TODAY - 01 August, 2010
ردود الفعل الأولى على غزو صدام للكويت حسب رواية محمد حسنين هيكل
الشيخ جابر: إذا باتوا ليلتهم في الكويت فلن يخرجوا منها. فهد: أبواب جهنم انفتحت
الرئيس الأميركي جورج بوش مع بعض أفراد طاقمه في البيت الأبيض خلال مناقشات العمل تجاه الاجتياح العراقي (ارشيف)
الثاني من آب (أغسطس) 1990 حدث فريد من نوعه في تاريخ العرب الحديث. وإذا كانت آثاره العربية والإقليمية باقية، على تفاوت في الدرجة، فإن العراق مازال يعيش نتائجه الكارثية بعد 20 عاماً على وقوعه. وهي آثار قد لا تعرف لها نهاية في الأفق المنظور.
ولذلك فإنه، عراقياً على الأقل، يمكن اعتباره حدثاً آنياً حياً. وفي استذكاره ارتأت "العالم" نشر شيء من رواية محمد حسنين هيكل له، عن كتابه الموسوم (حرب الخليج – أوهام القوة والنصر). ولعله يمثل أهم ما انتجته المكتبة العربية من مؤلفات في توثيق الغزو العراقي للكويت.
فجر يوم 2 آب (أغسطس) كانت القوات العراقية قد حققت كل مهامها العسكرية بنجاح، ولكن الأساس السياسي الذي قامت عليه الخطة لم ينجح، ذلك أن خروج أمير الكويت والنافذين من أفراد أسرته سالمين من الكويت فتح ثغرة كبيرة في الأساس السياسي للخطة العراقية.
كان المفروض أن يتم أسر الأمير وأفراد عائلته الأقربين – على الأقل – حتى لا يظل هناك من يملك حقاً، أو ظل حق شرعي في طلب النجدة من القبائل، أو الدول الأخرى.
وكان مؤدى ذلك أن الغزو العراقي للكويت وإن نجح في احتلال البلد، لم ينجح في السيطرة على رموز الشرعية فيه. وحتى إذا كانت هذه الرموز قد خرجت من البلاد، فإنها لم تترك شرعيتها وراءها، وإنما أخذتها معها، وبها كانت تستطيع أن تتصرف على النحو الذي ترتئيه سواء مع القبائل القريبة، أو مع الدول المهتمة.
وبلغت الأزمة ذروتها، وتفتحت أبوابها على احتمالات لم تكن في حساب أحد.
إيقاظ الملك فهد
ودق جرس التليفون بجوار سرير الملك "فهد" في الساعة الخامسة من فجر يوم الخميس 2 آب (أغسطس) 1990. لم يكن هذا التليفون يدق في العادة. ومعنى سماع صوته كان كفيلاً بأن يوحي على الفور بحدوث أمر جلل. ثم عرف الملك "فهد" أن القوات العراقية قد دخلت الكويت. وكانت المفاجأة بالنسبة له غير قابلة للتصديق، فهو قبل ساعات قليلة ودع كلاً من الشيخ "سعد العبد الله الصباح" والسيد "عزة إبراهيم"، على تصور بأن الأمور على ما يرام، وبأن الاثنين على موعد للقاء في بغداد بعد أيام.
وبالتأكيد أن الملك كان يعرف أكثر مما أبلغه به رئيس الوفدين الكويتي والعراقي. وعلى الأرجح فإن المخابرات السعودية، وهي جهاز قوي في المملكة، كانت قد استمعت بوسائلها الخاصة إلى ما دار بين الرجلين، ومعنى ذلك أن الملك كان يعرف اكثر مما أبدى على السطح أنه يعرفه – ومع ذلك فمن المحقق أن مفاجأته بالغزو كانت كاملة.
واستدعى الملك أحد مساعديه، وطلب إليه أن يصله تليفونياً بالسفير "عبد العزيز السديري" سفير المملكة العربية السعودية في الكويت.
وبينما الملك ينتظر أن تصله المكالمة التي طلبها مع سفيره في الكويت، راح يبدي استغرابه مما سمعه ويسأل:
- "هل احتلوا البلد، أم احتلوا الجزر؟"
وجاءته المكالمة، ولم يكن السفير "السديري" على بينة من اية تفاصيل سوى أنه "عرف الآن أن القوات العراقية قريبة من مدينة الكويت". ووضع الملك سماعة التليفون ودهشته لم تفارقه، ولعلها زادت إلحاحاً عليه. وكان تعليقه "إنه زلزال، وإنه لا يقدر على تجميع افكاره". ثم عاد ورفع سماعة التليفون وطلب أن يصلوه بالرئيس "صدام حسين" في بغداد. وبعد قليل دق جرس التليفون، وكان سكرتير الملك المكلف بالاتصالات، يقول له إن مكتب الرئيس "صدام حسين" معه على الخط لكن الرئيس العراقي نفسه ليس موجوداً. وطلب الملك أن يحول الخط إليه. وقد اكتشف أن الطرف الآخر الموجود على خط بغداد هو السيد "أحمد حسين خضر"، وهو أحد المستشارين المقربين من الرئيس "صدام حسين" (وقد اصبح وزيراً للخارجية فيما بعد). وسأله الملك "أين الأخ صدام؟" – وجاءه الرد: "طال عمرك.... إنه الآن بعيد، وسوف نبلغه بمكالمة جلالتكم، ونطلب إليه الاتصال بكم على الفور".
ولم يكن الملك "فهد" قادراً على الانتظار، فطلب توصيله بالملك "حسين" وأيقظه بالفعل من نومه في الساعة الخامسة والربع – وبادره بسؤاله:
- "هل سمعت؟"
ورد عليه الملك "حسين" متسائلاً:
- "سمعت بماذا؟"
وروى له الملك "فهد" تفاصيل ما سمع من دخول القوات العراقية إلى الكويت، وكيف أنه حاول الاتصال بـ"الأخ صدام" ولم يوفق.
وكان الملك "حسين" مأخوذاً بما سمع، وقد شرد للحظة في تصوراته، وأحس الملك "فهد" أن الملك "حسين" شرد عنه، فعاد يسائله في خطورة ما حدث، وقال الملك "حسين":
- "اعطني فرصة حتى استوعب".
