والسكن.
وإنَّنا لا نحتاج إلى التأكيد والتدليل على كون الزواج غريزةً إنسانيَّة ومطلبًا بشريًّا، لكن التعدِّي على هذا الاحتياج الإنساني يُعَدُّ إهدارًا لمشتركٍ إنسانيٍّ يسعى الإنسان إليه بدافع وإرادة قويين، ولا شَكَّ أنَّ إعانة الدولة لمواطنيها لأجل تحقيق هذا الغرض المهم لَمِن الأولويَّات التي يجب أن تُوضع على قائمة اهتماماتها، ولقد كان الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز[6] (ت 101هـ=720م) له منادٍ في كلِّ يومٍ يُنادي: "أين الغارمون؟ أين الناكحون (طالبو الزواج)؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟" حتى أغنى كلَّ هؤلاء[7]؛ ولذلك بلغت الحضارة الإسلاميَّة في عصره أوْجَها وقمَّتها.
وللأسف فقد وُجدت عادات اجتماعيَّة وتاريخيَّة كان لها أثرها السيِّئ على قضيَّة الزواج؛ فجريمة الإخصاء تتنافى مع حقِّ الإنسان الفطري في التزاوج والتكاثر؛ فلقد استعمل اللخميُّون والغساسنة السقاة الخصاة لإسقائهم الشراب ولإسقاء ضيوفهم أيضًا، ولا يُستبعد وجود "الخصيان" في قصور الملوك والأشراف، فقد كان من عادة الناس في ذلك الوقت استخدامهم في البيوت، فكانوا يدخلون على نساء الملوك والسادات، ويتَّصلون بهنَّ لخدمة البيت، ولهذا لجأ الملوك إلى شراء الخصيان، أو إخصاء مماليكهم؛ حتى يكونوا بمأمنٍ من اتصالهم بالقصر ودخولهم على نسائهم[8].
وقد وُجدت مثل هذه الحالات في ظلِّ الحضارة الإسلاميَّة وحضارات العالم القديم؛ مثل الخصيان والمجبوبين المستخدمين في العصور الإسلاميَّة المختلفة؛ مثل: الطواشية في العصر المملوكي، والانكشارية في العصر العثماني؛ فقد كانوا يُستخدمون في الجيوش وخدمة السادة في القصور والحريم، لكن نبيَّ الإسلام محمَّدًا صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الفعل الشنيع؛ لأنَّه مخالفٌ لحكمة الخالق من خلقه، ومناقضٌ لمقصدٍ من مقاصد التشريع الإسلامي وهو حفظ النسل؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَلا نَسْتَخْصِي[9]؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ"[10]. وهذه نظرة الإسلام العامَّة لهذه القضيَّة المهمَّة.
ومع مرور الزمن وُجدت من العوائق الاقتصاديَّة والماديَّة ما يعوق نظام الزواج، ممَّا يترتَّب على ذلك سلبيَّات لا تُحصر؛ فسيطرة الدول الغنيَّة على مجريات الأمور في العالم، وتقسيم السياسة الدوليَّة إلى دول غنيَّة مسيطرة ودول ضعيفة فقيرة لا تقوى على سدِّ احتياجاتها من الطعام والشراب، من شأنه إحداث هزَّة اجتماعيَّة عنيفة خاصَّةً في الدول المحافظة؛ إذ لن يستطيع الفقراء المـُعْوزون توفير المال الكافي لتكاليف الزواج وأعبائه، ومن هذه البلدان مصر؛ فقد كشفت دراسة رسميَّة أعدَّها الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامَّة والإحصاء -المسئول عن تعداد المصريِّين- أنَّ هناك نسبةً متزايدةً لغير المتزوِّجين بين الشباب المصريِّين تصل إلى 37% منهم، فيما كشفت دراسة جزائريَّة أخرى أنَّ 31% من الجزائريَّات عوانس لم يتزوَّجن؛ والمعروف أنَّ الظروف المعيشيَّة المرتفعة التكاليف، فضلًا عن انتشار البطالة، وارتفاع أسعار السكن لأرقام فلكيَّة تُعَرْقِل زواج الكثير من الشبَّان المصريِّين[11].
