لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الدواب بأن تُربط ثُمَّ تُرمى بالحجارة ونحوه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يَقُولُ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَلَ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ صَبْرًا"[1].
ثُمَّ نهى صلى الله عليه وسلم عن أكل ما مات بهذه الطريقة، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الْمُجَثَّمَةِ؛ وَهِيَ الَّتِي تُصْبَرُ بِالنَّبْلِ"[2]. وعن ابن عباس: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُجَثَّمَةِ وَلَبَنِ الْجَلَّالَةِ، وَعَنِ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ"[3].
قال ابن قتيبة[4]: "المـُجَثَّمة فهي التي جُثِّمت على الموت، يقال: برَك البَعير، ورَبَضت الشَّاة، وجثَم الطائر، وجثَمت الأرنب، وجثَّمتُها: إذا أنا فعلْتُ بها مُكرِهًا لها عليه، وهي بمنزلة المَصْبوة والمَصْبورة: المحبوسة على الموت، يُقال: صَبرْت البَهيمة أصبرُها صَبْرًا إذا أنت أوثقتها ثُمَّ قتلْتَها رَمْيًا وضَرْبًا"[5].
ممَّا نهى عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإحراق بالنار، وقد ذكرنا فيما سبق حديث ابن مسعود الذي فيه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى قرية نملٍ قد حرَّقناها فقال: "مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟" قلنا: نحن. قال: "إِنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ"[6]. فاعتبر صلى الله عليه وسلم هذا من التعذيب ونهى عنه.
لقد سرى معنى الرحمة في نفوس المسلمين من بعد ما كانت قلوبهم مثال القسوة في جاهليتها؛ فالذي كان لا يرقُّ لوأد البنت وهي حية، أصبح الآن يرحم الشاة وهو يذبحها.
روى معاوية بن قرة عن أبيه أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، إنِّي لأذبح الشاة وأنا أرحمها. أو قال: إني لأرحم الشاة أن أذبحها. فقال: "وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ"[7].
ومرَّ بنا ما رواه كعب بن مالك رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ غَنَمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَأْكُلُوا حَتَّى أَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أُرْسِلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَسْأَلُهُ. وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَاكَ أَوْ أَرْسَلَ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا"[8].
إننا نُبصر في هذا الحديث ثمرة المنهج الإسلاميِّ الذي حرَّم أكل الميتة، وأوجب الذبح والزكاة الشرعية ليحل لحم المأكول، فهذا ما جعل الجارية تسرع لذبح الشاة لكي يُنتفع بها، ولو لم يكن من موجبٍ لهذا لظلَّ ألم الموت ينهش الشاة ساعاتٍ أو أيامًا، أو أكثر من ذلك أو أقل دون أن ينهض أحدٌ ليرحمها من ذلك الألم.
ومن يدري؟ فلربما فعلت الجارية ما فعلت رحمة بالشاة من ألمها أولًا، قبل أن تُفَكِّر في الانتفاع بها؛ فهي الجارية التي عاشت في ظلِّ العصر النبوي الذي غرس معنى الرحمة بالكائنات في نفوس المسلمين، حتى إنَّ الرجل يرحم الشاة وهو يذبحها، وقد كان من قبل يَئِدُ بنته ولا تطرف له عين!
لقد وضع الإسلام قاعدته الخالدة، قاعدة: "الإحسان في كلِّ شيء"، حتى في القتل، وحتى في الذبح، فعن شدَّاد بن أوسٍ رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"[9].
يقول الأستاذ محمد قطب: إنَّه مرتقى للمشاعر البشرية يبلغ القمة التي ليس وراءها شيء... إنَّها الرحمة التي لا تقف عند الأناسيِّ من الخلق، ولا يحكمها انحياز الإنسان لنفسه واعتداده بجنسه، وإنَّما تتعدَّاها إلى المجال الواسع الفسيح الذي يشمل كلَّ الأحياء في الكون[10].
بهذا الحديث وعلى أساسٍ من هذه القاعدة فَسَّر الإمام عز الدين بن عبد السلام حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً، وَمَنْ قَتَلَهَا فِي الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً؛ لِدُونِ الأُولَى، وَإِنْ قَتَلَهَا فِي الضَّرْبَةِ الثَّالِثَةِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً؛ لِدُونِ الثَّانِيَةِ"[11].
قال العظيم آبادي: "قال الشيخ عزُّ الدين بن عبد السلام في أماليه: الضربة الأولى معلَّل؛ إمَّا لأنَّه حين قتل أحسن؛ فيندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ". أو يكون معلَّلًا بالمبادرة إلى الخير؛ فيندرج في قوله تعالى: { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } [البقرة: 148]. وعلى كلا التعليلين يكون الحية أولى بذلك والعقرب لعظم مفسدتهما.
قال (ابن عبد السلام) في موضعٍ آخر: الأجر في التكاليف على قدر النصب... وشذَّ عن هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم في الوزغة، فقد صار كلما كثرت المشقَّة قلَّ الأجر؛ والسبب في ذلك أنَّ الأجر إنَّما هو مترتِّب على تفاوت المصالح لا على تفاوت المشاقِّ"[12].
لقد كان حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أساس بنى عليه الفقهاء فقهًا امتلأ بفروع ووصايا وتعاليم تُحَقِّق إلى أقصى حدٍّ معنى: "الإحسان في الذبح"، وعُرف هذا باسم "آداب الذبح"، وهو المصطلح الذي نتوقَّع أنَّه من الإضافات الإسلامية الحضارية للتراث الإنساني.
