المتنبئ
فالمتنبئ عندي ملك الشعراء؛ لأن للشعر وزيراً وأميراً وقاضياً وفقهياً ، ولكن مملكة الشعر لملكها احمد بن الحسين المتنبئ لمجموع محاسنه، وكلية إبداعه، وقد يفوقه في قصيدة أو بيت واحد غيره من الشعراء، لكن مجموع شعره لا يفوقه فيه شاعر ولهذا يقول:
أنا السابق الهادي إلي ما أقوله---- إذا القول قبل القائلين مقول
وهذا الشاعر انصهر مع الكلمة، وذاق البيان، وأشرب في قلبه الفصاحة فذابت حشاياه، وغلت مراجل فكره بجواهر من القول فاقت الوصف، والذي يعجبك في المتنبئ هذا الاحتراف والإشراق، فهو محترف بهمومه وهمته وطموحاته، مشرق بعبقرية وإبداعه ونبوغه، وهو كما قال في ممدوحه:
وإن تفق الأنام وأنت منهم ---- فإن المسك بعض دم الغزال
ولك أن تقف أمام هذا البيت الذي يغنيك عن إسهاب من القول، وحواش من الحديث ، فهو كما يقول لممدوحه: إنك وإن تفوقت علي أقرانك ، وتفردت بصفاتك عن بني جنسك، وتميزت هذا التميز المنقطع النظير ، فلا غرابة في ذلك ، فإن المسك علي ندرته وشرفه وطيب رائحته وارتفاع ثمنه؛ من جنس دم الغزال.
البطاقة الشخصية:
أنا الذي نظر الأعمى إلي أدبي ---- وأسمعت كلماتي من به صمم
هذه ترجمة موجزة للمتنبئ ، فليس يهمنا معرفة اصله وفصله ونسبه وحسبه، بل نريد إبداعه ولموعه كما قال الشاعر:
أنا لست مهتماً بأصل قبيلتي --- ورائي قريش أم ورائي تغلب
فليست بلادي ببرقاً أو خريطة --- ولكن بلادي حيث اسطيع أكتب
فهو يقدم لنا نفسه بهذا البيت علي أنه موهوب ، فرض نفسه علي الناس بشعره وأدبه حتى إن الأعمى الذي لا يبصر شيئاً نظر إلي أدبه، لقوة تأثيره، وسطوع تعبيره، وبلاغة تصويره، والأصم الذي لا يسمع شيئاً أنصت لكلماته النافذة الأسرة الباهرة.
أما شعره ، فيكفيه أن الدهر أحد رواة شعره، والأيام والليالي أصبحت تردد هذا الإبداع وتغني هذا السحر الحلال:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي ----- إذا قلت شعراً اصبح الدهر منشداً
فسار به من لا يسير مشمراً ---- وغني به من لا يغني مفـرداً
مطالع قصائده:
المتنبئ يخطف الأضواء ببريق مطالعة القوية النافذة، ومطلع القصيدة كالوجه من الجسم ، والعنوان من الكتاب؛ لأنها اول ما يطرق السمع، ويصل إلي القلب، فهو يختار المطاع بعناية، ويجود أول القصيدة، حتى صارت مطالعة كالأمثال إشراقاً ، واسمع بعض أجزاء لهذه المطالع، ثم بسط القول في ذلك؛ يقولك (( وأحر قلباه ممن قلبه شبم)) ويقول : (0 لكل امرئ من دهره ما تعودا)) ويقول : (( حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا)) ويقول: (( باد هواك صبرت أم ام تصبرا)) ويقول : (( لا خيل عندك تهديها ولا مال)) ويقول : (( بم التعلل لا أهل ولا وطن)) ويقول : (( نعد المشرفية والعوالي)) ويقول : (( فراق ومن فارقت غير مذمم)) ويقول : ((لا تعذل المشتاق في أشواقه)) ويقول : (( عدوك مذموم بكل لسان)) إلي آخر تلك المطالع التي تفرض حسنها علي بصائر عشاق البيان.
فهو لا يبدأ في قصيدته ضعيفاً، ولا متخاذلاً، بل يحتفل بأول كلمة يقولها في قصيدته ، ويمنحها من رشاقة عباراته، وحلاوة منطقه، وطلاوة سحره ما يجعل هذا المطلع محفوظاً سائراً شارداً.
أراد أن يعاتب سيف الدولة، وأن يتوجع أمامه، وأن يتوجع عنده من حساده ، ,ان يشكو إليه من خصومه؛ فماذا عسي أن يبدأ به لهذه القصيدة، هل يبدؤها بحكمة؟ لا، هل يبدؤها بغزل؟ لا ، بل الأحسن أن يقول في أولها: (( واحر قلباه)) هكذا صارخة قوية متمردة، تتقطع معها كبده وأنيناً ، ويتمزق مع آهاتها وزفراتها ما بقي معه من قلب مكلوم، وروح منهكة مضطربة.
