«تم تصميمه في كاليفورنيا وتجميعه في الصين»، هذه واحدة من أقوى المفارقات الاقتصادية على هذا الكوكب، والتي قد تجدها على منتجات شركة أبل؛ إذ يتم تصميم أجزاء الجهاز الذكي في وادي السيليكون، ولكن يتم تجميعها باليد في الصين.
في رأي البعض نحن نترك أخلاقياتنا جانبًا بمجرد أن تطلق شركة أبل هاتفًا جديدًا، فنحرك أصابعنا بإعجاب على العلبة وتصميمها الفريد، ولكن الفرادة هنا لم تأت من عدم؛ فقد «انتحر» الكثيرون – حرفيًا – لتصل هذه القطعة إلى يدك، على سبيل المثال، يواجه مصنع فوكسكون، المصنع الصيني لأبل، والذي يتم فيه جمع الأجزاء وتركيبها، موجات مستمرة من الانتقادات والمخاوف من ظروف العمل السيئة التي دفعت العمال إلى الانتحار.
«لن تنجح فوكسكون إلا على جثث العمال، كل عام ينتحر البعض منا، ويعتبرون الأمر عاديًا».. عامل بفوكسكون
فوكسكون: أن تكون حياتك وسيلتك للضغط على الآخرين
في الصين بمدينة «شنتشن الكبرى» يقع مصنع فوكسكون، المصنع الرئيس لمنتجات شركة أبل، وإذ إنه قد يكون المصنع الأشهر في العالم، فهو أيضًا الأكثر سرية، فعلى كل نقطة دخول يقف حراس الأمن، ولا يمكن للعاملين الدخول دون فحص بطاقة هويتهم، ويخضع سائقو شاحنات النقل لمسح بصمات الأصابع.
وقد تعرض أحد صحافيي وكالة رويترز للضرب ذات مرة؛ لأنه حاول التقاط صورًا للمصنع من خارج أسواره، فبمجرد أن تقترب من المصنع تقرأ تحذيرًا: «هذا المصنع قانوني ومرخص من الدولة، يحظر التعدي بالاقتراب أو التصوير، وستتم ملاحقة المعتدين قضائيًا»، وهو التحذير الذي قد لا تجده خارج أعتى المعسكرات الصينية العسكرية.
في تحقيق أجراه صحافي للجارديان البريطانية، استطاع فيه الدخول إلى مصنع فوكسكون عبر مواسير صرف الحمامات، قال: إن هناك 1.3 مليون شخص في كشوف المرتبات لفوكسكون، يسكن منهم قرابة 450 ألف عامل بالمصنع، والتقرير الأخير عن العاملين الذين تتولي شركة فوكسكون المسؤولية عنهم يقدرهم بـ 935 ألف موظف.
المزاعم التي تحيط ببيئة العمل السيئة تتضمن توظيف طلبة ومراهقين في سن السادسة والسابعة عشر، يعملون أيام العطلات الرسمية ويتعرضون للإذلال، وكثرة الغرامات، يقاتلون لبلوغ الموعد المحدد للإعلان عن الأجهزة الجديدة، مقابل مكافحة الموردين لخفض التكاليف وتقديم الجهاز بأقل ثمن طالما أن هناك عددًا مهولًا من الطلبات لشرائه.
المرتبات المنخفضة والعمالة الماهرة بأعداد ضخمة، جعلت من الصين دولة مثالية لتصنيع أجهزة أيفون، فقد قدر المكتب الوطني للإحصاءات العمالية بالولايات المتحدة عدد العمال في مصانع الصين بنحو 99 مليون عامل؛ ما ساعد بلادهم على أن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
شبكة حماية حول المصنع لمنع المنتحرين من الموت
في عام 2010 بدأ عمال خط التجميع بالمصنع في قتل أنفسهم، عاملًا بعد عامل صاروا يلقون بأنفسهم من أعلى مباني السكن الشاهقة، في وضح النهار، في يأس، واحتجاجًا على قسوة ظروف العمل، في أرقام متضاربة، ليعلن مسؤولو الشركة عن 20 حالة انتحار، فيما يؤكد العاملون أنهم 40 حالة.