الرفق في الذبح حتى للحيوان إذا كان مؤذيًا، قال الإمام الأصوليُّ ابن نجيم: "وجاز قتل ما يضر من البهائم كالكلب العقور والهرة، إذا كانت تأكل الحمام والدجاج؛ لإزالة الضرر، ويذبحها ولا يضر بها؛ لأنَّه لا يُفيد فيكون معذِّبًا لها بلا فائدة"[13].
قال الإمام أبو حنيفة: إذا آذت الهرة وقصد قتلها فلا تعذَّب ولا تُخنق بل تُذبح بموسى حادٍّ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ". ومن هذا المعنى إذا يئس من حياة ما لا يُؤكل فيذبح لإراحته من ألم الوجع، والذي رأيت المنع إلا أن يكون من الحيوان الذي يُذَكَّى لأخذ جلده[14].
وقد وضع الإسلام آدابًا للذبح منها:
1. أن يكون بآلة حديدٍ حادَّةٍ كالسكين والسيف الحادين، لا بغير الحديد، ولا بالكليلة؛ لأنَّ ذلك مخالف للإراحة المطلوبة.
2. التذفيف في القطع -وهو الإسراع- لأنَّ فيه إراحةً للذبيحة.
3. إحداد الشفرة قبل إضجاع الشاة ونحوها، صرَّح بذلك الحنفية والمالكية والشافعية، واتفقوا على كراهة أن يحدَّ الذابح الشفرة بين يدي الذبيحة وهي مهيَّأةٌ للذبح؛ لما أخرجه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه أنَّ رجلًا أضجع شاةً يُريد أن يذبحها وهو يحدُّ شفرته، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟! هَلَّا حَدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا"[15].
4. أن تُضجع الذبيحة على شقِّها الأيسر برفق، وقال المالكية: السُّنَّة أن تأخذ الشاة برفق، وتُضجعها على شقِّها الأيسر، ورأسها مشرف، وتأخذ بيدك اليسرى جلدة حلقها من اللحي الأسفل بالصوف أو غيره فتمده حتى تتبين البشرة، وتضع السكين في المذبح حتى تكون الجوزة في الرأس، ثُمَّ تُسمي الله وتُمِرُّ السكين مرًّا مجهَّزًا من غير ترديد، ثُمَّ ترفع ولا تنخع ولا تضرب بها الأرض، ولا تجعل رجلك على عنقها، وصرَّح الشافعية باستحباب شدِّ قوائمها وترك رجلها اليمنى؛ لتستريح بتحريكها.
5. سوق الذبيحة إلى المذبح برفق.
6. عرض الماء على الذبيحة قبل ذبحها.
7. عدم المبالغة في القطع حتى يبلغ الذابح النخاع، أو يبين رأس الذبيحة حال ذبحها، وكذا بعد الذبح قبل أن تبرد، وكذا سلخها قبل أن تبرد؛ لما في كلِّ ذلك من زيادة إيلام لا حاجة إليها، وصرَّح المالكية والشافعية والحنابلة بكراهة قطع عضوٍ منها، أو إلقائها في النار بعد تمام ذبحها وقبل خروج روحها، وصرَّح الشافعية -أيضًا- بكراهة تحريكها ونقلها قبل خروج روحها، وقال القاضي من الحنابلة: يحرم كسر عنقها حتى تبرد، وقطع عضوٍ منها قبل أن تبرد.
كذلك اكتملت منظومة المنهج الإسلامي في حماية الكائنات الحية في حال حياتها و-أيضًا- في حال موتها؛ فكان الإسلام ظلًّا سعيدًا على كلِّ من تحته من بَشَر؛ الذين هادوا والنصارى والصابئين والذين أشركوا، وكان كذلك ظلًّا سعيدًا على الكائنات الحية حتى الهوام والحشرات؛ فهي لا تعيش إلا صالحة، ولا تموت إلا في منفعةٍ ولمصلحة، وبأفضل الطرق وأكثرها إراحة وأقلها ألمـًا.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
[1] مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب النهي عن صبر البهائم (1959)، وابن ماجه (3188)، وأحمد (14463)، والبيهقي (19269).
[2] الترمذي: كتاب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية أكل المصبورة (1473)، وأحمد (17776)، والحاكم في المستدرك (2247)، وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في التعليق على سنن الترمذي، وصححه شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد.
[3] الترمذي: كتاب الأطعمة، باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها (1825)، والنسائي (4448)، وأحمد (1989)، وصححه الألباني في التعليق على سنن الترمذي وسنن أبي داود، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط البخاري.
[4] ابن قتيبة الدِّينَوري: هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّينورِي (213 - 276هـ = 828 - 889م): مفسر وفقيه وأديب ومؤرخ ولغوي، من أعلام القرن الثالث للهجرة، وُلد بالكوفة. انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 13/296.
[5] ابن قتيبة: غريب الحديث 1/276.
[6] سبق تخريجه ص216.
[7] أحمد (15630) والحاكم (7562) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح، وقال شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد: إسناده صحيح.
[8] سبق تخريجه ص166.
[9] مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة (1955)، وأبو داود (2815)، والترمذي (1409)، والنسائي (4405)، وابن ماجه (3170)، وأحمد (17154)، والدارمي (1970)، وابن حبان (5883).
[10] محمد قطب: قبسات من الرسول ص95.
[11] مسلم: كتاب السلام، باب استحباب قتل الوزغ (2240)، وأبو داود (5263)، والترمذي (1482)، وابن ماجه (3229).
[12] العظيم آبادي: عون المعبود 14/116، وانظر قول ابن عبد السلام في الفوائد في اختصار المقاصد 1/33.
[13] ابن نجيم الحنفي: البحر الرائق 8/554.
[14] مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل 4/358.
[15] رواه الحاكم في المستدرك (7563)، وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وأقره الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (24).