ودخل علي امير ليهنيه ويبارك له، فليس للغزل والغرام هناك مقام، وليس للحكمة مناسبة،وإنما بدأ معتذراً ومتلطفاً ليقول:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ---- فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
وهو مطلع فائق بكل معاني الكلمة ، آسر بكل مدلول الأسر، غاية في الحسن، وآية في المتعة، حتى صار أنشودة عذبة علي شفاه الرواة، ومثلاً شروداً علي ألسنة الحداة . وكأني به يمد صوته بحرف (( لا)) ثم يرسل البيت ليكون أجمل من الهدية وأثمن من العطية.
يريد أن يصف همة سيف الدولة، وعلو قدره، وارتفاع درجته بما حققه من نصر، وحازه من مجد فيبدأ بقوله:
علي قدر أهل العلم تأتي العزائم ---- وتأتى علي قدر الكرم المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها ---- وتصغر في عين العظيم العظائم
وأنت إذا سمعت هذا البيت وقر في خلدك ، واستوي في فؤادك، فسوف تعلم أن الرجل سوف يحلق بإبداعه في عالم الهمة، وسماء التضحية ، ودنيا العظمة، فهو يقدم لك عنوان الكتاب، ومفتاح الباب، ولجام الفرس؛ لتتهيأ لما سوف يبثه من مديح راق ، وثناء عبق وإشادة سامية.
يريد أن يخبرك بحاله بعد الفراق والبعد ونكسة البال، وضيق الصدر وتكالب الأعداء ، وقلة النصر؛ فيقذف بهذه العبارات أولاً:
بم التعلل لا أهل ولا وطن ------ ولا نديم ولا خل ولا سكن
فتفهم أن الرجل محترف بمعاناته ، ملتهب بآلامه، تكاد نياط قلبه أن تتقطع، وتوشك أعصابه أن تتمزق ، فهو يتساءل متعجباً من حاله، لماذا يتعلل ويتصبر وليس عنده أهل يأوي إليهم، فيبثهم وجده، ولهيب صدره، وليس لديه وطن لأنه غريب مرتحل، وليس عنده صديق؛ فقد خانه الكل، وتنكر له الجميع، وما عنده محبوب يبثه نجواه، وينفث فيه شكواه، وأيضاً ليس عنده سكن يضمه ويحتضنه، فهو في حالة أبلغ وصف لها هذا البيت ، وياله من مطلع ذائغ فائق.
ويذهب طريداً شريداً إلي كافور، وقد تقطعت به الحبال، وضاقت به الآمال، وأظلمت أمامه السبل، فلا يبدأ بالمدح؛ لنه في شغل شاغل عنه، ولا يستفتح بالغزل؛ لأنه يتلظى بالمرارة، ولا يقدم الأمثال؛ لأنه في عالم المعاناة والغربة، وإنما يقذف بهذه الحكمة التي تدل علي ما وراءها من كرب شديد، وحزن بالغ، وبال كسيف أسيف:
كفي بك داء أن تري الموت شافياً ---- وحسب المنايا أن يكن أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن تري ---- صديقاً فاعيا أو عدواً مداجياً
يا الله! إلي هذه الدرجة من البلوى يصل هذا العبقري الفذ، إلي درجة يتمني فيها المنايا الحمر الكوالح، ، وإلي حد يري ان دواءه يمكن في الموت، فإذا وصل الحال إلي هذا المستوي ، فحسبك بها بلية كبرى ومصيبة عظمى، حتى إن شاعرنا فقد كل صديق، ولم يجد حتى عدواً مجاملاً ، بل كلهم أصبحوا أعداءه؛ لأنه ناجح فحسب ، وهم كلهم أعداء النجاح.
أما كافور فيريد مدحه وتبجيله وتفخيم أمره؛ فينفجر بهاذ المطلع الذي كأنه إطلاله بدر من سحب، أو إشراقة نجم من حجب، أو طلعة فجر في الآفاق، يقول:
عدوك مذموم بكل لسان --- ولو كان من أعدائك القمران
ولله سر في علاك وإنما ---- كلام العدى ضرب من الهذيان
هكذا بدأ قصيدته قوياً لامعاً فياضاً، وانظر إلي قوة الأسر، وبراعة الاستهلال، وإشراق الكلمات، وجزالة الجمل، فكأنه يفصل ثوباً زاهياً علي ممدوحه، أو يضع علي هامته تاجاً مرصعاً ، فهو يحطم شبه أعداء ممدوحه، وينسف أباطليهم، ويدفع اقوالهم بهذا القول البليغ السار، حتى لما سمع أحد العلماء هذا المطلع المرار قال: هذا والله هو الشعر.
ولكنه يحارب حتى في مصر، وتضيق به الأرض بما رحبت كما وصف حاله:
غريب من الخلان في كل بلدة ---- إذا عظم المطلوب قل المساعد
ويصل إليه عيد الفطر وهو في مصر، فلا يفرح بالعيد ولا يبهج به، ولا يحتفي به؛ لأنه غريب شريد طريد مكبوت، بل ينفجر ناقماً غاضباً باسراً عابساً ليقول:
عيد بأية حال عدت يا عيد --- بما مضي أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم --- فليت دونك بيد دونها بيـد
بهذا المطلع البارع المعبر المصور يبدأ بكاءه، ويستهل عويله، فهو أبداً غاضب كالليث، جاهم كالليل، ثائر كالبركان، عاصف كالريح، يعلن للمشاهدين كل ساعة تمرده وعنفوانه ورفضه ، وهو دائماً معارض، تغلي نفسه بالغصص من زمانه وبني جنسه. إنه عند نفسه مظلوم معتدى عليه مقصود بالإيذاء ، تحبك له المؤامرات، وتنسج له العدوات، وتلفه المصائب من كل جانب، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت.
