لمعظمنا، إن لم يكن لجميعنا، تعد حشرة فرس النبي أو السرعوف مثالًا للوداعة والطيبة والسلام النفسي مع العالم من حولنا؛ حتى أن اسمه المشهور به “فرس النبي” أو “السرعوف المُصلي Praying Mantises” مستقى من سكونه الشديد ووضعية ذراعيه المرفوعتين دومًا كابتهال للسماء. هذا راهب مضطجع بمحرابه فوق ورقة خضراء أو على غصن صغير ينتظر رزق السماء، فما المشكلة هنا إذن؟!
المشكلة أن معلوماتك بأكملها حول هذا الصياد العنيف خاطئة تمامًا! فالسرعوف الناسك أو “فرس النبي” يعد من أشرس الحشرات وأكثرها إثارة للرعب على سطح كوكبنا؛ وبالمناسبة، ما يرفعهما السرعوف ليسا ذراعيه وإنما ساقيه الأماميتين، وهما من القوة والبأس بحيث يستطيع خطف أي حشرة أو عنكبوت غافل، بل ويتعدى هذا إلى صيد البرمائيات كالضفادع والسحالي الصغيرة. لكن الجديد هنا، ووفق دراسات حديثة حول نمط صيد وتغذي السراعيف هو أنها قادرة على اصطياد الطيور كذلك! وهي لا تفعل هذا نادرًا … بل تفعله طيلة الوقت تقريبًا!
صورة كابوسية، أليست كذلك؟! هي كذلك بالفعل، خاصة في ضوء البحث الجديد المنشور في دورية The Wilson Journal of Ornithology الشهيرة لعلوم وأبحاث الطيور والذي أظهر قضاء المئات من الطيور سنويًا كضحايا للسراعيف الناسكة، وأن هذا النمط الافتراسي موجود في أنواع مختلفة وكثيرة للسراعيف حول العالم. تم تسجيل أغلب الحالات لهذا النوع من الافتراس للحشرات على الطيور في أمريكا الشمالية، حيث جرى قنص الطيور الصغيرة خاصة طيور الطنان والتغذي عليها من قبل حشرات لاحمة في الحدائق أو المتنزهات العامة.
قام الباحثون في هذه الدراسة بتوثيق ما يقارب 150 حالة للسراعيف ملتهمة الطيور حول العالم، حيث تم ملاحظة أن السراعيف من 12 فصيلة محتلفة تابعة لتسع عائلات في مملكة الحشرات تتغذى على الطيور الصغيرة في البرية. تم تسجيل هذه السلوك في 13 دولة مختلفة، وفيها جميعًا باستثناء القارة القطبية الشمالية، وجد أن السراعيف تتغذى على أنواع متعددة من الطيور تشمل 24 فصيلة و14 عائلة مختلفة. وبعد هذا الاكتشاف مهمًا وضخمًا سواء على المستوى التصنيفي أو الجغرافي في عالم الحشرات والطيور.
الدراسة مليئة بالإحصائيات المخيفة والغريبة التي قد لا نستسيغها، ويمكنكم الاطلاع عليها كاملة في المراجع نهاية المقال، لكن ما لفت نظري بها أن السراعيف تنجح في قتل والتهام حوالي 78% من الطيور التي تمسك بها بساقيها الأماميتين القويتين التي لا فكاك منها، بينما ينجح 2% فقط من التملص من قبضة السرعوف بأنفسها دون مساعدة. أما الـ 18% المتبقية من الطيور الناجية يتم إنقاذها بواسطة البشر الذين لا يطيقون رؤية طائر يتم إلتهامه حيًا وتقطيعه إربًا عن طريق حشرة لاحمة.
كذلك، وجد الباحثون أن 70% من الحالات المسجلة والمبلغ عنها تستأثر بها الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، حيث يقبع السرعوف بلا حراك حول أماكن تغذي الطيور الطنانة كالزهور أو بيوت التلقيح التي تتردد عليها تلك الطيور الصغيرة كي ينل منها على غفلة منها. هكذا، لا عجب أن تكون الطيور الطنانة هي الضحية الأشهر والأكثر تكرارًا للسراعيف الصيادة، خاصة طائر الطنان ياقوتي الحنجرة Ruby-throated Hummingbird.
وعلى الرغم من أن الأمر مزعج وكفيل بإصابة المرء بالكوابيس لأيام عدة، إلا أن له جوانب أخرى بيئية شديدة الخطورة لا يجب التهاون بها. فمع النمط المتزايد لهذا التغذي الشاذ للسراعيف على الطيور في أمريكا الشمالية، يخشى العلماء أن يستفحل الأمر ليخل بالتوازن الطبيعي بين الكائنات الحية، خاصة وأنه قد تم إطلاق أنواع غريبة ومهاجرة من السراعيف قبل عدة سنوات في أمريكا الشمالية كوسيلة للسيطرة على الآفات الحشرية التي تتغذى عليها السراعيف بشكل طبيعي. لكن يبدو أن الآية انقلبت بشكل غير متوقع أو أنه لم تتم دراسة الأمر جيدًا فصارت السراعيف تشكل خطرًا مباشرًا على الطيور الطنانة وغيرها من الطيور الصغيرة المهمة لاستمرار دورة الحياة الطبيعية في القارة.
وفي الوقت الراهن، يوصي الباحثون بعدم إستقدام أي أنواع غريبة من السراعيف والاستعانة بها في مقاومة الحشرات حتى ولو أبدت فعالية ظاهرة في القضاء على الآفات الضارة بحديقتك أو مزرعتك؛ فآثار ذلك مسقبلًا ستكون أكثر سوءً لا يمكن السيطرة عليها.