في عام 2012 اجتمع 150 عاملًا على سطح مبنى داخل المصنع، وهددوا بالقفز، حتى وعدتهم الإدارة ببعض التحسينات، حينها علم العمال أن حصولهم على حقوقهم لن يأتي إلا بتعريض حياتهم للخطر كأداة للمساومة، ثم في عام 2016 قامت مجموعة أصغر بنفس الفعل، وفي شهر يونيو (حزيران) 2017 اجتمع ثمانية عمال على سطح المبنى ذاته، وهددوا بالقفز ما لم تدفع لهم الإدارة أجورهم المتأخرة، حتى اضطرت الإدارة للنقاش معهم وتهدئة الوضع، وأصبحت هذه الطريقة – التهديد بالانتحار – متعارفًا عليها كوسيلة وحيدة للضغط.
المرأة التي انتحرت وهي تصنع الآيباد
يوظف المصنع الشباب الفقير المهاجر من الريف الصيني، ويحشدهم إلى ساحات واسعة، وغرف سكن متكدسة، ثم يتركهم يكافحون في سبيل البقاء، ففي عام 2010 غادرت «تيان يو» المراهقة ذات الـ 17 عام قريتها في وسط الصين من أجل كسب المال لدعم أسرتها الفقيرة، ولم تكن تملك سوى 50 دولار أعطاها والدها إياها، وهاتف محمول بسيط لتبقى على اتصال به، وبعد رحلة تقرب إلى 700 ميل، عملت في فوكسكون، وقرأت أول جملة وهي تمضي عقد عملها: «حققوا أجمل أحلامكم، واسعوا نحو حياة رائعة».
كانت «يو»، تعمل لأكثر من 12 ساعة في اليوم، ستة أيام في الأسبوع، واضطرت في بعض الأوقات إلى تخطي وجبات الطعام للقيام بعمل إضافي، ثم ألقت نفسها من نافذة في الطابق الرابع؛ بعدما اكتشفت أنها لن تحصل على راتب الشهر بسبب خطأ إداري.
في حوالي الساعة الثامنة صباحًا، ألقت تيان نفسها من عنبرها بالمصنع جنوب الصين، وكانت الصغيرة تعمل في خط تجميع قطع أجهزة أيفون وأيباد، نفس العمل الذي يقوم به 400 ألف عامل في فوكسكون، لإنتاج الهواتف الذكية والحواسب الآلية التي تبيعها «SAMSUNG» «DELL»«SONY»، وتنتهي بيد البريطانيين والأمريكيين.
حاولت تيان يو قتل نفسها، ولم تكن الحالة الأولى في المصنع، فقد سبقها سبعة عشر من زملائها، لا يزيد عمرهم عن خمسة وعشرين عامًا، توفي منهم أربعة عشر شخصًا، والمحظوظون منهم أصيبوا بشلل.
المصنع هو الأكبر في الصين، والأكثر إنتاجًا؛ لاعتماد شركة أبل في الأساس عليه لتجميع أجهزتها، وينتج عماله أرقامًا خيالية تصل إلى 137 ألف جهاز أيفون يوميًا، ما يعادل 90 جهازًا في الدقيقة الواحدة.
عندما انتشرت أخبار المنتحرين في المصنع، وسارع المراسلون لكشف ما يحدث داخل أسواره الحصينة، كشف العمال عن مدى سوء الظروف التي يعيشونها، والعمل لساعات إضافية دون أجر، وتقييد استخدام المرحاض، واستغلال كل دقيقة في يوم العامل حتى أنهم لا يعرفون أسماء زملائهم في غرفة النوم، ولكن أنكر فوكسكون وجود أزمة، قائلين إنهم يتناسبون مع معدلات الانتحار العالية بالصين، لكن هذا المبرر تجاهل معلومة أن أكثر المنتحرين يكونون غالبًا من نساء القرى أو المسنين، وليس شبابًا انتقلوا لتوهم إلى المدينة بحثًا عن المال.