إنها عقوبة من الله لأعدائه كما يقول:
إني وإن لمت حاسدي فما --- أنكر أني عقوبة لهـم
الشاعر الثائر
هذا الشاعر محترف متدفق ، له معاناة تمور في صدره ، وعنده صراع داخلي يتفاقم في جوانحه ، فهو كتلة من الغضب علي المخالفين ، وهو شهاب ثاقب علي أعدائه ؛ لأنهم رفضوا الاعتراف به، وصادروا جهوده، وتتكروا ، فهم والزمان والمكان والأصدقاء والسلطان بل الجميع ضده:
يا من ذكرت علي بعد بمجلسه --- كل بما زعم الناعون مرتهنيا كم قتلت وياكم مت عندكم --- ثم انتفضت فزال القبر والكفن
إنه اقوي من أعاصير الخصوم، وأعتي من أراجيف الأعداء، فهم يميتونه وهو لم يمت، ويشيعون نهايته وهو لم ينته، فهو ساكن في ضمائر الجمهور ، خالد في سفر الإبداع، موجود في ديوان العبقرية، إن حساده يريدون شطب اسمه من سجل العظماء ؛ فيغضب ويثور ويحتج ويرفض:
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني --- فلا أعاتبه صفحاً وإهوانا
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني --- إن النفيس غريب حيثما كان
حسبك الله من شاعر تتحدي الأزمات ، وتدوس المنايا، وتجتاح معاقل الخصوم، وتواجه الموت الكالح بهمة كالدهر وعزيمة كالفجر.
والرجل مجروح في الصميم، مكلوم في سويداء القلب من أناس ما قدروه حق قدره، وما احترموا منصبه السامي في الأدب:
سوى وجع الحساد داو فإنه --- إذا خل في قلب فليس يحول
ولا تطعمن من حاسد في مودة -- وإن كنت تبديها له وتنيل
هكذا جرب وذاق وجع الحساد، واكتوى بنارهم، وتلظى برمضائهم. إن المتنبئ شاعر مجدد في عالم الشعر، ليس تقليداً علي مذهب شعراء المناسبات، ورواد مقاهى النفاق السياسي، وضيوف حفلات مراسيم تكريم الوفود، فهو لا ينتظر من الخليفة أن يقول: يا غلام أعطه ألف دينار ، وأركبه بغلاً، واهده جارية؛ كلا، بل هو كما قال عبد الله البردوني:
من تلظي لموعـه كاد يعمي -- كاد من شهرة اسمه لا يسمي
من تداجي يا بن الحسين أداجي -- اوجهاً تستحق ركلاً ولطمـا
إن هذا الشاعر يرفض أن يسام الخسف:
من يهن يسهل الهوان عليه -- ما لجرح بميت إيـلام
وهو يري أن الموت علي عز أجل وأشرف من حياة علي مهانة وذلة وخسة:
وإن لم تمت تحت السيوف مكرماً -- تمت وتلاقي الذل غير مكرم
إنه في هذا البحث يريحك من مطالعة كتاب في فن الاستجداء والاستخذاء، لتكون من حفظة متون الذل، ومن طلاب مدرسة الخنوع والجبن، وهو يري أن من مات تحت غبار المعركة لنصرة مبادئه، لا يذوق من طعم الموت إلا كما يذوقه صريع الشهوات وعبد النزوات:
فطعم الموت في أمر حقير -- كطعم الموت في أمر عظيم
وهو معذب بنفسه الطموحة التواقة؛ لأن بداخلها همة عارمة لا يردها شيء:
لحا الله ذي الدنيا مناخاً لراكب -- فكل بعيد الهم فيها معذب
إنه الصمود أبداً، والتفوق دائماً، وهو مذهب الناجحين في الحياة كما وصفه هو بقوله:
لولا المشقة ساد الناس كلهم --- الجود يفقر والإقدام قتال
وانظر ما أحسن لفظ المشقة؛ لأنه عالم فائق يندرج تحته كل معاناة وجهد وتعب، ولفظ ساد أجمل من كل لفظ في موضعه، فهو فصيح باهر وضيء ، وهذه ألفاظ زادها القرآن جمالاً وروعةً وإشراقاً، وانظر إلي الإيجاز والاختصار في قوله: الجود يفقر والإقدام قتال: مع حسن التقسيم، وجمال الفواصل، وبراعة الجرس، وحذف الحواشي والمعاضلة ، ويقول عن اندفاعه الجارف، وبعد نظره، وتدفقه العاطفي المزلزل:
ولكن قلباً بين جنبي ما له --- مدى ينتهي بي في مراد أحده
إنه يريد الاعتراف من الناس بنبوغه ومكانته وسموه، حتى يقول في مجلس ممدوحه:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعي به قدم
ومهما خالفناه في هذا التبجح المكشوف؛ فإننا نوافقه علي أنه نابغة في عالم البيان، وأعجوبة في دنيا الشعر، ويكفيه هذا الذيوع الأدبي والشيوع الشاعري وهو ما يريده.
