لقد درج الغربيون على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم: "قهر الطبيعة"، ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة المناهج الوضعيَّة المقطوعة الصلة بالله سبحانه وتعالى وبرُوح الكون المستجيب لله عز وجل.
أمَّا المسلم -موصول القلب بربِّه الرحمن الرحيم موصول الرُوح برُوح هذا الوجود المسبِّحة لله رب العالمين- يُؤمن بأنَّ هنالك علاقة أخرى غير علاقة القهر والجفوة؛ إنه يعتقد أن الله هو مبدع هذه القوى جميعًا خلقها كلَّها وَفق ناموس واحد؛ لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدَّرة لها بحسب هذا الناموس، وأنَّه سخَّرها للإنسان ابتداءً ويَسَّر له كشف أسرارها ومعرفة قوانينها، وأنَّ على الإنسان أن يشكر الله كُلَّما هيأ له أن يظفر بمعونةٍ من إحداها؛ فالله عز وجل هو الذي يُسَخِّرها له وليس هو الذي يقهرها: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [الجاثية: 13].
إذًا فإنَّ الأوهام لن تملأ حِسَّه تجاه قوى الطبيعة ولن تقوم بينه وبينها المخاوف. إنَّه يؤمن بالله وحده ويعبد الله وحده ويستعين بالله وحده، وهذه القوى من خلق ربه وهو يتأمَّلُها ويَأْلَفها ويتعرَّف أسرارها فتبذل له معونتها وتكشف له عن أسرارها؛ فيعيش معها في كونٍ مأنوسٍ صديقٍ ودود[1].
بهذه الرؤية الإسلامية من خلال القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية نجد أنَّ العلاقة القائمة بين الإنسان وبين البيئة من حوله هي علاقة:
أولاً: استخلاف:
حيث يقول الله تبارك وتعالى للملائكة قبل أن يخلق البشر: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. وفي تفسير العلماء لمعنى كلمة خليفة الواردة في الآية يَتَّضِح أنَّ الإنسان ليس مطلق اليد في استعمال البيئة؛ يقول البغوي: "إنه خليفة الله في أرضه لإقامة أحكامه وتنفيذ وصاياه"[2]. وبمثل هذا المعنى قاله ابن عطية[3] عن ابن مسعود[4]، وقاله العز بن عبد السلام[5]، والقرطبي[6]، والبيضاوي[7]، وسراج الدين الحنبلي[8] ورَجَّحَ هذا الرأي -في معنى الخليفة- مُحْتَجًّا بقوله تعالى لنبيه داود عليه السلام: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]. وقال بهذا المعنى من المتأخرين الشيخ رشيد رضا[9]، والشيخ سيد طنطاوي[10]، وغيرهم.
إنَّ خلافة الإنسان على الأرض تجعله وصيًّا لا مالكًا، محافظًا أمينًا، عليه أداء حقوق الأمانة، متنعِّمًا بحقٍّ، مؤديًّا حقَّ الشكر للمنعم بما يكفل له حقَّ دوام النعمة: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]. وخاصَّةً أنَّ كفران النعمة موجب لزوالها[11]. وفي هذا الاستخلاف يكمن المعنى الجوهري والأساسي لعلاقة الإنسان مع البيئة فيما حوله؛ إذ هو معنى الوصاية على الشيء بما يستلزم الرعاية والحماية وتحمُّل الأمانة وهو ينافي تمامًا معنى التملُّك أو الحرية المطلقة في التصرُّف، إنه استخلاف يجعل الإنسان مُؤْتَمَنًا على البيئة ومواردها يحفظ حقَّ الله فيها ويؤدِّي إليها حقَّها.
إنه من الجدير بالنظر أن ننتبه إلى أنَّ أوَّل تعريفٍ للإنسان في هذا الوجود يجعله "خليفةً في الأرض"؛ أي: إنه ومن قبل أن يُوجد البشر كان الله سبحانه وتعالى يُقَرِّر ويُحَدِّد طبيعة المهمَّة؛ إنها الخلافة في الأرض واستدعاء تلك الحقيقة يُرسِّخ في العقل المسلم أنَّ الأرض -التي هي بيئة الإنسان- مِلك الله بالأساس وأنَّ سلوكه نحوها خاضعٌ لشريعة الله.
ثانيًا: تعمير:
هذا النوع من العلاقة يُؤخذ من قول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[هود: 61]. قال زيد بن أسلم: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن وغرس أشجار. وقيل: المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها[12]. وعمارة الأرض من مقتضيات كون الإنسان خليفةً في الأرض، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله سبحانه وتعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]. قال: استخلفكم فيها[13]. وقد فُهِم من الكلمة أن تعمير الأرض واجبٌ على الإنسان؛ لأنَّ: "الطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب"[14].