ورد عليه الملك "فهد" مقترحاً أن يحاول هو – أي الملك "حسين" – أن يتصل بـ"الأخ صدام" ليعرف منه "ماهي الحكاية؟"
وكان الملك "حسين" قد استجمع أفكاره، وقال للملك "فهد":
- "الغالب كما أظن أنها عملية محدودة، وقد نستطيع تداركها وعلاجها فوراً. سوف اتصل بـ"الأخ صدام" وأعود إليك في ظرف دقائق".
وراح الملك "حسين" يحاول بدوره أن يتصل ببغداد. ثم أبلغ أن الملك "فهد" على الخط مرة ثانية، وجاءه صوت الملك "فهد يقول بانفعال:
- "لأ.. إنها ليست عملية محدودة. إنني سمعت الآن أنهم داخل قصر "جابر"".
وتمكن الملك "حسين" من إجراء اتصال ببغداد، لكنه لم يوفق في الوصول إلى الرئيس "صدام حسين". فقد تلقى المكالمة السيد "طارق عزيز" الذي جاء صوته على التليفون يقول للملك "حسين":
- "جلالة الملك إنني آسف، لكنني رأيت أن أتلقى مكالمتكم إلى "السيد الرئيس" لأنه مازال بعيداً عن التليفون".
وسأله الملك "حسين" بقلق عن هذا الذي جرى، وكان رد السيد "طارق عزيز" أنه "لم يكن هناك مع الأسف سبيل آخر"، وعلى اية حال فإن "السيد الرئيس" سوف يشرح له بنفسه كل شيء عندما يتصل به في ظرف دقائق قليلة."
مبارك: ايه؟
كان توقيت القاهرة متأخراً ساعة عن توقيت الكويت. وفي الساعة الرابعة صباحاً استيقظ الدكتور "مصطفى الفقي" سكرتير الرئيس للمعلومات على تليفون من السفير "سعيد رفعت" السفير المصري في الكويت. وكان السفير يبلغه بأن القوات العراقية قد احتلت حقل "الرميلة" وأنها تزحف الآن إلى مدينة الكويت.
ولم يشأ الدكتور "مصطفى الفقي" أن يوقظ الرئيس "مبارك" الذي كان ليلتها في استراحة برج العرب – قبل أن يتأكد من دقة ما لديه من معلومات. وقد أراد – فيما يبدو – أن يستوثق من حجم العملية، وما إذا كانت هي العملية المحدودة التي كان البعض يتوقعونها، أو أنها شيء أكبر.
وقرابة الساعة الرابعة والنصف دق التليفون مرة ثانية بجوار الدكتور "مصطفى الفقي" وكان المتحدث هو السفير "عبد الرزاق الكندري" سفير الكويت في القاهرة، ولقد قال للدكتور "مصطفى الفقي": "أرجوك إيقاظ الرئيس فوراً.. فالعراقيون الآن في قلب مدينة الكويت". ثم راح السفير "الكندري" يضيف بعض التفاصيل.
وقام الدكتور "الفقي" بالفعل بإيقاظ الرئيس "مبارك" الذي راح يصغي إلى ما ينقله إليه الدكتور "مصطفى الفقي"، ثم سأله في دهشة:
- أيه؟.. هي عي عمليات على الحدود؟"
ورد الدكتور "مصطفى الفقي" بأنها "عمليات في العمق والمعلومات تشير إلى أن القوات العراقية احتلت قصر الأمير، وقصر ولي العهد، ووزارتي الدفاع والداخلية، وعدداً آخر من الوزارات".
ولم يكن الرئيس "مبارك" أقل دهشة واستغراباً، لا من الملك "فهد"، ولا من الملك "حسين" قبله.
لم تكن المفاجأة صاعقة
في واشنطن كانت الصورة مختلفة بالكامل:
* لم تكن المفاجأة صاعقة، كما حدث في العواصم العربية، ان واشنطن كانت تنتظر الضربة.
*ولم تكن هناك حاجة إلى إيقاظ رئيس أو مسؤول من نومه، لأنه حين بدأت مقدمات التحرك العسكري العراقي إلى الكويت عند منتصف ليلة 1-2 آب (أغسطس) – كانت الساعة لا تزال الرابعة بعد الظهر بتوقيت واشنطن.
والواقع أنه ابتداء من يوم 27 تموز (يوليو)، وبينما العالم العربي مشغول بمحاولاته لاحتواء الأزمة، قررت وزارة الدفاع الأميركية أن يكون الاستطلاع على منطقة الحشد العراقي كل ساعتين.
وفي صباح ذلك اليوم كانت تقارير الاستكشاف تقول إن الحشد العراقي يتزايد، ولكن هناك مجموعة من العناصر الضوررية لم تكتمل بعد رغم أن القوات في وضع هجومي من ناحية ترتيب خطوطها:
*الاتصالات مع شبكة الجيش العراقي مازالت محدودة.
* لا يبدو أنه حدث "التشوين" الكافي لذخيرة المدفعية.
*هناك ذخائر كثيرة مازالت ناقصة.
*الترتيبات الإدارية وطوابيرها المعهودة في حالة العمليات لم تظهر بعد.
وبعد ظهر نفس اليوم، اتصل الجنرال "كولين باول" رئيس هيئة أركان حرب الجيش الأميركي بالأمير "بندر بن سلطان" سفير السعودية في واشنطن، وطلب إليه أن يمر عليه لحديث غير رسمي.
كان الأمير "بندر" سفيراً غير عادي في واشنطن، وبحكم أنه سفير السعودية باهميتها الكبرى بالنسبة للولايات المتحدة، وبحكم أنه من أبناء الأمير "سلطان" وزير الدفاع، وبحكم أنه متزوج من الأميرة "هيفاء" إحدى بنات الملك "فيصل"، وبحكم أنه يتمتع بصلاحيات سياسية ومالية غير محدودة – فإن صلاته بالبيت الأبيض، ووزارتي الخارجية والدفاع، والبنتاجون، ووكالة المخابرات المركزية – كانت وثيقة إلى درجة غير عادية.