الشاعر الذائغ
لا أعلم شاعراً فرض علي الناس إنشاد شعره وترديد أبياته كالمتنبئ؛ لأنه عاش ما يقول، وعانى ما يتلفظ به ، وانصهر بالحوادث فصورها شعراً، ولذع بالنكبات فأرسلها أمثالاً، ولابس التجارب فأبدعها حكماً، فصار شاعراً محفوظاً في الذاكرة حاضراً في الأجيال ، خالداً في ديوان الإبداع، وهاك بعض أبياته الذائعة الشائعة يقول:
ومن نكد علي الحر لابد أن يري --- عدواً له ما من صداقته بد
إن من يقول هذا الكلام لابد أن يكون مبدعاً موهوباً، أديباً مجرباً بليغاً عبقرياً، فالإبداع يخترع لك العني الجميل، والموهوب تسعفه ذاكرته بجواهر المعاني، والأديب يصوغها في قوالب أزهي وأبهي من الماس، والعبقري يتفرد عن التقليديين والعاديين والمجرب له مدد من حياته الغزيرة بالأحداث الغنية بالحوادث.
لو أن متحدثاً أراد أن يقول معني البيت السابق نثراً لقال: إن الدنيا مشؤومة علي الأخيار، تضطرهم أن يحتاج الأخيار فيها إلي الأشرار، فيحملونهم وينافقونهم لجلب الخير ودفع الشر؛ لأنهم مضطرون لذلك؛ فيصبح العدو اللدود عند الضرورة صديقاً يذل له، ويصانع ويداري ويداهن للمصلحة المفروضة، أو الحاجة الملحة، أو الضرورة القائمة، ويكفي هذا ذلة للأحرار، وعلماً بحقارة ونذالة الدنيا، لكن المتنبئ يختزل هذا السيلان، والثرثرة اللفظية في بيت محبوك مسبوك أجمل من نجوم الليل، واثمن من حمر النعم فيقول:
ومن نكد الدنيا علي الحر أن يري---- عدواً له ما من صداقته بد
وتعال معي ـ رعاك الله، وضع أصبعك علي كل كلمة في البيت لتري روعة الاختيار ، وجمال الانتقاء، وانظر إلي كلمة نكد ويالها من لفظة معبرة موحية، تشعرك بالإشمئزاز من هذه الدنيا ، فهي دار النكد والكبد، وهي أبلغ في موقعها من لفظة غيرها مكانها، وكلمة الحر موحية فاتنة؛ لأن فيها معني الأنفة والكبرياء والشموخ، وهي التي بالمقابلة في البيت، ثم أنظر قوله عدواً له، وليس مبغضاً وكارهاً فحسب، بل عدواً كاشحاً النبي صلي الله عليه وسلم ثم يختار كلمة الصداقة، ولو أنه النفاق الظاهري، لكن ليقابل كلمة العدو، ثم يأتي بكلمة بد وقد احتاجت لها القافية حاجة الأرض للمطر، فجاءت في محلها لا و-ولا شطط؛ ليتم هذا البيت الفريد. ولك أن تقول نثراً: إن الحقراء إذا نالوا العظماء فهو دليل علي عظمة هذا العظيم وسمو قدره وجلالة مكانته وخطورة منزلته، ولكن المتنبئ يكسو هذه المعاني حلية باهية ، ويوشيها بحلة زاهية؛ لتبقي وتنقل وتعيش يقول:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص --- فهي الشهادة لي بأني كامل
فأنظر إلي كلمتي ناقص وكامل وحسن المقبلة بينها ، وكلمة مذمتي وكلمة الشهادة، ثم ارجع البصر كرتين في سلامة هذا الذوق ، وجودة هذا الخاطر، وخصوبة هذه الذاكرة.
إن الأمة أصيبت بإعياء في البصيرة ، وكساح في الذوق ، فما أصبح يهزها هذا الخطاب؛ لأن التبلد الذهني مع خشونة الطبع وانطماس العبقرية زادها عمي عن مشاهدة مرابع الجمال والبيان، ومطالعة البهاء والإبداع في هذا السحر من الكلام، والعذب من القول: ) فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً)(النساء: الآية78) ولك أن تفهم الناس بأن نواياهم وحدها لا تكفي بلوغ المقصود، وان طموحاتهم قد تصطدم بموانع لا تسمح ببلوغ مقاصدهم، فكم من أمنية عذبة لم تتحقق، وكم من مراد في الأذهان لم يحصل في الأعيان، لكن هذا الكلام قد يطير هباءً منثوراً ما لم يقيد بقافية جميلة، وكلمة شاردة، وهذا كما فعله المنبئ بقوله:
ما كل ما يتمني المرء يدركه --- تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
فأنظر إلي قوة الفكرة، وحسن الشاهد، وحلاوة السبك في إيجاز من القول، ولطف من العبارة، ورشاقة في المعني.
