وإذا كنَّا قد حَلَّلْنَا مفهوم "الشعوب" في ضوء النظرية، فإنه يجدر بنا -كذلك- أن نُحَلِّل مفهوم "الحضارة"..

ولسنا بصدد أن نُعَرِّف الحضارة تعريفًا كاملًا شاملًا في هذا الكتاب، فليس هذا هو الهدف، خاصَّةً وأنَّ الحضارة من المصطلحات المختلَف عليها جدًّا بين العلماء والمفكِّرين، وقد أشرتُ في أحد كتبي السابقة إلى مفهوم الحضارة في عيون الفلاسفة والمنظِّرين، وذكرتُ تعريفًا خاصًّا بي هناك فليُرْجَعْ إليه[1].

أمَّا ما نُريده في هذا الكتاب فهو أن ننظر إلى الحضارات من منطلق النظريَّة، ومن حيث الاهتمام بقضايا التعارف والتواصل..

بناء على النظريَّة يُمكننا أن نُصنِّف حضارات العالم إلى ثلاثة أنواع..

الحضارات التعارفيَّة
أمَّا النوع الأوَّل من الحضارات فهو "الحضارات التعارفيَّة"، وهي الحضارات التي تقبل في داخلها التنوُّع الإنساني بشتَّى فصائله، فيُمكن أن تعيش فيها عقائد مختلفة، وثقافاتٌ متعدِّدة، ويُمكن أن تستوعب أعراقًا كثيرة، وألوانًا شتَّى من البشر، بل يُمكن أن يتكلَّم الناس في داخل هذه الحضارات التعارفيَّة أكثر من لغة، ويُعَبِّرون عن أنفسهم بطرقٍ مختلفةٍ تبعًا للطبائع المتعدِّدة التي يتميَّزون بها.

هذه الحضارات التعارفيَّة تشهد استقرارًا داخليًّا لافتًا، وينعم فيها سكَّانها بكلِّ إمكانيَّات الحضارة دون تفرقةٍ ولا تمييز، ويُبرِز فيها المواطنون انتماءً واضحًا لحضارتهم، ويتكلَّمون عنها بفخرٍ واعتزاز.

وعادةً ما يكون لهذه الحضارة هويَّة مستقلَّة تمامًا، ومتفرِّدة عن غيرها كليَّةً؛ ذلك لأنَّ هذه الهويَّة صيغت من تمازج شعوب كثيرة مندرجة في الحضارة نفسها، فصار كلُّ شعبٍ من هؤلاء يُضيف شيئًا، حتى صار المـُخرَج الجديد شيئًا فريدًا تمامًا لا تُشبهه حضارةٌ أخرى، وهذه في رأيي أرقى الحضارات، وهي الحضارات التي حقَّقت الغاية من التنوُّع البشري، وهي غاية "التعارف"، وهي حضارات يسعى سكان العالم على الالتحاق بها، واللجوء إليها، والتعامل معها.

وهناك في تصوُّري نوعان من "الحضارات التعارفيَّة"؛ أمَّا النوع الأوَّل هو الحضارات "المتعارفة داخليًّا"، وهي الصورة التي ذكرناها منذ قليل، حيث تستوعب الحضارة في داخلها شعوبًا كثيرةً تسمح الحضارة بتعارفهم جميعًا تعارفًا إيجابيًّا.

أمَّا النوع الثاني من الحضارات التعارفيَّة فهو الحضارات "المتعارفة خارجيًّا"، وهي نوعٌ أكثر تطوُّرًا، وأعظم نضجًا من النوع الأوَّل، وهي الحضارات التي تنفتح على العالم أجمع، وتتعارف على كلِّ الشعوب الخارجة عن نطاقها مهما اختلفت هذه الشعوب في طبائعها وخصائصها.