على هذا قسَّم الزمخشري[15] العمارة إلى أربعة أنواع؛ فقال: "والعمارة متنوِّعة إلى واجب وندب ومباح ومكروه"[16]. وذكر أنَّ التعمير سبب طول الأعمار؛ فَرَوَى: "كان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار وعمروا الأعمار الطوال مع ما كان فيهم من عَسْف[17] الرعايا فسأل نبيٌّ من أنبياء زمانهم ربَّه عن سبب تعميرهم فأوحى إليه: إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي"[18].
ثالثًا: استمتاع:
لا تقتصر حكمة الله تعالى في خَلْق البيئة (الأشجار والنباتات والثمار والحيوان والبحار والجبال والنجوم) على الفوائد المباشرة؛ من كونها غذاء أو منفعة للإنسان، بل إنَّ الله عزَّ وجل أشار في كتابه الكريم إلى وظيفةٍ أخرى؛ هي تلك البهجة والنشاط والحيويَّة التي تُبعث في القلب، فقال سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}[النمل: 60].
إنَّ تلك الصبغة الجمالية التي تُمَيِّز الطبيعة على اختلاف مُكَوِّناتها ليست إلاَّ تطبيقًا لقاعدة عامَّة أَقَرَّها الله سبحانه وتعالى في كل ملمح من ملامح الكون، كما أَحَبَّ لعِباده أن يتخلَّقُوا بها؛ تلك هي (قاعدة الجمال)! فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْـجَمَالَ"[19].
يقول الأستاذ محمد قطب متأمِّلًا ذلك الجمال الذي يدخل في كلِّ شيءٍ من الطبيعة فيُمثِّل الفطرة أو القانون الطبيعي:
"الجمال فطرة الطبيعة فطرة الحياة التي خلقها الله. والحياة لا تكتفي بقضاء الضرورة ولكنها تهدف دائمًا إلى الإحسان في الأداء. أرأيت هذه الزهرة الجميلة الفوَّاحة الشذى المتناسقة الألوان؟ أتظن ذلك (ضرورة)؟ قالوا: لتجتذب إليها النحل؛ فينتج منها العسل غذاء وشفاء للناس! وتساعد كذلك في تلقيح النبات! فهل تظن ذلك؟! هل من (الضرورة) بالقياس إلى النحل أن يكون في الزهرة كلُّ هذا الجمال؟! كلا والله! فالنحل خَلْق متواضع! وإنه ليحطُّ على الزهرة الرائعة التناسق كما يحطُّ على الزهرة العادية الجمال، فليس جمال الزهرة إذًا ضرورة! وكلُّ الأهداف البيولوجيَّة يُمكن أن تتمَّ في أبسط زهرة كما تتمُّ في أجمل الأزهار.
رأيت هذه الطبيعة؟! رأيت حمرة الشفق المبدعة ورأيت جمال الصبح الوليد؟ رأيت روعة الجبال تبهر الأنفاس وتهزُّ الوجدان؟ والبحر الممتدَّ إلى غير نهاية منسرب الموج تراه في الليل الساكن كأنَّما تعمره الأطياف أو الأشباح؟ والليلة القمراء، هل (ذقتها)؟! و(ذقتَ) طعم السحر في ضوئها وظلِّها وأطيافها الساربة وحديثها المهموس؟ هل تظنُّ ذلك (ضرورة)؟ وأين هي الضرورة في ذلك كلِّه والحياة ممكنة ومستطاعة بغير هذا الجمال؟
ورأيت هذا الوجه الرائع؟ هاتان العينان الحالمتان اللتان يطلُّ منهما عالم عميق الأغوار، تلك التقاطيع المنسَّقة، هذا المعنى المعبِّر، تلك (الرُّوح) التي تطلُّ من وراء القسمات؟ تظن ذلك ضرورة؟! وما الضرورة؟! أليست كل العمليات البيولوجية -من طعام وشراب وتنفُّس- تتمُّ في أقبح وجه وأجمل وجه على السواء؟!"[20]
إنَّ الجبال لا تكتفي بأن تكون جبالًا، ولكنها تكون جميلة ورائعة مكسوَّة بالثلوج أو مكسوة بالغابات! إنَّ السحاب لا يكتفي بأن يكون سحابًا يحمل الماء، ولكنه كذلك يكون جميلًا بأشكاله وألوانه، ثُمَّ ينتشر عليه في بعض الأحيان طيف الشمس (قوس قزح) في منظرٍ رائعٍ جميل! إنَّ النبات لا يكتفي بأن يكون نباتًا، ولكنه يُورق ويُزهر ويستمتع منه الإنسان بزهره الأريج وشكله البهيج! إنَّ الطير لا يكتفي بأن يكون طيرًا ولكنه يُسقسق[21]ويغرِّد ويلعب ويقفز وتزهو منه الألوان! إنَّ الحيوان لا يكتفي بأن يكون حيوانًا، ولكنه يقفز ويمرح و(يتخابث) في لطف ويُستألف للإنسان"[22].