إن الشيوع والذيوع للعالم والشاعر والواعظ والزعيم هبة ربانية، ولكن لها أسبابها ومواهبها ، وكان المتنبئ ذائغاً شائعاً حتى ذكر شارحو ديوانه أنه له خمسمائة بيت تدور علي ألسنة الناس، واصبحت بعض أجزاء أبياته كالسكر في الفم، والطل في الزهر، كقوله: (( فإن الخمر معني ليس في العنب)). وقوله: (( ان تحسب الشحم فيمن شحمه ورم))/ وقوله ك (( ما لجرح بميت إيلام)) ، (( إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه))، وقوله: (( علي قدر أهل العزم تأتي العزائم))، وقوله : (( ولا يرد عليك الفائت الحزن)) غلي آخر ذلك السمو البياني والرقي اللفظي والجبروت العاطفي، فهذا الشاعر ليس خاملاً يبحث عن المعاني المبتذلة عند الحاكة والحلاقين والباعة ، وليس بارداً يريد أن يقول كلاماً مقفي وحديثاً موزوناً، ولكنه مبدع حر ليس عادياً، عند عاطفة فوارة، ونفس جياشة ، وهمة مجنحة، وذاكرة خلاقة، مع حياة مليئة بالعبر والتجارب؛ ولهذا كله صار أعجوبة في شعره، شاغل للمجالس؛ حاضر للنوادي وإلا فما معني أن نري لعشرات الشعراء أسفاراً من الأشعار في مجلدات ضخمة وإذا بها خامدة جامدة هامدة ميتة )حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)(المائدة: الآية3)، ولم يصل لنا من شعر مئات الشعراء إلا عشرات القصائد الشاردة التي هي عيون في الأدب مثل:
0( قفا نبك ، وهذا الذي تعرف البطحاء وطأته، وعيون المها، والسيف اصدق أنباء، وأمن تذكر جيران بذي سلم، وعلو في الحياة وفي الممات ومجالس وحي مقفر العرضات،..)) مع قليل من القصائد في قوتها ثم تندرس بقية قصائدهم، ولا يدري بها إلا باحث، ولا يعثر عليها إلا منقب متخصص، إلا هذذا المتنبئ الأعجوبة فمجمل شعره ينشد بين الناس، وحكمته تدور بين العلماء، وقوافيه تدور دوران عيون المحبين في مجالس الأنس كما قال هو : (( إذا قلت شعراً اصبح الدهر منشداً)).
لقد أعفانا المتنبئ من شعر الأعراب الذي ضيع أعمارنا في وصف ناقة عجفاء، وذكر منزل دارس مجدب، وتذكر فتاة في واد الغضا، ومدح شيخ قبيلته لا يحفظ الفاتحة،وسب قبيلة لأنها منعته من وجبة العشاء، فجاء المتنبي فحذف هذه الحواشي، ونسف هذه الحواجز الترابية ليرقي بمقاصد الشعر، مع ما عنده من غلو وإعجاب وتيه، وميزة المتنبئ أنه كبير المعاني جليل الأغراض ضخم المقاصد؛ اسمع بعض ذلك:
يقول:
أحقهم بالسيف من ضرب الطلى ---- وبالأمن من هانت عليه الشدائد
ويقول:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذي ---- حتى يراق علي جوانبه الدم
ويقول:
من اقتضي بسوى الهندي حاجته ----- أجاب كل سؤال عن هل بلم
ويقول:
لا يدرك المجد إلا سيد فطن ---- لما يشق علي السادات فعال
ويقول:
وإذا كانت النفوس كبـاراً ----- تعبت في مرادها الأجسام
ويقول:
ذل من يغبط الذليل بعيش ---- رب عيش ألذ منه الحمام
ويقول:
يري الجبناء أن العجز عقل ----- وتلك خديعة الطبع اللئيم
ويقول:
جود الرجال من الأيدي وجودهم ----- من اللسان فلا كانوا ولا الجود
وله في هذا المذهب قطوف دانية من القول الثمين والمعني الرصين.
لقد شبعت قصائد كثير من الشعراء موتاً قبل أن تولد، فها هي الدواوين في الأدراج جعلها الناس قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً منها، إذا قرأت أكثرها قلت: أحسن عزاء من كتبها في مداده، وعوض الله من طبعها في ماله، حتى قال بعض الأدباء: طالعت ديوان فلان بن فلان ثم أخذته فأوقدت به ناراً، وصنعت عليها رغيفاً من البر، وها هي الصحف والمجلات والدوريات تمطرنا بسيل جارف من القصائد لا تستحق دقيقة واحدة لمطالعتها، ولا تسمح لنا نفوسنا بقراءتها؛ لأنها جمل متراكبة تراكب النمل، مزدحمة ازدحام شعر النيص، ثقيلة ثقل دم الضرس، لا تحرك في السامع شعره ولا تهز فيه ذرة، ومع ذلك يوصف هؤلاء الشعراء بالنجوم والامعين واساطين البيان، رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، وغفر الله لمن كان يستحي من الله ثم من خلقه؛ فنحن الآن وقعنا بين شعر يسمي عربياً وهو أعجم من العجمي، حروفه عربيه ومعانيه سوقية، يذوب سخفاً، ويندي حقارة وخسة، وبين شعر عامي شعبي يصلح لأهل البادية الذين لم يشاهدوا سبورة ولا طبشورة؛ ولم يحملوا قلماً ولا ورقة، ويظنون أن حدود العالم ما بين خيامهم ومرعى أغنامهم، لعل مقصودنا من دراسة المتنبئ أن نقول لرواد الأدب وشداة البيان وحداو القافلة: حلقوا في سماء افبداع واختاروا الأروع والأحسن ، وارتقوا غلي مستوى فهم كتاب ربكم جل في علاه، الكتاب الذي أعجز العرب العرباء، وأسكت الأدباء ، وأفحم الشعراء )ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه)(البقرة: الآية2) ، ودعونا من هذا الهزال الأدبي ، والكساح الخطابي ، الذي ليس له عمر مديد، ولا مسقتبل عامر؛ لأنه ميت منذ ولادته، محكوم عليه بالفناء من لحظة وجوده ) فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْس)(يونس: الآية24).