وحينما وصل الأمير "بندر" إلى مكتب الجنرال "كولين باول" بعد ظهر يوم 27 تموز (يوليو) – كانت لدى رئيس هيئة أركان حرب الجيش الأميركي أسئلة كثيرة يريد أن يستوضح إجاباتها من السفير السعودي الواسع الإطلاع والنفوذ.
وقد بادر "باول بسؤال "بندر"": "ما الذي يفعله صديقك صدام؟" (وكانت تلك إشارة إلى الرسالة السابقة التي حملها "بندر" من "صدام حسين" عندما كان الرئيس العراقي – بناء على نصيحة الملك "فهد" – يحاول أن يطمئن الولايات المتحدة).
ورد الأمير "بندر" بقوله: "إنه لا يعرف بالضبط، ولكنه يتصورها عملية استعراض عضلات لتخويف الكويتيين".
ثم استطرد الأمير "بندر" يقول: "إن هذه ليست المشكلة، ولكن المشكلة أن عمليات استعراض العضلات لن تتوقف، فإذا مرت هذه الأزمة بسلام، فالراجح أنها ستتكرر مرة أخرى، ومعنى ذلك أن النظام في العراق سوف يظل باستمرار ولسنوات طويلة مصدراً لقلق دائم".
وحسن سأل "كولين باول" عن الكويتيين ومدى صلابتهم، كان رد الأمير "بندر":
- "إن عائلة الصباح عائلة تجار، وليست لهم هوية سياسية محددة. والكويت كلها أقرب إلى أن تكون شركة منها إلى أن تكون دولة."
والظاهر أن الأمير "بندر" لم يكن يتوقع أكثر من استعراض العضلات هذه المرة، والدليل أنه خرج بعد مقابلته لـ "كولن باول" فركب طائرته وسافر إلى أوروبا.
ليس مجرد استعراض عضلات
ويوم 30 تموز (يوليو) طرأ جديد على أوضاع القوات العراقية، وكتب "والتر لانج" المسؤول في المخابرات العسكرية عن الشرق الأوسط تقريراً مختصراً يقول فيه "ان تقارير الاستطلاع تظهر أن الحشد العراقي ليس مجرد استعراض عضلات يقصد إلى تخويف الكويت".
وعندما وصل تقرير "لانج" إلى الجنرال "كولين باول" كان تعليقه: "إن الذي يحيره هو أن احتلال الكويت لا يحتاج إلى حجم الحشود العراقية، ويستطيع صدام حسين ان يحتل الكويت كلها بقوة بوليس". وخطرت لرئيس هيئة أركان الحرب فكرة رأى إبلاغها إلى وزير الدفاع "ريتشارد تشيني". وكانت فكرته أنه قد يكون من الأوفق ان تصدر الولايات المتحدة تحذيراً إلى العراق من مخاطر قيامه بأي عمل عسكري.
وكان الجنرال "كولين باول" قد اطلع على تقرير السفيرة "أبريل جلاسبي"، وفيه كانت السفيرة تطمئن الرئيس العراقي إلى أن الولايات المتحدة لن تتدخل في أي نزاعات عربية – عربية. ولعل الجنرال "كولين باول" أحس أن السفيرة أخطأت في الانطباع الذي تركه حديثها على تفكير "صدام حسين" – وكان تقديره الآن أن الموقف تغير، والنوايا العراقية اصبحت أشد وضوحاً، واحتمال استخدام القوة المسلحة أصبح وارداً يوم 30 تموز (يوليو)، ولم يكن كذلك يوم 25 تموز (يوليو) حين جرى اللقاء بين السفيرة الأميركية والرئيس العراقي – وإذن فإن تحذيراً أميركياً واضحاً قد يكون في هذه اللحظة مفيداً، وربما ضرورياً لتصحيح أي انطباع تركه حديث السفيرة "ابريل جلاسبي" على الرئيس "صدام حسين". واستمع "ريتشارد تشيني" وزير الدفاع إلى فكرة الجنرال "باول"، وقال إنه سوف يرد عليه بعد الاتصال بالرئيس "بوش". ثم عاد ورد عليه بأن "الرئيس لا يحبذ فكرة إصدار تحذير علني لصدام حسين". واستغرب الجنرال "باول" رفض اقتراحه لأنه لم يكن يكلف شيئاً. ولعله كان يمكن ان يوفر أشياء من حيث أنه يفرض على الرئيس العراقي إعادة حساباته.
وفكر الجنرال "باول" أن يتصل بعد ذلك بالجنرال "شوارتزكوبف" في مقر القيادة المركزية، ويسأله عن حالة استعداد القوات طبقاً للخطة رقم "1002 – 90"، وهي الخطة الموضوعة للطوارئ العسكرية في الخليج من وقت طويل، وكانت قد روجعت أكثر من مرة، وجرى تعديلها وفق تطورات الحرب العراقية الإيرانية واحتمال أن تحاول إيران (أو العراق) دخول مناطق البترول في ظرف تراه مناسباً.
ورد "شوارتزكوبف" بان القوت المخصصة للخطة مبعثرة، وهي في معظمها خارج المنطقة، ولا يوجد منها قريباً من الخليج إلا عشرة آلاف جندي معظمهم من البحرية.
أول إشارة: العراقيون اخترقوا
وكانت أول إشارة ببدء الغزو العراقي للكويت وصلت إلى واشنطن – رسالة من كلمتين بعث بها الأميرال "بيل أوينز" قائد الأسطول الأميركي السادس في البحر الأبيض، وكان "أوينز" قد تولى منصبه حديثاً بعد فترة قضاها مساعداً خاصاً لوزير الدفاع "تشيني". كانت الرسالة موجهة إلى "تشيني"، وقد وصلت في المساء المبكر بتوقيت واشنطن، ونصها: "العراقيون اخترقوا" (والقصد مفهوم، وهو أنهم اخترقوا حدود الكويت). ووصلت الإشارة إلى الجنرال "كولين باول" رئيس هيئة أركان الحرب، فدعا نائبه الجنرال "دافيد جيرميا" ومساعده الجنرال "توم كيللي" إلى الاجتماع به لتقدير الموقف. فقد توقع "كولين باول" أنه بعد قليل سوف يستدعى إلى البيت الأبيض، وعليه أن يكون مستعداً لأية مناقشات تجرى في مجلس القرار الأعلى مع الرئيس.
