فلنفرض أنك بطريقة ما تملك فيلًا، وكلبًا، وفأرًا، وأنه بشكل ما استطعت نقلهم جميعًا سالمين إلى شقتك بآخر طابق في ناطحة سحاب شاهقة. فلنفرض الآن أنك تريد الإجابة على السؤال الذي يؤرق مضجعك ليلًا: ماذا سيحدث إذا قذفت فيلًا، وكلبًا وفأرًا من ناطحة سحاب؟!
بالطبع لم تكن لتفكر في هذا السؤال العجيب إلا لأنك تمتلك فيلًا، وكلبًا وفأرًا وهم جميعًا قد حولوا شقتك لـ “حظيرة حيوانات” برائحة لا تطاق. هكذا في سبيل العلم المجرد لا أكثر تجد نفسك تتساءل عن النتائج العلمية التي ستتحصل عليها إذا ما قذفت “جمعة” و”لاكي” و”هيثم السيد أحمد” من نافذة شقتك الشاهقة. لا وقت لمناقشة الأسماء الغريبة التي اخترتها للفيل والكلب والفأر على الترتيب، فهذا أمر قديم.
حسنًا، بشكل عام سيرتطم الفأر بشكل موجع بالأرض؛ ولن يموت ولكنه سيترنح لفترة لا بأس بها بينما يركض مبتعدًا. وللأسف سيكون الكلب أسوأ حظًا ولن يحتمل الصدمة ويموت. والفيل؟ الفيل سينفجر بالطبع!
لكن لماذا تختلف مصائر الثلاثة مع أنهم سقطوا المسافة نفسها من الارتفاع نفسه؟ في الواقع، الأمر كله مرهون بعامل آخر وهو الحجم … أو بشكل أدق الكتلة والتناسب بين الحيز الذي تشغله (الحجم) والطول. فلنتحر الأمر بشكل أفضل …
وفقًا لمقطع فيديو ممتع لقناة Kurzgesagt (في قشرة جوز أو باختصار في الألمانية) الشهيرة على يوتيوب، فلنفترض أن هناك حشرة بحجم بلية صغيرة. هذه البلية تملك طولًا، ومساحة سطح (الجلد الذي يغطي كامل الجسم) وكذلك حجم (وهو كل الأعضاء والمكونات الداخلية والخارجية). الآن، فلفترض أننا سنتلاعب قليلًا بطول الحشرة ونجعله أكبر بعشر مرات 10× لتصبح بحجم كرة سلة. هل سيتضاعف الحجم والجلد بالمعدل نفسه؟!
في الواقع لا، فمع تضاعف الطول 10 مرات، ستتصاعف مساحة الجلد 100 مرة، وسيتضاعف الحجم ألف مرة! أي أنه كلما زاد الحجم، زادة الكتلة ومن ثم زادت الطاقة الحركية التي يكتسبها الجسم أثناء السقوط، وصارت الصدمة أشد وأكثر خطورة وضررًا عند الإرتطام بالأرض.
وبالقياس مع القاعدة السابقة، نجد أن الحشرات والنمل ومثيلاتها ذات الأجسام الخفيفة تعد منيعة لذلك السقوط المريع من أعلى، حيث لا تشكل الجاذبية أي تأثير يذكر عليها لصغرها. والعكس تمامًا هو ما يحدث مع الفيل بحجمه المهول الذي يكتسب طاقة حركة كبيرة تتضاعف مع تسارع السقوط، حيث ستعمل الأرض كمطرقة معكوسة يهوي إليها الفيل لينفجر بلا رحمة عند الأرتطام بسطحها.
