من المؤكد أنَّ الصراع على أساس ديني هو أخطر وأشرس الصراعات، ويجب علينا أن نُدرك خطورة أن ينشب صراع ديني في عالمنا الآن، الذي هو في هذه اللحظة عالم متديِّن، يشهد صحوة دينية في كلِّ حضاراته ودوله؛ لذا فإنَّ على العقلاء أن يَحْذَروا وأن يُحَذِّروا من اشتعال مثل هذا الصراع المرعب، الذي تهلك فيه الإنسانيَّة لا لشيءٍ إلَّا لأنَّ مجنونًا -أو بضعة مجانين- يُريد أن يفرض على الناس بالقوَّة عقيدته هو، ومهما كان حُسن مقصده بالنسبة إلى مقاييسه، فإنَّ هذا لا يغفر له أن يُشعل صراعًا كهذا؛ لا تتوقف فيه الدماء على هذا الجيل؛ بل تتوارث الأجيال القادمة ثارات آبائها وأجدادها.
وكما يجب على العقلاء أن يُحَذِّروا من الصراع على أساس الدين فإنَّه يجب عليهم أن يَحْذَروا هم من فرض "وحدة دينيَّة" جديدة؛ فلقد حاول البعض عن حسن نيَّة -فيما نظن- أن يُنادي بفكرة "وحدة الأديان"، وهي الاعتقاد بصحَّة جميع المعتقدات الدينيَّة وجميع العبادات، وتوحُّدها تحت غطاء دين الإبراهيميَّة، وهذا الرأي يدعو إلى وحدة الأديان السماويَّة الثلاثة؛ باعتبار أنَّ إبراهيم عليه السلام هو جدُّ الأنبياء جميعًا، والمتكلِّمُون في هذه الوحدة يُنادون بطباعة القرآن الكريم والتوراة والإنجيل وضمِّهم معًا في كتابٍ واحدٍ بين دفَّتين، وببناء مجمَّع لأماكن العبادة يضمُّ مسجدًا وكنيسةً ومعبدًا، تتبادل الزيارات بين عمَّار المساجد، ومرتادي المعابد؛ ممَّا يُقلِّل الفجوة ويُوَلِّد المودَّة، وإقامة الصلوات المشتركة في أماكن العبادة لمختلف الأديان؛ سواءٌ بابتداع صلاةٍ يشترك فيها الجميع، أو بأن يُصَلِّيَ كلُّ واحدٍ صلاة الآخر[1].
إنَّها محاولةٌ فكريَّة إجباريَّة، ولكنَّها تُجْبِر الناس على دينٍ جديد، فهي لا تختلف -في جوهرها- عن محاولة إجبار الناس على دينٍ قديمٍ موجود، وهي عقيدةٌ جديدةٌ لا يقبل بها أحدٌ من أتباع الديانات المراد توحيدهم، فمحاولة إنهاء الخلاف وتبسيطه أو حتى اختزاله هي محاولةٌ ذاهبةٌ في طريق الفشل؛ إذ إنَّ كلَّ أتباع دينٍ يرون في الدين الآخر أفكارًا وعقائد مرفوضة، إلى الحدِّ الذي لا يُمكن قبولها؛ ومن ثَمَّ فإنَّ دينهم هو الذي يُقَدِّم البديل المعقول والمقبول بالنسبة إليهم، فإذا أتى مَنْ يُريد إنهاء الخلاف وسَوْق كلِّ فريقٍ ليقبل ما يراه "خرافات وأضاليل" الأديان الأخرى، بل أن يعتنقها ويتوحَّد مع مَنْ كان منذ قليل يُفارقه في خلافات جوهريَّة وأساسيَّة.. فإنَّه يرتكب حماقة مؤكَّدة!