رأيته ينتحر بعيني
التقى صحافي الجارديان خلال تحقيقه بعاملين داخل المصنع، أكد أحدهما ويدعى «شو» بأن المصنع وعد عماله بأن يكون السكن داخله مجانًا، لكن بعد ذلك أجبرتهم الإدارة على دفع فواتير الكهرباء الباهظة، والمياه أيضًا، وتخلت عن التأمين الاجتماعي لهم، وعدم صرف علاوات ومقابل الساعات الإضافية، وقبل ذلك كان العمال قد وقعوا عقودًا تفرض عليهم دفع مبلغًا كبيرًا إذا استقالوا قبل قضاء 3 شهور داخل المصنع.
ويقول «شو» لكل من سيعمل بالمصنع: سيوبخك مديرك أمام زملائك، وبدلًا عن إبداء النصيحة وجهًا لوجه، يجمع المدير تعليقاته ليسخر منك في أول اجتماع أمام الجميع، وهو يضحك منك، وجعل الشخص مثالًا للجميع كي لا يفعلوا مثله.
هذه الثقافة من التوتر الشديد، والقلق، والإذلال، تسهم في الإصابة بالاكتئاب دون شك، ويقول شو إنه رأى شخصًا وهو ينتحر، كان المنتحر طالبًا، لا يزال مراهقًا، يعمل على خط التجميع، «كنت أعرفه، رأيته كثيرً في الكافيتيريا»، علق عليه مديره بالسلب أمامنا؛ ما أدخلهما في شجار واسع، جاءت الشرطة على أثره، بعدما طلبها المسؤولون بالمصنع، على الرغم من أن العامل لم يظهر عنفًا، كان فقط غاضبًا، لم يتحمل المراهق ما حدث، واعتبره موقفًا شخصيًا، وبعد ثلاثة أيام، قفز من نافذة بالطابق التاسع.
سأل المحقق الصحافي عن الحادث، ولماذا لم يكن هناك أية تغطية إعلامية، وجاء رد «شو» مفاجئًا، بأنه «هنا يموت شخص يومًا بعد يوم، حتى أصبح الموت مألوفًا للإدارة ولنا».
هذا حقيقي، فعندما تم سؤال ستيف جوبز عن ظاهرة الانتحار بمصنعه، في بداية الأمر قال: «إن فوكسكون مصنع، وبه مطعم، وسينما، فهو يشبه المجتمع بكل ظروفه، بما فيها انتحار البعض»، ورأى أن نسبة المنتحرين مقبولة؛ نظرًا لضخامة عدد العاملين بالمصنع.
الآلاف يجلسون على حافة الكراسي كي يظلوا يقظين!
قضى صحافي سري لدى صحيفة «شانغهاي إيفيننينج بوست» عشرة أيام بالمصنع؛ ليكتب مذكرات تفصيلية للحياة بداخله، سبعة أيام في التدريب، وثلاثة على طاولة التجميع. وقال الصحافي: إن فرحة المديرين لرؤية نسخة جديدة من أيفون لا توصف، لكنهم لا يعيرون انتباهًا لمن ينتج 3000 هاتف خلال 10 ساعات مقابل 4 دولار في اليوم.
ينتج العامل أيفون كل 3 ثوان دون مجال للخطأ، يجلس على حافة الكرسي، دون أن يسند ظهره ليظل يقظًا، وبعد ساعات من العمل يكون مصابًا بآلام شديدة في الرقبة والذراعين، دون المساحة للجلوس بدون عمل، فعندما لاحظ المشرف عاملًا متعبًا جلس ليلتقط نفسه ولم يكمل دقيقة، عاقبه بالوقوف في زاوية لمدة 10 دقائق وكأنه طالب مشاغب في المدرسة.
ولمن يريد زيادة راتبه قال الصحافي: إنه يعمل دون توقف من منتصف الليل حتى السادسة صباحًا، مضطرًا للحفاظ على سرعته؛ لأن خط الإنتاج لا يتوقف، لكن هذا لم يلب هدف فوكسكون لإنتاج 57 مليون أيفون 5 في عام واحد ليقوموا بتعيين 20 ألف عامل جديد.
