الآثار المدمرة لضجيج السفن على الأحياء البحرية
يحاول عدد من الباحثين كشف ألغاز الحياة في أعماق البحار، وقد توصلوا إلى أن الضجيج الذي يصدر عنا يعرض الأحياء البحرية للخطر.
قبل عدة سنوات، وجد مايكل أندريه نفسه يحدق في جثة حوت ميت ملقاة على شاطيء جزر الكناري، كان واضحاً أن الحوت اصطدم بسفينة ما، لكن لماذا؟
في وقت لاحق، وبعد التحري عن الحيتان التي تعيش في تلك المنطقة، وقياس الزيادة في التلوث الصوتي الصادر عن السفن، بات واضحاً أن هناك علاقة.
لقد أصبحت الحيتان لا تبالي بضجيج السفن المقتربة، وتصطدم بها بطريقة مميتة، يقول أندريه الذي يدير مختبر العلوم البحرية التطبيقية في جامعة برشلونة: "لم يخطر ببالنا أن هذا شيء قد يتسبب في موت هذه الحيتان".
قضى أندريه 20 عاما في تطوير نظام متقدم لتسجيل أصوات الضجيج تحت مياه البحر لكي يفهم بشكل أفضل السبب وراء وقوع حوادث من هذا النوع.
وقد كشفت مكبرات الصوت تحت المائية التي طورها أندريه عن عالم كبير من الأصوات، والضوضاء، والتواصل بين الحيوانات البحرية لم يحدث أن تمت ملاحظته بهذا الوضوح من قبل.
وأطلق على أداة الاستماع التي طورها أندريه اسم "الأذن الذكية"، حيث تقوم برصد وتتبع أصوات الحيتان والدلافين وغيرها من الحيوانات البحرية، فضلاً عن الأصوات المزعجة للسفن وغيرها من الألات التي تمخر عباب البحر.
لم تكن تلك مهمة سهلة، فلا تنتقل الموجات الصوتية عبر المياه بطريقة مرتبة، أو يمكن التنبؤ بها، كما يحدث عبر الهواء،حيث أن درجات الحرارة والملوحة واتجاه تدفق المياه، إضافة إلى أمور أخرى تؤثر على مسار هذه الموجات الصوتية.
هناك كثير من التشويش، لذا كان على أندريه وفريقه تطوير طرق حسابية يمكنها تحليل الأصوات لحظة وقوعها ومقارنتها بقاعدة معلومات معروفة عن الأصوات في المحيطات من الغناء الصادر عن الحيتان إلى أحاديث الدلافين.
ولا يتشابه صوتان من هذه الأصوات، لكن الطريقة الحسابية ذكية بشكل تلاحظ معه الفروق في الموجات الصوتية ومقارنتها بدرجة كبيرة من الدقة.
ويمكن للنظام الذي طوره أندريه أيضاً أن يقدر المسافة التي يبعدها مصدر الصوت، وذلك بتحليل درجة التشويش التي طرأت على الصوت نفسه، وهو مؤشر جزئي على كمية المياه التي انتقل خلالها الصوت قبل أن يصل إلى السماعات المائية.
مستوى جودة الصوت بالطبع يعتمد على حركة الحيوان البحري الذي أصدره، فإذا أدار الحيوان رأسه فلن تستطيع التقاط نفس الصوت بنفس الوضوح والكثافة.
هناك مجموعة متنوعة من السماعات البحرية التي يقوم أندريه باستخدامها، والتي تلتقط الآن إشارات صوتية في أعماق البحار حول العالم، وتحلل البيانات الواردة بسرعة كبيرة من خلال أجهزة كمبيوتر حديثة، ويبلغ التاخير بين التقاط الصوت والتنبؤ الحسابي بطبيعته ثلاث ثوان فقط، ومن ثم يتم إرسال المعلومات إلى اليابسة.
يقول أندريه: "لدينا كمية معلومات هائلة، وعندنا معلومات تصلنا على مدار الساعة من أكثر من 100 قناة حول العالم".
ولا يكتفي فريق أندريه بالاستماع فحسب، فقد درس الضرر النفسي الذي يقع على الحيوانات نتيجة تلك الأصوات والضجيج الذي تحدثه السفن.
فبعد أخذ عينات من نسيج أذن الحيتان التي قذفها البحر إلى الشاطيء، وجد دليل على الضرر في خلايا هذه الأعضاء الحساسة فلهذا السبب إذاً فقدت هذه المخلوقات قدرتها على التقاط وتتبع ضجيج السفن.
وإذا عثر على أنسجة مفقودة في هذه الخلايا فمعنى ذلك أن الحيوان لا يستطيع تحليل أي صوت يخص تلك الخلية ونوع الضجيج الذي يفترض أن تتعامل معه الحيوانات ليس قليل الأهمية، فهو يتراوح بين أصوات السفن وأزيز الانفجارات.
ويقول ويليس كلارك، العالم في شؤون البحار من جامعة كورنيل إن السفن تغطي على أصوات غناء الحيتان، وإن هذه الحيتان معرضة لأصوات الانفجارات التي تصم الآذان والناتجة عن أعمال التنقيب عن النفط والغاز في قاع المحيطات.
يقول كلارك: "نقوم بتفجيرات كبيرة كل 10 ثوان لعدة شهور أحيانا قرب أيرلندا، لكنني أسمعها من فرجينيا".
ما الذي يمكن عمله؟
أحد الحلول هو تغيير مسارات السفن إلى طرق تبتعد عن أماكن وجود الأحياء البحرية، ومن الممكن أيضاً في بعض الأحيان الإبطاء من سرعة السفن لتصل إلى سرعة 10 عقدة بحرية (أي 18 كيلومتر في الساعة أو أقل)، وهو ما يقلل من احتمال إصابة الحيتان بطريقة قاتلة.
يقول كلارك إن ذلك يقود إلى تراجع كبير في فرص دهس السفن لهذه الحيتان.
أما بالنسبة لمعالجة المشكلة من أساسها، فقد أصدرت منظمة الأمم المتحدة لشؤون البحار دليلاً إرشادياً عن كيفية إسكات أصوات السفن لكن سيستغرق الأمر زمناً طويلاً قبل أن نرى الأثر الفعلي لهذه التغيرات فضلاً عن ذلك، لا بد من تعاون شركات النقل والسفن معا في هذا الإطار.
ويعلق أندريه على ذلك قائلاً: "المحيطات ليست عالمنا الذي نعيش فيه، لكنها عالمنا الذي يجب أن نعتني به".
وبفضل الأعمال التي يقوم بها أندريه، نستطيع الآن أن نفهم تأثير الضجيج والتلوث الصوتي على الحياة البحرية.
يقول أندريه: "حقيقة أن لدينا إمكانية الآن لمعرفة ومتابعة الأصوات التي تصدر في البحار تكمل ما لدينا من صورة عن الحياة في تلك الأعماق، وهذه هي الطريقة الوحيدة حاليا التي يمكن أن نفهم من خلالها ما يدور هناك".