جورج بوش
وكان الرئيس جورج بوش" قد ابلغ بما وقع، وكان الذي أبلغه هو مستشاره للأمن القومي الجنرال "برنت سكوكروفت".
ولم يكن "جيمس بيكر" وزير الخارجية موجوداً في واشنطن، وإنما كان في سيبيريا مع نظيره السوفيتي. وهكذا فإن البيت الأبيض تولى إدارة الأزمة في ساعاتها الأولى. وكانت تلك مشكلة لأن مصادر ووسائل وزارة الخارجية في إدارة أي ازمة – لها أدوات ووسائل وقنوات واضحة، وأما في البيت الأبيض فإن كل شيء متشابك ومتداخل، كما أن القنوات نصف مضيئة، أو نصف مظلمة!
ودخل "جورج بوش" إلى مكتبه في البيت الأبيض حوالي الساعة التاسعة مساء، ووراءه مجموعة من المساعدين اختارهم لتمثيل الإدارة الأميركية عند مستواها الأعلى:
الجنرال "برنت سكوكروفت" مستشار الأمن القومي، و"جون سنونو" رئيس هيئة مستشاري البيت الأبيض.
"ريتشارد تشيني" وزير الدفاع، ومعه الجنرال "كولين باول" رئيس هيئة أركان الحرب، والجنرال "دافيد جيرميا" نائبه، و"بول وولفوويتز" مدير التقديرات الاستراتيجية في وزارة الدفاع.
و"روبرت كيميت" مساعد وزير الخارجية نظراً لغيبة الوزير، ثم "ويليام وبستر" مدير وكالة المخابرات المركزية، ونائبه للعمليات "ريتشارد كير" – ثم المستشار القانوني "بويدن جراي".
وفي الساعة الحادية وعشر دقائق صدرت من مكتب الرئيس "بوش" مجموعة من القرارات:
1- بيان باسم الرئيس يدين الغزو، ويطالب بسرعة الانسحاب بلا قيد أو شرط، ولا يقبل بديلاً عن ذلك بشيء.
2- قرار بإرسال قوة من الطيران إلى السعودية فوراً – 24 طائرة من طراز "ف-15".
3- قرار بتجميد كل الأموال الكويتية والعراقية في كافة البنوك.
4- قرار بتشكيل لجنة طوارئ دائمة لمتابعة الأزمة تضم كلا من "كيميت" و"جيرميا" و"وولفوويتز" و"كير".
5- إنشاء لجنة دائمة للطوارئ تعمل تحت رئاسة مستشار الأمن القومي "برنت سكوكروفت". وقال "بوش" موجهاً كلامه إلى وزير الدفاع "تشيني": "إنه سوف يذهب الآن ليفكر ويتأمل، ثم ينام، وفي الصباح الباكر يعود الكل إلى مكتبه للتشاور من جديد فيما قد يكون طرأ على الأزمة أثناء الليل، وكذلك في خيارات المستقبل". ثم أردف قائلاً: "إنه يريد أن يجيء الجنرال "شوارتزكوبف" إلى واشنطن، وأن ينضم في الصباح إلى الاجتماع المقرر في مكتب الرئيس، وعليه أن يجيء معه بكل أوراق خطط العملية "1002-90"."
الموقف برؤية مصر
وفي الوقت الذي كان فيه وزراء الخارجية العرب في القاهرة – كان الرئيس "حسني مبارك" في استراحة "برج العرب" يقرأ تقدير موقف أعده مكتبه بالاشتراك مع وزارة الخارجية، والمخابرات العامة. وكانت أهم النقاط في هذا التقدير:
*ان الغزو العراقي للكويت كان ينبغي توقعه بحكم الأوضاع الإقليمية والدولية، ورغبة العراق في أن يؤكد نفسه كقوة إقليمية بعد انتصاره في حربه مع إيران.
*إن هذه النية لابد أن تكون قديمة لدى العراق، وقد تكون أحد دوافعه إلى الاشتراك في مجلس التعاون العربي الذي يضم العراق والأردن واليمن مع مصر. فهذا المجلس كان هدفه عزل سوريا وتحييد مصر.
*ان الغزو ضربة للمصالح المصرية على أكثر من مستوى، ذلك أنه يفرض على مصر أن تحتار بين مجلس التعاون العربي، وبين دول الخليج الغنية والقادرة على مساعدة مصر. ثم إن هذا الغزو يظهر مصر بمظهر الدولة التي تلاعب بها الآخرون.
*ان التدخل الأجنبي محتمل، بل إنه أرجح الاحتمالات بسبب مصالح أميركا البترولية والاستراتيجية، وهي مصالح لا تسمح للولايات المتحدة بأن تترك العراق يسيطر على الكويت، وغداً على الخليج وفيه ثلثا احتياطي العالم من البترول.
*ان العراق سوف يحاول بكل الوسائل أن يحتوي رد الفعل المصري، وقد يحاول استعمال صلاتها لتهدئة الولايات المتحدة، وايضاً لتهدئة إسرائيل.
*ان القاهرة مطالبة بحصر نطاق الأزمة قدر ما تستطيع حتى بإعطاء الانسحاب العراقي الحتمي غطاء دبلوماسياً يسمح له بالخروج من الكويت دون إبطاء، ودون إحراج. إذا كان ذلك ممكناً. ويتحتم على مصر أن تجند العالم العربي كله لممارسة أقصى درجة من الضغط السياسي على بغداد، ويمكن عمل ذلك عن طريق اجتماع وزراء الخارجية العرب.
ثم خلص التقدير إلى مجموعة توصيات عملية:
1- من الأفضل الاتصال بالولايات المتحدة حتى لا تتصاعد بمظاهراتها العسكرية التي بدأت مقدماتها، ولابد لتدخلها في الأزمة أن يجيء خطوة بعد خطوة، وإلا أعطت للعراق فرصة لتعبئة الرأي العام العربي.