المتنبئ يلعب النفوس بتوجعه وتفجعه
إن النفوس لا يحركها أي كلام ، ولا يهزها، أي حديث لأن الله خلقها عارفة مميزة، تفرق بين الجميل والقبيح والجيد والرديء، والشعراء درجات في اقتدارهم علي مخاطبة النفوس، وأظن المتنبئ بلغ الغاية في إلهاب نفوس سامعيه، وتحطيم الحواجز بينه وبين محبيه، لقد سبقه كثير من الشعراء إلي تلك المعاني الني جاد بها ، لكنه كساها رونقاً وحياة ومتعة فهذا أبو تمام يذكر المصلحة من المصائب بقوله:
والحادثات وإن أصابك بؤسها ---- فهو الذي أنباك كيف نعيمها
لكن المتنبئ يسوقها في هذه التحفة الرائعة:
ومن العداوة ما ينالك نفعه ---- ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
فيطوف بعالم المعني الشمل الأعم في لفظ مترقرق بهيج.
ويقول شاعر إيران السعدي الشيرازي:
بكت عيني غداة البين دمعاً ---- وأخري بالبكى بخلت علينا
فعاقبت التي بالمدع ضنت --- بأن أغمضها يوم التقينا
لكن المتنبئ سبقه فحفر في ذاكرة الأجيال، ونقش في ضمائر الناس قوله:
إذا اشتبكت دموع في خدود ---- تبين من بكى ممن تباكي
ويقول دانتي شاعر إيطاليا: إن السخفاء يجدون لذة في تتبع عثرات العظماء، ولكن المتنبئ يتفوق عليه ببيته الذائع المهيمن:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ---- فهي الشهادة لي بأني كامل
وميزة المتنبئ كما اسلفت تفجعه وتحرقه بما يقول، وانصهار روحه بمعاناته، وذوبان حشاشته بقضاياه يقول: واحر قلباه، ثم يسكت، فكأن قلبه يريد أن يغادر محله، وكأن ضلوعه تريد أن تنقض ، ويقول:
أصخرة أنا مالي لا تحركني --- هذي المدام ولا هذي الأغاريد
فتشعر أن الرجل حلت به أزمة طاحنة، وكربة ساحقة ، وبلية ماحقة، ويصيح باكياً:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا ---- وعناهم من شأنه ما عنانا
وتولوا بغصة كلهم منتـ --- ـه وإن سر بعضهم أحيانا
تسمع هذا فتحس بتعاطف وتضامن معه، فتشاركه هذا الأنين المكبوت، والعبرة المسفوحة، ويضج بحاله ويضيف من عيشه فينفجر شاكياً:
أما تغلط الأيام في بأن أري --- بغيضاً تنائي أو حبيباً تقرب
فتعتقد أن الرجل ضاقت به الأرض بما رحبت لما اعتراه من هموم وغموم، وتشاهد لوحة من لوحاته الحزينة وإذا به يرسم فيها:
أريد من زمني ذا أن يبلغني --- ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
ولكنه وللأسف لم يحظ بنيل حظوظه، وإدراك رغباته، لأن مقاصده تنعكس، ومرارته تتقلب خاسئة حسيرة إليه، ويرثي أحد أصحابه فيبدأ البكاء بقوله:
الحزن يقلق والتجمل يردع --- والدمع بينهما عصي طيع
فتجد مع ألم المصيبة روحاً وثابة، وهمة جامحة، ونفساً صامدة، ولكنها موجعة منهكة.
ويحتج علي الحمي ويصيح في وجهها:
أبنت الدهر عندي كل بنت --- فكيف وصلت أنت من الزحام
فإذا الرجل مضرس بالأنياب ، مجرح بالمخالب ، تنهشه النوائب من كل جهة كما يقول::
رماني الدهر بالأزراء حتى --- فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا اصابتني سهام --- تكسرت النصال علي النصال
فهو يحسو كأس المعاناة قطرة قطرة، ويتجرع غصص الكربات غصة غصة، وسامحه الله، ليته رد الأمر إلي فاطر السماوات والأرض، وسلم له أمره وردد )قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا)(التوبة: الآية51)إن الناس ليسوا بحاجة إلي كلام بارد ثقيل، يطفئ جذوة الخاطر، ويميت إشراق النفس، لكنهم بحاجة لم يترجم مآسيهم، ويشاركهم أحزانهم، ويعزيهم في مصابهم، ويخفف عليهم من ويلاتهم:
ولابد من شكوى إلي ذي قرابة --- يواسيك أو يسليك أو يتوجع
إن الشعر التقريري الإخباري أشبه بأخبار الطقس ، وأقام الأسعار ، ودرجات الحرارة )وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ) (صّ:34) .