رابعًا: تأمُّل:
إنَّ هذه البيئة التي يعيش فيها الإنسان كانت دائمًا -وستظلُّ- الدليل الناطق والكتاب المنظور على وجود الله تبارك وتعالى، وعلى قدرته المطلقة المهيمنة على كلِّ شيء، وعلى جلاله وجماله وروعة صنعه سبحانه وتعالى، ثُمَّ على رحمته ولطفه وهدايته و-أولاً وأخيرًا- كانت الدليل الأعظم على وحدانيته تبارك وتعالى.
فَيَا عَجَبَا كَيْفَ يَعْصِي الإِلَهَ *** أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ؟!
وَفِي كُلِّ شَـــــــــيْءٍ لَهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ[23]
يُعرف لطفه ورحمته من قوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: 48 - 50]، ووَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 15 - 18].
إنَّ كل ما عرفناه عن الله تبارك وتعالى ساقه الله سبحانه وتعالى إلينا بدليلٍ منظورٍ عبر هذه البيئة، ولهذا دعانا دائمًا إلى دوام التأمُّل والتفكُّر في البيئة؛ ليعرف المسلم أنَّ كلَّ ذلك الوجود خُلِق بالحقِّ من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5]، و {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}[الروم: 8].
ويُعرف قوَّته وقدرته من قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 12 13]، و{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}[عبس: 25 - 31].
ويُعرف بديع صنعه من قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4]، و{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر: 19].
ويُعرف رعايته لأقلِّ مخلوقاته من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20]، و{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6].
على هذا فعبر هذه البيئة التي تحيط بنا عرفنا الله تبارك وتعالى، وبالتأمُّل فيها نعرف المزيد والمزيد: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
بهذا أنشأ الإسلام تلك العلاقة الخالدة بين الإنسان وبين البيئة من حوله؛ هو يتأمَّلُها فتعطيه إيمانًا، ويستزيد منها فتزيده، ثم يطلب أكثر فتعطيه أكثر، وذلك بلا نهاية؛ {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109].
خامسًا: تَعَلُّم:
إنَّ شعور الإنسان بأنَّ تلك الكائنات المحيطة به هي أمم أخرى مثله -كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38]- يجعل الإنسان وهو الكائن الأرقى متقَبِّلاً لأنْ يتأمَّل هذه العوالم، بل أن يَتَعَلَّم منها كذلك.
هذا هو تاريخ البشرية من قديم؛ فلقد كانت أوَّل مشكلة بيئيَّة يواجهها الإنسان في تاريخه كاشفة عن أهليَّة الكائنات الأخرى لتصبح مُعَلِّمًا للإنسان؛ تلك هي مشكلة ابن آدم حين قتل أخاه فلم يَدْرِ كيف يصنع[24]، وحينها كان الأستاذ غرابًا: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31].
في سورة النمل حكى الله عز وجل عن نملة وقفت ناصحةً قومها فكانت الخَطِيب الفصيح بل كانت -أيضًا- منصفةً، قال سبحانه وتعالى:{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]. ومن هذا النصِّ البسيط نتعلَّمُ إيجابية النملة التي وردت نَكِرَة بما يحمل على معرفة أنها كانت من العامَّة لا من القادة أو النخبة -لو صحَّ التعبير- ونتعلَّم حرصها على نجاة الجماعة لا مجرَّد النجاة بالنفس، ونتعلَّم التحليل المنصف؛ إذ أضافت بأنَّ القوم سيحطموننا {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95]؛ أي: إنها لا تَتَّهمهم بالظلم أو بالتعمُّد.
وحدث –أيضًا- أن ذهب هدهد سليمان عليه السلام فعاد لا ليحكي الخبر فقط، بل يُحَلِّلُه ثم يُبدي رأيه فيه. قال سبحانه وتعالى: { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 22 - 26].