2- لابد من رسالة واضحة لإسرائيل بألا تتدخل في الأزمة لأن تدخلها يعقد الأمور ولا يساعد على حلها.
3- من المستحسن التأكد مبكراً من أن إيران ليست داخلة في العملية سواء من زاوية الضغط لرفع الأسعار، أو تقسيم مناطق النفوذ في الخليج بين البلدين.
واشنطن بدأت العمل
في ذلك الوقت كان العمل قد بدأ في واشنطن، وبالنسبة لها (من ناحية التوقيت) فقد كان يوم 2 آب (أغسطس) هو اليوم الثاني للأزمة، في حين أنه كان اليوم الأول بتوقيت شرق البحر الأبيض والخليج.
واستيقظ الرئيس "بوش" مبكراً وبدأ بإجراء اتصالات تليفونية تمت كلها قبل الساعة السابعة صباحاً بتوقيت واشنطن (الثانية بعد الظهر بتوقيت القاهرة).
وفي الساعة السابعة والنصف كان الرئيس الأميركي "جورج بوش" في طريقه إلى مكتبه البيضاوي، وكان مستشاره لشؤون الأمن القومي "برنت سكوكروفت" قد أعد له تقريراً بملخص ما تجمع لدى مكتبه من معلومات وردت إليه من كل أجهزة الإدارة الأميركية، سواء في ذلك الأجهزة العلنية أو السرية.
ثم انتقل "بوش" ومعه "سكوكروفت" إلى غرفة العمليات الخاصة، وهي غرفة مزودة بكل وسائل الأمان ضد الاختراق أو التنصت، وكان في انتظاره هناك وزير الدفاع "ريتشارد تشيني"، ووزير الطاقة "جيمس واتكنز"، ومساعد وزير الخارجية "روبرت كيميت"، ورئيس الأركان الجنرال "كولين باول"، وقائد القوات المركزية الجنرال "نورمان شوارتزكوبف"، ووزير الخزانة "ريتشارد دارمان"، ومدير وكالة المخابرات المركزية "ويليام وبستر".
كان أول ما فعله "بوش" بعد أن اتخذ مقعده هو تحديد موقفه، وقد بلوره في ثلاث نقاط:
1- لا يمكن قبول ما حدث، وليس هناك فيه شيء قابل للتفاوض أو لحل وسط.
2- لابد من تعبئة الرأي العام الأميركي والعالمي في صف الولايات المتحدة.
3- ان الولايات المتحدة هي المسؤولة عن "العمل"، وبالتالي فإن ما هو مطروح للبحث الآن هو خطط العمل.
وتلاه "جيمس واتكنز" وزير الطاقة الذي لخص كلامه في قوله: "إن ما حدث سوف يسبب فوضى في أسواق البترول – إنتاجه وإمداده واسعاره. فضلاً عن أنه لا يمكن للولايات المتحدة ان تسمح بزواج بين مليون جندي عراقي، وثلث إنتاج البترول في الشرق الأوسط.
ثم أثار وزير الخزانة "ريتشارد دارمان" ضرورة فرض حصار اقتصادي شامل يخنق العراق.
وتطلع الرئيس "بوش" ناحية العسكريين.
ونظر "كولين باول" إلى "شوارتزكوبف" الذي اعتبر أن دوره قد جاء، وبدأ بعرض الاحتمالات المتاحة، ولخصها في احتمالين:
*ضربة جوية قوية موجعة – وكان تقديره أنه مهما بلغت قوة الضربة فإنها غير مؤثرة.
* أو التدخل العسكري الشامل على أوسع نطاق طبقاً للخطة "1002-90". ثم وصل إلى النقطة المحورية في عرضه، وهي: "ان هذه الخطة هي الخيار الحقيقي المؤثر، ولكن شرطها الرئيس هو وجود قاعدة لحشد القوات – وهذه القاعدة لا يمكن أن تكون إلا السعودية".
وتدخل "ريتشارد دارمان" وزير الخزانة، فعلق قائلاً:
"بدون وجود قاعدة عربية نعمل منها – إذن فإننا نواجه "فيتنام" أخرى."
وتفرعت المناقشات، وكان واضحاً أن الرئيس "بوش" قد استقر رأيه على الاحتمال الثاني الذي عرضه الجنرال "شوارتزكوبف"، وهو التدخل العسكري الشامل طبقاً للخطة "1002-90". ثم خلصت المناقشات إلى ثلاث نقاط محددة رآها الجميع ضرورية:
دم أميركي ومال خليجي
*الأولى: انه لابد من الاتصال بالملك "فهد" لتأمين وجود القاعدة الوحيدة الممكنة لتنفيذ الخطة.
*والثانية: هي أنه يستحسن المسارعة على الفور إلى إغلاق خطوط أنابيب البترول العراقي عبر تركيا وعبر السعودية.
*والثالثة: هي أنه لابد من ترتيبات خاصة يتحمل بمقتضاها العرب المنتجون للبترول تكاليف الخطة العسكرية، فميزانية الولايات المتحدة لا تحتمل عجزاً فوق ما تعانيه من عجز. ثم إن المستفيد من أي عمل لابد له أن يتحمل تكاليفه – وإذا كانت الولايات المتحدة على استعداد لأن تعطي الدم، فلا أقل من ان يقدم اصحاب البترول من مالهم ما يغطي نفقات الحملة.
وكانت المناقشات في اجتماع وزراء الخارجية العرب في فندق "سميراميس" بالقاهرة مازالت تدور حول نفسها، ذلك ان الاجتماع عاد إلى الانعقاد في موعده المقرر، ثم وصل إليه الوفد العراقي القادم من بغداد برئاسة الدكتور "سعدون حمادي"، ولكن هذا الوفد لم يكن يحمل شيئاً جديداً، فقد وقف الدكتور "سعدون حمادي" يتحدث عن حقوق العراق في الكويت، وعن مسار الأزمة في العلاقات بين البلدين حول أسعار البترول وخطوط الحدود والديون المستحقة على العراق.