ومن دلائل هذا أنَّ أحدًا لم يستمع إليه من قبلُ؛ ذلك أنَّ النداء بالوحدة العقديَّة ليس جديدًا، فلقد نادى المفكِّر الهولندي إسبينوزا -منذ قديم (ت 1677م)- بتوحيد اليهوديَّة والمسيحيَّة؛ ولم يكن يُفرِّق في كتاباته بين التوراة والإنجيل، وكان ينظر إلى اليهوديَّة والمسيحَّية على أنَّهما دينٌ واحد، وممَّا قاله بهذا الخصوص: "لقد كانت تأخذني الدهشة كثيرًا عندما كنتُ أرى بعض الناس يُفاخرون بتعاليم الديانة المسيحيَّة -وخاصَّة بالحبِّ والسعادة والسلام والاعتدال- يُقاتل بعضهم بعضًا بمثل هذه الكراهية المريرة، التي أصبحت مقياسًا لعقيدتهم بدلًا من الفضائل التي يدعون بها ويُعلنون عنها، لقد احتفظ اليهود ببقائهم إلى مدًى كبيرٍ بسبب كراهية المسيحيِّين لهم، ودفعهم الاضطهاد إلى الوحدة والتماسك لاستمرار بقاء جنسهم، وكان من الممكن لولا هذا الاضطهاد دمجهم وصهرهم مع الشعوب الأوربيَّة عن طريق الزواج وغيره، وابتلاعهم وسط الأكثريَّة الساحقة التي تُحيط بهم من كلِّ جانب، ولا سبب يمنع الفلسفة اليهوديَّة والمسيحيَّة من الوصول إلى اتفاق حول عقيدةٍ تُمكِّنهم من العيش في سلامٍ وتعاون، وخصوصًا بعد إزالة هذه الخلافات التي لا معنى لها..."[2]. لكن فكرة إسبينوزا هذه لم تجد صداها في المجتمعات الأوربيَّة، وظلَّت الحروب والمناوشات دائرة بين المختلفين في العقيدة، كما دار بين الكاثوليك والبروتستانت وغيرهم.
غير أنَّه من الممكن التماس بعض التبرير لإسبينوزا على أطروحة دمج العقيدتين اليهوديَّة والنصرانيَّة في عقيدةٍ واحدة؛ ذلك أنَّ الديانة النصرانيَّة جاءت لتغيير بعض الأمور المحدَّدة والمعروفة في الديانة اليهوديَّة مع الإقرار بمعظم العقائد اليهوديَّة، وكذلك القوانين والتشريعات، وحكى ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى على لسان المسيح عليه السلام: )وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ( [آل عمران: 50]. وما زال النصارى يُؤمنون بالعهد القديم "التوراة" مع العهد الجديد "الإنجيل". فالدمج هنا يبدو مسوَّغًا إلى حدٍّ ما، وإن كان اليهود سيرفضون حتمًا؛ لأنَّهم يكفرون بالمسيح عليه السلام، بل يُكفِّرونه ويرونه محرِّفًا لتوراتهم.
أمَّا دمج الإسلام معهم فمستحيلٌ بكلِّ المقاييس؛ لأنَّ التشريع الإسلامي منظومةٌ متكاملةٌ تحكم الحياة كلَّها، ولا يترك أمرًا صغيرًا أو كبيرًا إلَّا وله فيه قواعد وأصول.. يقول تعالى: )مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ( [الأنعام: 38]. وليس القرآن مجرَّد قصص وروايات وقواعد كما هو الحال في كتابي التوراة والإنجيل، واللذان حُذفت منهما أغلب التشريعات، وصار لزامًا على اليهود والنصارى بعد هذا التحريف أن يضعوا قوانينهم بأنفسهم فيما عُرف بفصل الدين عن الدولة، وهو المبدأ الذي تبنَّتْهُ الثورة الفرنسيَّة سنة 1789م، وكانت سببًا في انتشاره في أوربا ثُمَّ العالم بعد ذلك.
ومن هنا ففكرة الدمج هذه مستحيلة في حقِّ المسلمين، وفي واقع الأمر هي مستحيلةٌ كذلك بالنسبة إلى عموم العقائد الأخرى.
ونحن في هذه اللحظة نقول -وبتجرُّدٍ كامل-: إنَّ خير ما نُقَدِّمه للبشريَّة في هذه النقطة الحسَّاسة هي ما جاء به القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: )لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( [البقرة: 256]، وأن يبتعد الناس عن النزاع في هذه القضيَّة، إلَّا على أساسٍ من الحوار الليِّن الهادئ اللطيف: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( [النحل: 125]، )وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( [العنكبوت: 46]
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] هدى درويش: تقارب الشعوب، ص41، 42.
[2] وِل ديورانت: قصَّة الفلسفة، ص205، 206.