لقد كان تَعَلُّم الإنسان ممن حوله من الكائنات حقيقة تاريخية مضطردة؛ حتى إن البعض يقول بأنَّ هذه الكائنات هي أوَّل مُنشئٍ للمدنيَّة. يقول المؤرخ الأميركي الشهير ول ديورانت[25]:
"فالكلب الذي اختزن تحت الثرى عظمةً فاضت عن شهيته، وإنها لشهية الكلاب! والسنجاب الذي ادَّخَر البندق لوجبةٍ أخرى في يومٍ مقبل، والنحل الذي ملأ خليَّته بالعسل، والنمل الذي خزَّن زاده أكداسًا اتِّقاء يومٍ مطيرٍ، هذه جميعًا كانت أوَّل مُنشئ للمدنيَّة؛ فقد كانت هي وأضرابها من المخلوقات الراقية أوَّل مَنْ عَلَّم أجدادنا فنَّ ادِّخار ما نستغني عنه اليوم إلى الغد، أو اتخاذ الأهبة للشتاء في أيام الصيف الخصيبة بخيراتها"[26].
بهذا تنتظم العلاقة بين الإنسان والبيئة في الإسلام؛ علاقة يُسيطر عليها الحبُّ والمودَّة، ثم هي علاقة خالدة ما دامت البيئة وما دام الإنسان حتى تقوم الساعة.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــ
[1] الظلال 1/26.
[2] البغوي: معالم التنزيل في تفسير القرآن 1/79.
[3] عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن ابن عطية المحاربي (481 - 542 هـ = 1088 - 1148 م) من محارب قيس الغرناطي أبو محمد: مفسر فقيه أندلسي من أهل غرناطة، عارف بالاحكام والحديث، له شعر، ولي قضاء المرية له (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) في عشر مجلدات و (برنامج). الزركلي: الأعلام 3/282.
[4] ابن عطية: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 1/102.
[5] العز بن بعد السلام: تفسير القرآن 1/114. العز بن عبد السلام: هو عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي (577- 660هـ=1181- 1262م) ولقبه عز الدين وهو المعروف بسلطان العلماء، فقيه شافعي بلغ رتبة الاجتهاد، ولد ونشأ في دمشق، وتولى القضاء في مصر. من كتبه: التفسير الكبير. انظر: الزركلي: الأعلام 4/21.
[6] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 1/263.
[7] تفسير البيضاوي ص277. وهو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي ناصر الدين البيضاوي: قاضٍ مفسِّر علَّامة، ولد في المدينة البيضاء (بفارس - قرب شيراز)، وولي قضاء شيراز مدة، وصرف عن القضاء فرحل إلى تبريز فتُوفِّي فيها. من تصانيفه: (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) الذي يُعرف بتفسير البيضاوي. انظر: الزركلي: الأعلام 4/110.
[8] سراج الدين الحنبلي: اللباب في علوم الكتاب 1/500 501.
[9] رشيد رضا: تفسير المنار 1/216.
[10] سيد طنطاوي: التفسير الوسيط 1/54.
[11] م. بدوي محمود الشيخ: قضايا البيئة من منظور إسلامي ص88.
[12] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 9/56.
[13] ابن أبى حاتم: تفسير القرآن العظيم مسندًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين 6/2048 وانظر: السيوطي: الدر المنثور في التأويل بالمأثور 4/445.
[14] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 9/56.
[15] الزمخشري: هو جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الخوارزمي (467- 538هـ = 1075- 1144م): من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة والآداب له مصنفات كثيرة منها: (الكشاف) في تفسير القرآن الكريم. انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/168-171.
[16] الزمخشري: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل 3/101.
[17] العسف: الظُّلم والجَوْر والأخذ بالعنف والقوة. ابن منظور: لسان العرب مادة عسف 9/245، والمعجم الوسيط ص600.
[18] الزمخشري: الكشاف 3/101.
[19] مسلم: كتاب الإيمان باب تحريم الكبر وبيانه (91)، وأحمد (3789)، وابن حبان (5466)، والحاكم (68).
[20] محمد قطب: قبسات من الرسول ص105-107.
[21] سقسق الطائر: صوت بصوت ضعيف. الزبيدي: تاج العروس باب القاف فصل السين 25/453، والمعجم الوسيط ص435.
[22] محمد قطب: منهج التربية الإسلامية ص149 150.
[23] ديوان أبي العتاهية ص122.
[24] د. عبد الرحمن جبرة: الإسلام والبيئة ص26 27.
[25] ول ديورانت Will Durant (1885- 1981م): مؤرِّخ أمريكي شهير من أعظم كتبه (قصة الحضارة) في 42 مجلدًا والتي تناول فيها تاريخ الحضارة منذ نشأتها وحتى العصر الحديث.
[26] ول ديورانت: قصة الحضارة 1/12.
د.راغب السرجاني