وقد تنجح بعض الحضارات في تحقيق النوعين معًا، وقد تقتصر بعض الحضارات على النوع الأوَّل دون القدرة على الوصول إلى النوع الثاني، ولكن في الغالب لن تكون هناك حضارات مقتصرة على النوع الثاني دون تحقيق النوع الأوَّل؛ بمعنى أنَّه لن تكون هناك حضارات لها القدرة على التعارف الخارجي مع الحضارات الأخرى دون أن تكون قد حقَّقت سلامًا داخليًّا في حدود حضارتها.

وأنا أرى أنَّ أميركا مثالًا للحضارات التعارفيَّة التي اقتصرت على تحقيق النوع الأوَّل من التعارف، وهو التعارف الداخلي، دون أن تقدر -حتى هذه اللحظة- على تحقيق التعارف الجيِّد والفعَّال مع الحضارات المحيطة.

لقد شهدت أميركا تنوُّعًا كبيرًا في داخلها، واستطاعت أن تتجاوز الفترة السوداء التي مرَّت بها في تاريخها؛ حيث كانت في البداية عنصريَّة من الدرجة الأولى؛ فقد مارست العنصريَّة ضدَّ الهنود الحمر، وهم السكَّان الأصليُّون لأميركا، ثُمَّ مارستها ضدَّ الأفارقة الذين جاءت بهم عبيدًا يعملون في أعمال السخرة والخدمة.. تجاوزت أميركا هذه المرحلة لتشهد الآن مجتمعًا تعارفيًّا يضمُّ عدَّة أعراق وعقائد وألوان وأجناس، بل إنَّنا نشهد فيه عدَّة لغات، فعلى الرغم من أنَّ اللغة الرسميَّة والأوسع انتشارًا هي اللغة الإنجليزيَّة فإنَّ هذا لم يُلغِ وجود لغاتٍ أخرى متداولة داخل الحضارة نفسها، فرأينا اللغة الإسبانيَّة تنتشر بشكلٍ كبيرٍ في أميركا، خاصَّةً في الولايات الجنوبيَّة التي تشهد كثافة من سكَّان أميركا الوسطى والجنوبيَّة، بالإضافة إلى المكسيكيِّين، وكلُّ هؤلاء يتكلَّمون الإسبانيَّة، وقد شاهدتُ بنفسي أنَّ لافتات الطرق والإعلانات، وإرشادات المستشفيات والمطارات، والهيئات الحكوميَّة.. وغيرها كل ذلك يُكتب باللغتين الإنجليزيَّة والإسبانيَّة، كما لا تُمانع الحكومة من تعليم اللغات الأخرى، وتنتشر المدارس الخاصَّة التي تُعَلِّم كلَّ لغات العالم، وتشهد بعض مناطق أميركا تركيزًا للسكان من جالية معيَّنة، فتجد أنَّ معظم اللافتات والإرشادات في هذا المكان باللغة الأصليَّة لهذه الجالية، مثل اللغة الكوريَّة في الحي الكوري بنيويورك، وكذلك اللغة الصينيَّة في الأحياء الصينيَّة المختلفة في نيويورك ولوس أنجلوس وغيرها، وكذلك اللغة العربيَّة في ديترويت ونيوجيرسي ونيويورك.. وغيرها، كما لا يلحظ أحدٌ بشكلٍ كبيرٍ في جانب الحقوق وجود تفرقة بين الأعراق المختلفة، وإن كان الاهتمام بالأفارقة السود لم يرقَ بعدُ للمستوى الأمثل.

كلُّ هذا في إطار الحضارة الأميركيَّة من الداخل..

لكنَّ الوضع خارجيًّا يختلف كثيرًا عن هذه الصورة!