فهد للدوري: هل هذا كل ما تقوله لي؟
وفي الوقت نفسه كان السيد "عزة إبراهيم" قد وصل إلى جدة، فقد كان هو بنفسه مبعوث الرئيس "صدام حسين" إلى الملك "فهد" حسب ما اتفق عليه الملك والرئيس في الصباح. ولم يكن لدى نائب رئيس مجلس قيادة الثورة الذي ذهب لمقابلة ملك السعودية أكثر مما كان لدى نائب رئيس الوزراء العراقي للشؤون الخارجية الذي ذهب إلى اجتماع وزراء الخارجية العرب.
وكان الملك "فهد" مندهشاً، وقد سأل زائره: "هل هذا كل ما تريد أن تقوله لي؟" – وقال السيد "عزة إبراهيم": "يا جلالة الملك هذا جزء من العراق عاد إليه".
ورد الملك "فهد": "وإذا كان الأمر كذلك، ففيم كنا نتحدث خلال الشهور الأخيرة كلها؟ إنكم تعاملتم مع الكويت ابتداء من سنة 1963 كدولة مستقلة، وكان أميرها عندكم في بغداد كرئيس دولة مستقلة."
كان الملك "فهد" في حالة من الحيرة شديدة ومركبة.
كان حائراً قبل أن يصله المبعوث العراقي الخاص. وبعد أن جاءه المبعوث العراقي الخاص اشتدت حيرته أكثر.
وكان سفيره في واشنطن الأمير "بندر" قد سمع بنبأ الغزو عند منتصف الليل في لندن. وركب طائرته على الفور قاصداً واشنطن. وفور وصوله اتصل بالملك "فهد" تليفونياً يسأل عن التعليمات، وقال له الملك: "إن الجماعة عندك لابد لهم أن يكونوا حازمين"!
ورد الأمير "بندر" بأنه "لم ير أحداً من المسؤولين الكبار بعد، ولكنه من كل ما سمع ورأى يشعر أن الأميركان ثائرون، وأنه قصد أن يتصل بالملك قبل أن يقابل أحداً حتى يكون على بينة".
ولم يكن لدى الملك جواب صريح، وقد اكتفى بأن قال لسفيره وابن شقيقه في واشنطن "إنه ينتظر ما يسفر عنه اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، وبعدها سوف تكون الصورة أوضح".
أمير الكويت
وتلقى الملك "فهد" بعد ذلك مكالمة تليفونية من أمير الكويت الشيخ "جابر الصباح" الذي وصل إلى "حفر الباطن" بعد أن دخل من نقطة "الخفجي" عند منتصف الليل، وكان في حالة ثورة عارمة يصف فيها العراقيين بـ"الكفار".
وكان رأى الشيخ "جابر" أنه "لابد من طرد العراقيين اليوم من الكويت لأنهم إذا باتوا فيها ليلتهم فلن يخرجوا منها".
وحاول "الملك" قصارى جهده تهدئة ثورة الشيخ "جابر" ثم طلب إلى الأمير "عبد الله" ولي العهد والنائب الأول لرئيس الوزراء أن يرسل طائرة خاصة إلى الشيخ "جابر" في "حفر الباطن" حتى يجيء إلى جدة للقائه وطمأنته.
ثم اتصل الأمير "بندر" بعد ذلك بالملك "فهد" يقول "إنه سمع من مصدر في البيت الأبيض بأن قوة مدرعة عراقية تتقدم تجاه المنطقة المحايدة بين الكويت والسعودية. وسمع ايضاً أن الكويت تقدمت بطلب رسمي للمساعدة من الولايات المتحدة". وكان "بندر" يسأل إذا كان في نية المملكة أن تتقدم بطلب مشابه لطلب الكويت. وقال الأمير "بندر" إنه يعرف "أن اجتماعاً لمجلس الأمن القومي سوف يعقد برئاسة "بوش" وأنهم سوف يضعون له اقتراحاتهم بالخيارات المحتملة للعمل، والراجح في تقديره (الأمير "بندر") أنهم سوف يتصلون به، وهو يريد أن يكون مستعداً".
وطلب إليه الملك أن ينتظر "لنرى كيف تسير الأمور".
وكان الأمير "سعود الفيصل" وزير الخارجية على اتصال بالملك منذ الصباح الباكر. فقد سأل أولاً عندما تقرر انعقاد مؤتمر طارئ لوزراء الخارجية العرب عن التعليمات التي يتصرف بمقتضاها، ولكن الملك سأل بدل أن يجب. سأل الملك عن "الأحوال لدى الإخوان"؟ وقال الأمير "سعود" إن "الكل في حالة ذهول". وعقب الملك بقوله "خير إن شاء الله". وبشكل ما فإن الملك فيما يبدو كان يريد أن يطمئن إلى أن العمل العراقي لم يجر بالتشاور مع مصر والأردن. ولا بمعرفتهما كشركاء للعراق في مجلس التعاون العربي. ثم عاد الأمير "سعود الفيصل" فاتصل بالملك بعد انتهاء اجتماع وزراء الخارجية الصباحي، وكانت تعليمات الملك "أن ينسق الأمير سعود مع كل الإخوان الذين لابد لهم أن يعرفوا أن الموقف خطير، وأن التنسيق يجب أن يكون كاملاً مع المصريين والسوريين".
ثم قال الملك: "إن الكل يجب أن يعرف أن الموقف خطير، وأبواب جهنم يمكن أن تنفتح".
ثم أضاف: "إن الأرض مليئة بالأشواك، وعلينا أن نكون على حذر". ثم جرى اتصال بين الأمير "تركي بن فيصل" رئيس المخابرات السعودية، وبين الأمير "بندر بن سلطان" في واشنطن. وكرر الأمير "بندر" للأمير "تركي" ما سبق أن قاله للملك عن المعلومات التي تشير إلى تقدم قوات عراقية في المنطقة المحايدة بين الكويت والسعودية، وكان رأيه: "إن الذي يفطر بالكويت، لابد له أن يتغدى بشيء آخر"! وكان لدى الأمير "تركي" نقطة يريد أن يثبت منها، فقد سأل الأمير "بندر" عما إذا كان سمع عن تنسيق بين العراق وإيران، "فهو يظن أنه من الصعب على العراق أن يدخل بكل هذه القوات إلى الكويت، ويكشف نفسه على الجبهة الطويلة مع إيران إلا إذا كان هناك تفاهم على شيء".