أعداد العاملين بالمصنع تزداد بشراهة؛ ما نتج عنه روائح نتنة في غرف النوم، وعرق، وصراصير في الخزائن وتحت أغطية السرير القذرة.
يمنع المصنع العاملين من الدخول بأية معادن، حيث يمرون من بوابات الكشف عن المعادن، ويحكي العمال عن زميل لهم تم فصله بسبب كابل شحن «يو إس بي» (USB)، ويروي الصحافي أنه بمجرد مروره من بوابة كشف المعادن، سمع أصواتًا عالية من محركات الآلات، ورائحة بلاستك يحترق، ودخان كثيف جدًا، ليحذره المشرف بأنه بمجرد الجلوس على الكرسي لا تفعل سوى ما يقال لك، ولكم الشرف للمشاركة في إنتاج مثل هذه الأجهزة.
في عامين انتحر ما لا يقل عن 18 عامل بالمصنع، وردًا على ذلك تم سد جميع منافذ غرف النوم بالأسمنت؛ مما يعطي انطباعًا بأنك داخل سجن، الفرق هنا أنك لن تدخل صالة الألعاب الرياضية، أو المكتبة، أو المستشفى لأنها معدمة ولا تتوفر بها أقل الخدمات الموجودة في السجون.
كم يحتاج العامل في فوكسكون ليشتري ساعة يد يصنعها بيده؟
قدمت صحيفة «تشاينا ديلي» مقارنة بين شخصيات عدة لحساب ما قد يكلفهم شراء نفس ساعة يد ماركة أبل من عمرهم، وكانت النتيجة 48 ساعة للمدير التنفيذي لشركة أبل تيم كوك، و21 يومًا لكل من أنجيلا ميركل وفرانسوا هولاند وديفيد كاميرون ورئيس الصين نفسه الذي يقع مصنع تلك الساعة على أرض دولته.
910 يومًا من العمل المتواصل، أي 24 ساعة لكل يوم في أيام الأسبوع السبعة، بدون عطلات رسمية، وبدون أن ينفق قرشًا واحدًا على الأكل أو الشرب أو إيجار السكن، كان هذا ما يحتاجه عامل فوكسكون لكي يستطيع شراء ساعة يد أبل الذكية التي أنتجها بيده عام 2015، وكان هذا التخيل قائمًا على مقابلة أجرتها الصحيفة مع أحد العاملين بالمصنع.
في أكبر مصنع بالصين، يحصل العاملون بفوكسكون على مرتب أعلى من موظفين صينيين يجلسون على المكاتب، لذا يذهب الكثير إلى فوكسكون لفترة قصيرة بالصيف، وخاصة الطلبة قبل عودتهم إلى المدرسة أو الجامعة مع بداية الخريف، وهؤلاء لن يشعروا أبدًا بأن أبل تدمر حياتهم، بل عدم وجودها هو ما قد يفعل، والذي لا يعني توقف الشركة، ولكن توقفها عن احتياج عمال بسبب خطة فوكسكون لاستخدام الروبوتاتلتخطي أخطاء البشر، وتلبية المواعيد النهائية، وتحقيق أعلى جودة، في الوقت الذي يرى فيه المدير التنفيذي لشركة أبل أن ما يحصل عليه من عمال الصين لن يجده في الولايات المتحدة الأمريكية.
عادة ما يحقق العمال بفوكسكون أكثر من 60 ساعة عمل في الأسبوع، متخطين الحد الأقصى القانوني للعمل، وبعضهم من يعمل سبعة أيام في الأسبوع دون توقف خلال فترة الصيف مع زيادة طلبيات الأجهزة الجديدة التي ستطلق في الخريف، ووجد تحقيقًا أجرته منظمة العمل العادل أنه أحيانًا يتم تجاهل الفواصل المفروضة لمدة ربع ساعة كل ساعتين من العمل.