فأميركا لم تستطع بعدُ أن تُقيم علاقات تعارفيَّة قويَّة مع حضارات العالم المختلفة، بل إنَّ الواقع يشهد أنَّ علاقة أميركا بالعالم الخارجي متوتِّرة للغاية، وليست هناك بقعة إلَّا وتشهد احتقانًا مع الحضارة الأميركيَّة، وليس هذا خاصًّا بالمسلمين كما يتصوَّر البعض، بل التوتر موجود بقوَّةٍ مع دول أميركا الجنوبيَّة، وهو أكثر وأشدُّ مع دول آسيا، وخاصَّةً روسيا والصين حتى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، بل إنَّ علاقاتها متوتِّرة مع أوربَّا نفسها، مع أنَّ أوربَّا هي الامتداد التاريخي الطبيعي لأميركا، فلا نجد شعبًا أوربيًّا يتعارف بتجانسٍ مع الحضارة الأميركيَّة، اللهمَّ ما نراه من بريطانيا.

وهذا الوضع هو ما يدفع الحكومات الأميركيَّة الأخيرة، سواءٌ في أواخر عهد جورج بوش الابن، أو في عهد أوباما إلى ما يُسَمَّى "بتحسين صورة أميركا خارجيًّا" وهم يبذلون جهدًا مضنيًا في هذا المجال، ويُنفقون أموالًا طائلة، ويُحَرِّكون إعلامًا جبَّارًا، ويُرسلون معونات، ويستقبلون بعثات، لكن كل هذا لم يُحَقِّق المطلوب بعدُ.. ولعلَّ مردَّ ذلك كله إلى شعور العالم بالغطرسة الأميركيَّة المتمثِّلة في فرض الرأي بالقوَّة على حكومات العالم المختلفة، وعلى الشعوب كذلك.. وهذا يُمَثِّل تعدِّيًا على كرامة الشعوب، والكرامة -كما ذكرنا في النظريَّة- من المشتركات الإنسانية العامة التي لا يُمكن للإنسان أن يعيش دونها، فلن يُجدي مع إهدار الكرامة أن تُقَدِّم معونة غذائيَّة أو عسكريَّة.

وليس معنى هذا الكلام أنَّ الشعب الأميركي غير قابلٍ للتعارف خاريجيًّا؛ بل إنَّني أرى -وقد لمستُ ذلك بنفسي في زياراتي المتعدِّدة لأميركا- أنَّ غالب الشعب الأميركي طيِّب القلب، لطيف المعاملة، دمث الخلق، لكنَّه للأسف يُسَلِّم قياده تمامًا للسياسيِّين والإعلاميِّين، وهؤلاء يبحثون عن مصالحهم وأهوائهم، ولا مانع عندهم من سَوق البلد إلى صدامات متعدِّدة في سبيل الوصول إلى المجد الذي يحلمون به.

وقد يرى المراقب للأحداث العالميَّة أنَّ الوفود الأميركيَّة لا تهدأ في التواصل مع شتَّى شعوب العالم، وأنَّ الحكومة الأميركيَّة لها علاقاتٌ قويَّةٌ جادَّة مع كلِّ الأمم، فيستغرب حينئذٍ من كلامي بخصوص الفشل الأميركي في التعارف الخارجي.. ولذلك فأنا أودُّ أن ألفت أنظار القرَّاء إلى أمرٍ دقيق.. بل هو في غاية الدقَّة!

إنَّنا ذكرنا في بداية هذا الكتاب أنَّ الإنسان يحتاج غيره، وأنَّ بيئة كلِّ إنسانٍ منقوصة، ويحتاج أن يتعامل مع الآخرين حتى يُكمل النقص الذي عنده، وأنَّ الإنسان أمامه أحد طريقين لتحقيق مراده، إمَّا "التعارف لتحقيق مصلحة مشتركة"، وهذا طريق الأسوياء، وإمَّا "التصادم لتحقيق مصلحة ذاتية"، وهذا طريق الأشقياء..

لكنَّ واقع الأمر أنَّ ثَمَّة طريق ثالث موجود بين الطريقين، وهو طريق الخبثاء! وهذا الطريق هو "التعارف لتحقيق مصلحةٍ ذاتيَّة"!