ويبدو أن الأمير "تركي" كانت لديه مخاوف من أن تنتهز إيران الفرصة وتنزل في البحرين.
دهشة صدام
كان الملك "حسين" قد راح يرتب رحلته إلى بغداد، وهو لا يزال في الاسكندرية وكان يشعر بشكل واضح أن مهمته تصب في قرار مجلس الأمن، وتلبي طلبات المجتمع الدولي إلى جانب الضرورات العربية، وكان يريد أن يسافر مباشرة إلى بغداد، لكنه أخطر بأن الأجواء العراقية مقفلة إلا للطيران العسكري العراقي وحده.
وتوجه إلى عمان، ومن هناك اتصل ببغداد يحاول ترتيب زيارته في اليوم التالي – الجمعة 3 آب (أغسطس).
وفي الساعة التاسعة صباحاً اتصل به الرئيس "مبارك" يسأله لماذا تأخر في الذهاب إلى بغداد، وشرح له الملك سبب التأخير، ثم قال إنه رتب مع الأخوة العراقيين أنه سيذهب بطائرته إلى مطار "هـ-2" على الحدود مع العراق، ومن هناك يستقل طائرة حربية عراقية إلى بغداد. وكان رأي الرئيس "مبارك" أنه "لابد من الاستعجال لأن عنصر الوقت ليس في الصالح". وقال الملك انه "سيبذل قصارى جهده".
وفي الساعة الحادية عشرة والنصف كان الملك في بغداد فعلاً.
وفي بغداد وجد الملك أن معنويات الرئيس "صدام حسين" عالية، ولكنه في دهشة من ردة الفعل الأميركية والعالمية، وقد شرح عملية الكويت بأنه "حاول بكل الوسائل ولكن هؤلاء الناس رفضوا أن يفهموا الحقائق لأنهم متآمرون وكان لابد أن نتصرف".
ولاحظ الرئيس "صدام حسين" أن الملك لا يخفي دهشته، فقال له: "إن له عليه حق عرب، ونفس الحق للرئيس مبارك. وفي الحقيقة فإنه لم يشأ إخطار أي منهما بالعملية مسبقاً حتى لا يحرجهما أمام الغرب، أو أمام الكويتيين، ولذلك فضل أن يأخذ المسؤولية كلها على نفسه".
وبدأ الملك "حسين" يشرح رؤيته للأمور، وكان ملخص رأيه "أنه وهو يعرف الغرب أكثر من غيره، يستطيع أن يؤكد أن الغرب سوف يتدخل عسكرياً".
ورد الرئيس "صدام حسين" بقوله للملك "حسين" إنه "لا ينبغي أن ندع الغرب يثير الفزع في قلوبنا". وكان رأي الملك "حسين" أنها ليست مسألة فزع، ولكنها مسألة معرفة بالغرب وخبرة بسياساته، وراح يشرح تفصيلاً يقينه بأن التدخل العسكري الأميركي قادم لا شك في ذلك إذا لم ينسحب العراق من الكويت.
وكان الرئيس "صدام حسين" يسمع جيداً، ثم قال "إننا على أي حال كنا قد اتخذنا قراراً بالانسحاب". ثم اطلع الملك "حسين" على فحوى بيان صادر من مجلس قيادة الثورة يقول "إن القوات العراقية أدت مهمتها في مساندة ثورة شعبية كويتية ضد حكم قارون (أسرة الصباح)، وبذلك فإن القوات العراقية تستطيع أن تغادر الكويت تاركة الأمر في يد حكومة كويتية وطنية تدير الأمور في فترة انتقال".
وعاد الملك "حسين" يناقش ورجاؤه بالانسحاب يزداد إلحاحاً.
وبشكل ما فإن الملك – طبقاً لروايته – بدأ يشعر أن رسالته تصل تدريجياً إلى الرئيس "صدام حسين".
وأبدى الرئيس "صدام حسين" ما حسبه الملك استعداداً للانسحاب، وسأله "متى تعتقد أن قواتكم سوف تنسحب من الكويت؟" وقال الرئيس "صدام": "سريعاً!" وألح الملك، وقال الرئيس صدام: "في أسابيع قليلة". ورد الملك "حسين" بنبرة مشحونة بالأسى وقال: "ليست لدينا أسابيع، ولا حتى ايام.. أمامنا ساعات فقط".
بوش يعطي بندر كلمة شرف
في الساعة الثالثة من بعد ظهر نفس اليوم 3 آب (أغسطس) كان الأمير "بندر بن سلطان" سفير السعودية يدخل مكتب مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي الجنرال "برنت سكوكروفت" – في البيت الأبيض.
وفور أن جلس "بندر" عاجله "سكوكروفت" بسؤال قال فيه: "إننا لم نتلق رداً من الملك "فهد" حتى الآن على طلبنا إرسال طائرات إلى السعودية. ثم إن الرئيس اتصل بالملك أمس واليوم، ولكن الملك يتخذ موقف الصمت فيما عدا إظهار عضبه على "صدام حسين"، وهذا لا يكفي...."
ورد الأمير "بندر" قائلاً: "إنني بصراحة استطيع أن افهم موقف الملك. المشكلة أنكم تسحبون أصدقاءكم وراءكم، ثم تتركونهم مرات في منتصف الطريق. نحن نريد أن نضع ايدينا في أيديكم، وإنما ما الذي يضمن أنكم سوف تستمرون إلى النهاية ثم لا تتركوننا وحدنا أمام الأعداء؟ هذا وضع جربناه معكم من قبل".
وراح "سكوكروفت" يؤكد لـ"بندر" أن الرئيس "بوش" عازم على المضي حتى النهاية، وأنه لأسباب تتعلق بالبلاد وبالإدارة، وبالرئيس شخصياً فإن "بوش" سوف يمضي في سياسة ضرب قوة العراق، وتصفية مركز "صدام حسين" إلى النهاية...
وفي هذه اللحظة دخل الرئيس "بوش" بنفسه إلى مكتب مستشار الأمن القومي قائلاً لـ"بندر": "علمت أنك هنا في مكتب "برن" (برنت سكوكروفت) فقلت أمر عليك، وأسمع منك وأتحدث معك".