ونظرةٌ سريعةٌ لدول جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا تُسبِّب لنا فاجعةً كبرى؛ إذ إنَّ هذه الدول الإفريقيَّة لتُعَدُّ من أفقر دول العالم، ولا يكاد الفرد فيها يجد قوت يومه، فضلًا عن إعالة أسرته وعائلته، وكان من النتائج المترتِّبة على هذا الأمر عزوف الشباب عن الزواج، والاتجاه صوب العلاقات غير الشرعيَّة، وأصبحت القاعدة المتعارف عليها في هذه الدول وجود العلاقات غير الشرعيَّة؛ وهذا الذي أدَّى إلى انتشار مرضٍ خبيثٍ قاتلٍ هو "الإيدز"، ويُشير تقريرٌ صادرٌ عن منظَّمة الصحَّة العالميَّة إلى أنَّ "مجموع المصابين بالإيدز وعدوى فيروسه في العالم، الذين قُدِّروا في نهاية عام 1999م بنحو 34,3 مليونًا، فإنَّ 24,5 مليونًا منهم (71,5%) يعيشون في المنطقة الواقعة جنوب الصحراء الإفريقيَّة الكبرى؛ إذ إنَّ البلدان الثلاثة والعشرين -التي كان معدَّل الانتشار المصْلِي لفيروس الإيدز بين البالغين فيها عام 1999م يزيد على 5% في العالم- تقع جميعها في المنطقة الواقعة جنوب الصحراء الإفريقيَّة الكبرى، وفي 8 من هذه البلدان (جميعها في إفريقيا الجنوبيَّة)، يزيد معدل الانتشار المصْلِي لفيروس الإيدز بين البالغين فيها على 15%، وعلى ذلك فإنَّ ذلك الجزء من إفريقيا الواقع جنوب الصحراء الإفريقيَّة الكبرى يتحمَّل معظم وطأة وباء الإيدز والعدوى بفيروسه[12].
ماذا -إذًا- لو كانت هذه الدول الموغلة في القارة الإفريقيَّة (غنيَّة أو نامية) يستطيع أبناؤها إعالة أسرة، وتكوين عائلة؟ بالطبع لم يحدث ما نراه الآن من فتكٍ بأبناء هذه القارَّة الذين يموتون بالآلاف كلَّ عام، كلُّ هذا ليُؤَكِّد على أنَّ الزواج حقٌّ طبيعيٌّ وفطريٌّ في كلِّ مجتمعات الدنيا، وأنَّ الممارسات الاحتكاريَّة والسلطويَّة واللا أخلاقيَّة تُودِّي في نهاية المطاف إلى الهلاك المحقَّق.
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] سفر التكوين، 4/20، 21، ورسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، 3/13-15، والقرآن الكريم: سورة البقرة (35).
[2] إدوار ويسترمارك: موسوعة تاريخ الزواج، ص46.
[3] ول ديورانت: قصَّة الحضارة 1/59.
[4] المرجع السابق 6/366.
[5] المرجع السابق 4/270.
[6] عمر بن عبد العزيز بن مروان (60-101هـ): وُلِدَ ونشأ بالمدينة، تولَّى الخلافة الأمويَّة 99هـ، فأحسن السيرة والعدل، قال عنه أنس بن مالك: ما صلَّيتُ وراء إمامٍ أشبهَ برسول صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، تُوفِّي عمر بدير سمعان. انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات 22/312-314، والزركلي: الأعلام 5/50.
[7] ابن كثير: البداية والنهاية 9/225.
[8] جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/296.
[9] ألا نستخصي؛ أي: ألا نستدعي من يفعل لنا الخصاء أو نعالج ذلك أنفسنا، والخصاء: هو الشق على الأنثيين وانتزاعهما. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 9/118، 119.
[10] البخاري: كتاب النكاح، باب تزويج المعسر... (4784)، ومسلم: كتاب النكاح، باب نكاح المتعة وبيان أنَّه أُبيح ثُمَّ نُسخ... (1404).
[11] موقع المركز العربي للمصادر والمعلومات (أمان) .
[12] موقع منظمة الصحَّة العالميَّة على الإنترنت.