فالعلاقات الأميركيَّة الخارجيَّة ليست علاقات بريئة فوق الشبهات، والمعونات الأميركيَّة الغزيرة لا تُقَدَّم من أجل الأخلاق والفضيلة، والوفود الطائرة من وإلى أميركا صباح مساء لا تهدف إلى إسعاد البشريَّة!

إنَّ كلَّ هذه العلاقات التعارفيَّة لم تنشأ إلَّا لتحقيق مصالح أميركا دون النظر -في غالب الأمر- إلى مصالح الآخرين، وهذا أمر تظنُّ أميركا أنَّها استطاعت أن تُخفيه وراء بسمتها وأموالها وإعلامها، لكنَّ هذا الظنَّ ليس في محلِّه، فمعظم شعوب العالم قرأت هذا السيناريو، وفهمت العلاقات الخارجيَّة الأميركيَّة؛ ومِنْ ثَمَّ فما زالت شعوب العالم لا تقبل أميركا مع كلِّ عطائها ومنحها، وليس هذا جحودًا من الشعوب، إنَّما هو حصافة وذكاء وقدرة على قراءة الأحداث.

وهكذا صارت العلاقات الأميركيَّة الخارجيَّة تعتمد أحد طريقين كليهما أسوأ من الآخر؛ فالأوَّل هو التصادم لتحقيق مصلحة ذاتيَّة، مثلما حدث في العراق وأفغانستان، ومثلما تُؤَيِّد أميركا فيه الصهاينة في فلسطين، والطريق الثاني هو التعارف لتحقيق مصلحةٍ ذاتيَّةٍ كذلك، مثلما تفعل مع بقيَّة شعوب العالم.. وهذه ليست طرقًا سويَّة في التعامل؛ ومن ثَمَّ تُزرع الكراهية في قلوب الناس.

وليس معنى هذا أنَّنا نُغفل النموذج التعارفي الجيِّد الذي تُقَدَّمه أميركا الآن "داخل" حضارتها، ولعلَّ هذا هو الذي يُثير اللبس والاضطراب عند العلماء والمفكِّرين الذين زاروا أميركا، أو عاشوا فيها؛ فهم يرون صورةً باهرةً في "الداخل" تجعلهم يرفعون الحضارة الأميركيَّة إلى السماء، ثم يُبَاغَتُون برؤية الصدامات الأميركيَّة الخارجيَّة، وازدراء مصالح الشعوب الأخرى، فيشعرون أنَّ هناك فصامًا في الشخصيَّة الأميركيَّة، والواقع أنَّه ليس هناك فصامٌ ولا غيره، إنَّما الحقيقة أنَّ المحلِّلين لا يُفَرِّقون بين الشعوب والحكومات؛ فالشعوب قد تكون تعارفيَّة للغاية، لكنَّ الحكومات -وخاصَّة القويَّة- قد تكون متكبِّرة ومتغطرسة؛ ممَّا يجعلها لا ترى إلَّا نفسها، وأحيانًا تقع الشعوب في الأزمة نتيجة التصوير الإعلامي الزائف للحقائق، وقد مرَّ بنا -على سبيل المثال- في فصل "الطريق إلى الهاوية" أنَّ الإعلام الغربي والأميركي -على وجه الخصوص- يُرَوِّج لفكرة "الإسلاموفوبيا"، أو الخوف من الإسلام، ولمـَّا كانت الشعوب الغربيَّة والأميركيَّة أسيرة لإعلامها فإنَّها تلقائيًّا تصل إلى مرحلةٍ من الفزع تمنعها من التفكير في التعارف على المسلمين.. وهذا مثال، والأمثلة التي تُشبهه كثيرة، وهذا -للأسف- يُفَوِّت على الشعوب فرص تعارف كثيرة.