ولم يضيع "بوش" وقتا في التحيات او المقدمات، فاتجه إلى صميم الموضوع الملح عليه، وقال لـ"بندر": "إن الكويت لم تطلب مساعدتنا إلا قبل نصف ساعة من سقوط بلدهم في أيدي العراقيين، فهل تنوون أنتم أيضاً أن تنتظروا إلى هذه اللحظة؟"
وعاد "بندر" يكرر على "بوش" نفس ما قاله من قبل لـ"سكوكروفت".
وفجأة اتخذت ملامح "بوش" تعبيراً جاداً، فقال لـ"بندر": "اسمع.. إنني أعطيك كلمة شرف أنني سوف أتابع هذا الأمر إلى النهاية".
ثم اضاف يقول: "نحن مستعدون – وقد اتخذت القرار، ولا رجعة فيه مهما حدث".
ومضى "بوش" بعد ذلك خطوة في سبيل طمأنة "بندر"، فطلب إلى مستشاره للأمن القومي أن يتصل بوزير الدفاع ويرتب لـ"بندر" أن يطلع على الخطط.
واتصل "سكوكروفت" بـ"ريتشارد تشيني" وقال له:
"إن الرئيس يريد أن يطلع "بندر" على الخطة حتى يطمئن.. ودعه ايضاً يشاهد صور الأقمار الصناعية".
هذا كلام جدي
وتوجه "بندر" إلى مكتب "تشيني" في البنتاجون على الفور وصحبه معه من البيت الأبيض "ريتشارد هاس" المختص بشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي – وكان "تشيني" قد دعا الجنرال "كولين باول" و"وولفوويتز" إلى لقائه، ومعه "بندر" في غرفة العمليات. وهناك عرض "باول" هيكل الخطة "1002-90" وعدد القوات التي ستخدم فيها: 4 فرق – 3 حاملات – قوة جوية تقارب 800 طائرة. وسأل "بندر" عن عدد الأفراد الذين تضمهم هذه القوة؟ ورد عليه "باول": من 100 إلى 200 ألف.
وأطلق "بندر" صفيراً من بين شفتيه، وقال: "هذا كلام جدي". وعقب "باول": "جدي جداً... لكنه بدون قاعدة على الأرض يصبح "هزلاً"!" واتصل "بندر" بـ"سكوكروفت" يقول له: "إنه قرر أن يذهب بنفسه إلى السعودية لكي يعكس صورة لما رأى وسمع، فلا الرسائل ولا البرقيات يمكن أن تنقل ما هو كاف. وهو يعتقد أنه يمكن أن يؤدي دوراً مفيداً في هذه اللحظة فهو يشعر ان المملكة تحس بحالة عري كامل إزاء الموقف الذي واجهته. فالأسرة والدولة في حالة انكشاف، وكلهم مصاب بالخوف والهلع، وعاجز عن اتخاذ قرار".
وكان "سكوكروفت" من أنصار سفر "بندر".
ثم قال "ريتشارد تشيني" إنه يفكر في إرسال الجنرال "نورمان شوارتزكوبف" لكي يعطي الملك فكرة عن الخطة، ولكي يقوم أيضاً بعمليات التنسيق الضرورية.
واتصل "بندر" بالملك "فهد" يستأذنه في القدوم إلى جدة ليشرح له بنفسه بعض الأمور العامة. وكان رد الفعل الأول لدى الملك أن يطلب إلى "بندر" أن يظل في واشنطن ليتابع، ولكن "بندر" الح قائلاً "إن الإخوان هنا يريدون ان يسمعوا منا". ورد الملك بنفاد صبر: "المهم قبل أن يسمعوا منا أن يعرفوا ويدرسوا جيداً موقفهم".
ثم وافق الملك على أن يترك سفيره موقع عمله في هذه اللحظات .
شيء رهيب وفظيع
ويوم 8 آب (أغسطس) – أي نفس اليوم الذي وجه فيه الرئيس "بوش" حديثه إلى الأمة الأميركية – قرر الرئيس "مبارك" أن يوجه حديثاً إلى الأمة العربية. وكان الحديثان في نفس اللحظة تقريباً. فـ"بوش" كان يتحدث في الساعة التاسعة صباحاً بتوقيت واشنطن، والرئيس "مبارك" كان يتحدث في الساعة الثالثة بعد الظهر بتوقيت القاهرة. وكان خطاب الرئيس "مبارك" درامياً ومؤثراً. وكان أبرز ما قاله "إن الصورة سوداء ومخيفة، وما لم نتدارك الموقف فوراً فإن الحرب حتمية". ثم راح الرئيس "مبارك" يرسم صورة مفزعة لدمار الحرب ونارها وجحيمها، وقال "إن أحداً لا يعرف مخاطر الحرب كما يعرفها هو، فقد مر في أزمات مماثلة، وبخبرته العسكرية السابقة فإنه يستطيع أن يقول ان الحرب المحتملة سوف تكون شيئاً رهيباً وفظيعاً". ثم أنهى خطابه بقوله "ألا قد بلغت اللهم فاشهد".
ولقد راجت فيما بعد مقولة بأن الرئيس "مبارك" بالغ في كآبة الصورة قبل الأوان، وأعطى الإيحاء بأن الضربة واقعة في ظرف أيام. ولم تكن هذه المقولة تشخيصاً دقيقاً للمناخ الذي تحدث فيه الرئيس "مبارك"، والواضح أن اللهجة التي تحدث بها في ذلك الوقت كانت لهجة رجل أتاحت له ظروفه أن يطل بنظرة على الخطة "1002-90" (من لقائه مع "تشيني" في اليوم السابق)، ولقد هاله ما رأى وتمنى لو أمكن توقيه مع علمه بسبق الإصرار عليه. وقد جرت الكلمات على لسانه، ولأن خطابه كان مرتجلاً فإن السر تسرب إلى اللفظ. لم يكن في حل من أن يفشى هذا السر فكتمه، ولكن البخار المكتوم سرى في الخطاب بالرغم من كل شيء.
alalem