إن المتنبئ عاش نعمة الألم، ولذة المعاناة، وسرور الحرمان فقال:
ذو العقل يشقي في النعيم بعقله --- وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فلا حياة الله لذة في جهل، ومتعة في ذل، وحياة في خضوع، ومرخباً بموت علي عز، ومصيبة علي كرامة، وتضحية معها مجد، يقول هو:
جزي الله المسير إليك خيراً وإن ترك المطايا كالمزاد
فكل مشقة في سبيل هينة، وكل تعب من أجل المجد راحة، يقول:
يهون علينا أن تصاب جسومنا --- وتسلم أعراض لنا وعقول
فما دام العرض مصون ، والعقل محفوظ، فجرح الجسم سهل يسير.
شاعر الحنين وأستاذ الوفاءلأبي الطيب طعم خاص في عالم الحنين إلي أهله وشبابه وموطنه، حتى مع من طرده، وأقصاه ونفاه، يقول لسيف الدولة بعدما فارقه إلي مصر:
رمي واتقي رميي ومن دون ما اتقي هوى كاسر كفي وقوسي واسهمي
ومعني البيت أن سيف الدولة رماني ـ سامحه الله ـ بالجفاء والإبعاد وأنا لا أستطيع أن أرميه؛ لأن له في قلبي محبة دفينة، ووداً دافئاً، وميلاً كامناً، كلما أردت أن أرميه وأنتقم منه كسر هواه وحبه في قلبي كفي وقوسي وأسهمي، ولكن انظر إلي نصاعة البيت وحلاوته وانسيابه.
ويفارق أحبابه فيصرخ:
يا من يعز علينا أن نفارقهم ---- وجداننا كل شيء بعدكم عدم
يعني يوم ارتحلنا عنكم مكرهين أظلمت أمامنا الطرق، وسدت في وجهنا الأبواب ، ما عاد شيء يبهجنا، وما صار لدينا متعة تسلية ، ولا منظر يعجبنا. بل قال عن وفائه وحفظه للعهد:
خلقت ألوفا لو رجعت إلي الصبا --- لفارقت شيبي موجع القلب باكياً
يا الله ! إلي هذا الحد وصل بك الوفاء يا شاعر العربية. إن الإيحاء الشعري فوق قضية البحر والوزن والقافية والروي، إنه سحر يجري في الأبيات ، وسحر يكمن في القصائد ، يفعل بالرواح فعل الغرام الهائج، أو الهيام المائج، وللمتنبي في باب الحنين مقامات مثيرة وشجون آسرة يقول:
نحن أدري وقد سألنا بنجد --- أطويل طريقنا أم يطول
وكثير من السؤال اشتياق ---- وكثير من وردة تعليل
لله درك يا بن الحسين، يا صاحب البديهة الحية والقافية الذائعة، لقد سكبت علي قلوبنا فيوضات من الشجون الذي لا ينتهي، والحنين الذي لا يهدأ.
أما أولئك الشعراء الذين يملؤون بطونهم من طعام الخليفة، حتى إذا أتخم أحدهم قام ينظم قصيدة طويلة ثقيلة باردة سمجة، فلن تقرأ لهم جزاء وفاقاً علي بلادتهم وغباوتهم.
ويقول أبو الطيب وهو يحن لمدوحه، يعد بحسن تعاهده، وحفظ مودته:
أروح وقد ختمت علي فؤادي --- بحبك أن يحل به سواكاً
فانظر كيف أغلق قلبه وسد منافذه لئلا يصل إليه محبوب آخر، واسمع إلي دفء هذا الحنين:
ما لاح برق أو ترنم طائر --- إلا انثنيت ولي فؤاد شيق
إن مرهف الإحساس النبي صلي الله عليه وسلم صافي الروح، تذكره المشاهد أحبابه، فيذكر ملاعب الصبا، ومراتع الشباب، ومعاهد الطفولة، ومنازل الصحاب، وخيام الجيران، أما المعاق نفسياً ، الميت عاطفياً، فله حديث مع الخبز، وقصة مع الفول، وقصيدة مع التمر الهندي:
من لم يبت والحب ملئ فؤاده --- لم يدر كيف تفتت الأكباد
وقديماً قال أحدهم:
ولو كنت عذري المحبة لم تكن --- بطنيا وأنساك الهوى كثرة الأكل
وقال آخر:
ولما دعيت الحب قالت كذبتني --- ألست أري الأعضاء منك كواسيا
وقال آخر:
يبكي علينا ولا نبكي علي أحد ---- لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
أما المتنبئ فقد ذابت حشاشته مما به من الحنين يقول:
وعذلت أهل العشق حتى ذقته --- فعجبت كيف يموت من لا يعشق
ويقول:
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل --- لولا مخاطبتي إياك لم ترني
المتنبئ والحب
الحب أرق كلمة في قاموس الحياة، وأجمل لفظة في دفتر الوجود، وأبهي عبارة في ديوان المعرفة، إنه صلة الروح بالروح، وضم القلب بالقلب، وعناق النفس للنفس، وأعرف بمعاني الحب وأسراره هم الشعراء؛ لأن عواطفهم جائشة، وجوانحهم مجنحة ، ومنهم كبيرهم الذي علمهم سحر الكلمة وهو المتنبئ.