كان هذا مثالًا لحضارة استطاعت أن تُحَقِّق تعارفًا داخليًّا لكنَّها فشلت في ذلك على المستوى الخارجي.

ومن المناسب أن نضرب هنا مثالًا عن حضارةٍ استطاعت أن تُحقِّق التعارف على المستويين الداخلي والخارجي، ويُمكن أن تكون كندا من الأمثلة الجيِّدة في حضارات العالم المعاصر، فعلى المستوى الداخلي فإنَّها تشهد التعارف بشكلٍ فعَّالٍ ومؤثِّر؛ حيث إنَّها مكوَّنة من جنسيَّاتٍ وأعراقٍ كثيرةٍ جدًّا، لعلَّها أكثر من أميركا، ومع ذلك فالاستقرار الداخلي فيها أعلى من أميركا، ومسألة التعارف بين العرقيَّات والأجناس المختلفة أمرٌ طبيعيٌّ وتلقائي، وأمَّا على المستوى الخارجي فعلاقات كندا مع دول العالم علاقات تعارف حقيقيَّة، فيها البحث عن المصالح المشتركة، سواءٌ كانت هذه المصالح اقتصاديَّة أم ثقافيَّة أم علميَّة.. أم غيرها.

والفارق بين الصورتين –صورة أميركا وصورة كندا- ليس هو الفارق بين الشعبين، فطبيعة الشعبين متقاربةٌ للغاية، إنَّما الفارق الحقيقي هو القوَّة المفرطة لأميركا، التي تجعلها تُفكِّر من منظور المصلحة الذاتيَّة، حتى لو تحقَّقت خسائر فإنَّها –لقوَّتها- تستطيع أن تتعامل معها، أمَّا كندا فقوَّتها متوازنة نسبيًّا مع قوى كثيرة في العالم، وليس عندها هذا الإفراط الذي رأيناه في أميركا؛ ومن ثَمَّ فهي تزن الأمور بالتعقُّل لا بالتجبُّر، وهذا فارقٌ جوهريٌّ في التعامل.

وعلى المدى البعيد فإنَّ مصالح الحضارات التي تتعارف على المستويين الداخلي والخارجي تتحقَّق بشكلٍ أكبر؛ لأنَّها تُصبح أكثر استقرارًا وأمانًا، ولا تتعرَّض لغضبات الشعوب الأخرى؛ ممَّا يحفظ لها عمرًا أطول، وهي رسالةٌ أتمنى أن تصل إلى الشعب الأميركي!

أمَّا التاريخ فيشهد أنَّ الحضارة الإسلامية في فتراتٍ كثيرةٍ من عمرها كانت حضارةً تعارفيَّة على المستويين الداخلي والخارجي، فداخليًّا ضمَّت الحضارة الإسلاميَّة عشرات الشعوب من شتَّى أجناس الأرض، وشهدت تعارفًا وتمازجًا وتواصلًا رائعًا بين كلِّ هذه الشعوب، وأثمر كلُّ ذلك حضارةً فريدةً جمعت خيرات وعلوم العالم، ولقد شهد بذلك المؤرِّخون المنصفون؛ فقال توماس أرنولد[2] على سبيل المثال: "إنَّه من الحقِّ أن نقول: إنَّ غير المسلمين قد نعموا -بوجه الإجمال- في ظلِّ الحكم الإسلامي بدرجةٍ من التسامح لا نجد معادلًا لها في أوربا قبل الأزمنة الحديثة, وإنَّ دوام الطوائف المسيحيَّة في وسط إسلامي يدلُّ على أنَّ الاضطهادات التي قاست منها بين الحين والآخر على يد المتزمِّتين والمتعصِّبين كانت من صنع الظروف المحليَّة, أكثر ممَّا كانت عاقبة مبادئ التعصُّب وعدم التسامح"[3].