لكن الأمر ليس جيدًا على طول الخط بالنسبة للكائنات ذات الأحجام الصغيرة كالنمل والحشرات الأخرى؛ فمع ذلك الحجم الصغير تتعرض لقوى فيزيائية أخرى مميتة لا ننتبه نحن لها ولا تؤثر بنا لضخامتنا. ولنبدأ مثلًا بأمر بسيط للغاية كالبلل! فعندما تستحم مثلًا، يلتصق بك عند المغادرة ما يقارب 800 جرام من الماء أو ما يمثل 1% من وزنك، وهذا ليس بالأمر المزعج أو المرهق على الإطلاق. لكنه كذلك بالنسبة لفأر مثلًا، فعند البلل يلتصق به ما يقارب 3 جرام من الماء تمثل أكثر من 10% من وزنه! هذا يماثل أن تحمل 8 زجاجات كبيرة ممتلئة بالماء بينما تغادر الحمام! لكم أن تتخيلوا كم المعاناة والصعوبة التي يواجهها فأر مبلل خارج من بالوعة أو بركة مياة!
كذلك هو الأمر مع خواص الماء الفيزيائية التي تتعلق بالتوتر السطحي. ظاهرة التوتر السطحي أو الشد السطحي تنتج عن قوى التجاذب بين جزيئات الماء ما يجعل لها ما يشبه الجلد الرقيق المشدود الذي لا يلحظه إلا الكائنات الصغيرة للغاية كالنمل والناموس وغيرها من الحشرات الصغيرة. ومع أنه يمنحها قدرات رائعة كالسير فوق الماء، إلا أن التوتر السطحي قد يعني في كثير من الأحيان خطرًا داهمًا على حياة تلك الحشرات.
وهنا مرة أخرى لا نلحظ قوى التوتر السطحي لأننا أكبر وأقوى من أن تؤثر علينا، لكن فلفترض أننا قمنا بتصغيرك إلى حجم نملة صغيرة وحاولت بعدها لمس قطرة مياه بريئة على سطح الطاولة حيث تقف. حينها سيصبح الماء بقوة الصمغ اللاصق بالنسبة لك، بل وسيجذبك إلى داخله لتغرق بلا رحمة لأنك لن تستطيع كسر طبقة التوتر السطحي الذي يغلف القطرة الصغيرة! وللسبب نفسه هنا تطورت الحشرات كي تكون أجسامها كارهة للماء بإفرازات شمعية ينتجها جسمها لتنجو من مثل هذا المصير … لكن ليس طيلة الوقت!
فإذا انتقلنا إلى مستوى أدنى بحجم أصغر من الحشرات العادية، يصبح العالم من حولنا أغرب وأشد عدائية للحياة كما نعرفها. سنحتاح هنا إلى عدسة مكبرة لرؤية أصغر حشرة في العالم، الذبابة الحورية Fairy Fly والتي يبلغ حجمها نصف ذرة ملح طعام أو 0.15 مليمتر تقريبًا!
بالنسبة للذبابة الحورية، ولصغر حجمها الشديد، يبدو الهواء بثخانة الجيلي! لا مزاح هنا، حيث يتحول الهواء مع صغرها المتناهي إلى ما يشبه السائل اللزج الذي تتحرك به ببطء وصعوبة كبيرين. ومع أن الذبابة الحورية تطير، إلا أنه مع ثخانة الهواء حولها فهي تمارس السباحة أكثر منها إلى الطيران في الواقع. ولهذا لا تملك جناحين تقليديين كما بقية الطيور والحشرات وإنما ما هو أقرب لساعدين مشعرين قويين لضرب الهواء السائل من حولها.
ماذا لو انتقلنا لمستوى أصغر، إلى الأميبا مثلًا؟! حينها سننتقل إلى مستوى الفيزياء الكمية على الأرجح، حيث سيبدو الأمر جنونيًا وغير منطقيًا تمامًا بالنسبة لنا! هكذا ترون أن الأمور تختلف بشدة مع اختلاف الحجم، حيث تعمل الفيزياء بشكل مختلف عما اعتدناه، أو بالأحرى نرى منها جانبًا لا نلحظه لأننا نقع في مستوى آخر توفره لنا أحجامنا كبشر أو حيتان أو فيلة … من حسن حظنا أو سوئه حسبما يفرض الموقف عندما نسقط من حالق أو نغادر مبتلين بعد استحمام منعش!
وفي النهاية، لا تفوتوا مشاهدة مقطع الفيديو الذي يشرح كل هذا بأسلوب رائع وممتع حقًا …