وتعال معي في بهو الحب ومع أبي الطيب إذ يقول:
أرق علي أرق ومثلي يأرق -- -- وجوى يزيد وعبرة تترقرق
جهد الصبابة أن تكون كما أري - - -- عين مسهدة وقلب يخفق
فأنت تري أنه كلام خبير بالحب ، بصير بمذاهبه، غامض علي حقائقه، وانظر إلي تفننه وعجيب اقتداره في الرقيب، وخيانة الضمير، وغيض الدمع وابتداره يقول:
حاشى الرقيب فخانته ضمائره --- وغيض الدمع فانهلت بوادره
وكاتم الحب يوم البين منهتك --- وصاحب الدمع لا تخفي سرائره
فهو ليس صانع كلام، ولا مزخرف قول، بل ذائق عارف، ويقول في مطلع قصيدة:
باد هواك صبرت أم لم تصبرا --- وبكاك إن لم يجر دمعك أو جري
فهو يصف لك ظاهرة من ظواهر الحب، وهو تجلد المحب وكتمانه لحبه، ولكن دمعه يفضحه رغم حبسه.ويقدم لك نفسه علي أنه مصاب بداء الحب، قتيل بالأعين النجل:
فمن شاء فلينظر إلي فمنظري --- نذير إلي من ظن أن الهوي سهل
ثم تشرق نفسه بمعني بديع من معانيه الفائقة:
كأن رقيبا منك سد مسامعي --- عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
وهو معني معروف عند الشعراء ، يقول محمد بن داود:
كأن رقيباً منك يرعى خواطري ---- وآخر يرعى ناظري ولساني
ثم يأتي بصورة خلابة تفرد بها ـ فيما أعلم ـ يقول:
قالت وقد رأت اصفراري من به --- وتنهدت فأجبتها المتنهـد
فهو شاعر ثري التجربة، عامر الموهبة، صحيح المحبة، يقول:
خريدة لو رأتها الشمس ما طلعت --- ولو رآها قضيب البان لم يمس
فانظر إلي حضور الصورة في ذهنه، وجودة خاطره بالموصوف ، وسرعة استحضاره للمشاهد، ويقول:
نثرت ثلاث ذوائب من شعرها --- في ليلة فأرت ليالي أربعا
واستقبلت بدر السماء بوجهها --- فأرتني القمرين في ليل معا
إن صاحب هذه البيات له ذاكرة وقادة، وطبيعة منقادة، فليس بارد المشاعر، جاف العواطف، بل هو أحق بقول القائل:
وقاد ذهن إذا سالت قريحته --- يكا يخشى عليه من تلهبه
وكلما غير قافيته خضرته صورة من الحب والنسيب في حلل وارفة من بديع الوشي، وغالي النسيج، يقول في مقام آخر:
عجبنا فأذهب ما أبقي الفراق لنا ---- من العقول وما رد الذي ذهبا
سقيته عبرات ظنها مطـراً ---- سوائلاً من جفون ظنها سحبا
إنه التفرد في الجودة، والتوحد في الآله، حتى يفرض عليك الاستماع له، والإعجاب بنتاجه الرصين ، لأن الرجل عميق في فنه ، موهوب في عطائه ، واصيل في موهبته، وانظر إلي قصيده وهو يناجي الأرواح بما يحمله من حب وحنين وشوق ولوعة، يقول:
ليالي بعد الظاعنين شكول ------- طوال وليل العاشقين طويل
فانظر إلي حسن تأتيه للمعني، وبراعة استهلاله، واكتمال هذا البيت، حتى صار كالعنوان علي الكتاب، والوشم علي الكف، وأنصت لهذا الالتياع والوجد للمنازل في هذا المطلع الخلاب:
لك يا منازل في القلوب منازل ---- أقفرت أنت وهن منك أواهل
فتبقي تردد معه مشدوها بطريقة اختياره وجمال بنائه، وهذا مطلع أنيق يظهر مادة الغرام في نفس هذا الشاعر الموهوب يقول:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ---- بأن تسعدا والدمع اشفاه ساجمه
فهو يمزج الكلمة بالحب العاطفي بالحنين مع سهولة راقية في اللفظ. وجزالة وارفه في المعني. ومذهب سديد في الإبداع ، فحب المتنبئ ميل إلي الجمال، وإعجاب بالحسن، وشغف بالبهاء، وهو ليس وقفاً علي المرأة، بل حب وفاء لأصحابه ، من ملك، أو صديق، أو منزل، أو دار، لأنه ألوف يحفظ العهد. ويرعى الذمة، ويتعاهد الذكريات، ويرعى الوداد، ويبكي بكاء البطال، ويتفجع تفجع الشجعان ، ويتوجع توجع العظماء، ولكنه في النهاية إنسان له قلب ضعيف. وعواطف متأجحة، ودموع حارة، ونفس تذوب للجمال ، وتطير إلي الكمال، وتعشق الحسن.
من كتاب امبراطورية الشعراء