وهذا الكلام له ثقله، ليس لأنَّه فقط أتى من مستشرقٍ أوربِّيٍّ غير مسلم، ولكن لأنَّه يتحدَّث عن حضارةٍ قامت على أساسٍ عقائديٍّ وديني، ومع ذلك سمحت لشتَّى الأديان والفلسفات أن تستمرَّ داخل كيانها دون أيِّ نوعٍ من التعصُّب أو الاضطهاد.

وأمَّا على المستوى الخارجي فالعلاقات الإسلاميَّة مع العالم كانت في غاية النبل والتعارف، ولقد وصل الإسلام سِلْمًا إلى معظم شعوب العالم في شرقه وفي غربه، حتى الدول التي اصطدمت مع الحضارة الإسلاميَّة فإنَّها كانت تشهد فترات سلم وهدنة طويلة كان يجري فيها التعامل والتعارف بشكلٍ متواصل، ولعلَّ من أبلغ الأمثلة على ذلك؛ العلاقات التعارفيَّة والتواصليَّة مع الدولة البيزنطيَّة على الرغم من الحروب المتتالية معها، وهذه العلاقات التعارفيَّة نجم عنها ترجمة أعدادٍ كبيرةٍ من الكتب اليونانيَّة في شتَّى مجالات العلوم إلى اللغة العربيَّة، ولم يكن هذا يتم دون اتِّفاقٍ يبحث عن المصالح المشتركة؛ فقد كان المسلمون يشترون هذه الكتب بما يُوازي وزنها ذهبًا، بل كانوا أحيانًا يُبادلون الأسرى بهذه الكتب[4]، فتتحقَّق مصالح فكُّ الأسرى بالنسبة إلى البيزنطيِّين، وتتحقَّق مصالح البحث العلمي بالنسبة إلى المسلمين.

ولا ينسى التاريخ علاقات الخلافة العباسية -على سبيل المثال- مع مملكة فرنسا، التي كانت قائمةً على التعارف والتعاون المستمر لتحقيق مصالح مشتركة.

وليس معنى هذا أنَّ تاريخ الحضارة الإسلامية تاريخ ملائكةٍ بلا أخطاء؛ فلا شكَّ أنَّ حضارةً مثل الحضارة الإسلاميَّة شملت في بعض فتراتها قرابة نصف العالم، وضمَّت عشرات الشعوب، وتعرَّضت لآلاف التحديَّات، لا بُدَّ أن تمرَّ بفتراتٍ ينفلت فيها الزمام، وتضطرب فيها الأمور، ويحل التصادم الداخلي أو الخارجي محلَّ التعارف..

نعم هذا يحدث، لكنَّه لا يُمكن أن يلغي المثال الحضاري الراقي الذي ضربته الحضارة الإسلاميَّة خلال عدَّة قرون متتالية.. وهذه ليست شهادتي وحدي؛ إنَّما هي شهادات الكثير من الغربيِّين الذين درسوا تاريخ الحضارة الإسلاميَّة، ويُمكن للقارئ أن يعود إلى كتابي "وشهد شاهد من أهلها"[5]، ليُراجع مجموعةً من هذه الشهادات.

كان هذا هو النوع الأول من الحضارات تبعًا لرؤية النظرية.

كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.

[1] راجع راغب السرجاني: ماذا قدم المسلمون للعالم، 1/3-14.
[2] توماس أرنولد Thomas Walker Arnold (1864- 1930م): مؤرخ إنجليزي شهير، من أعظم المستشرقين البريطانيين، كان عميدًا لمدرسة اللغات الشرقية بلندن سنة 1904م، من أشهر أعماله كتاب (الدعوة إلى الإسلام).
[3] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص729، 730.
[4] انظر: كتاب "وشهد شاهدٌ من أهلها"، ص253، ومحمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين، ص39.
[5] راغب السرجاني: "وشهد شاهدٌ من أهلها"، نهضة مصر للطباعة والنشر - مصر.