من أخطر مشكلات العالم فى العصر الحاضر مشكلة البيئة، والإسلام لا يقف متفرجًا على هذه المشكلة؛ فهو الدين الرباني الذي ارتضاه الله تبارك وتعالى للعالمين، وهو الدين الذي امتاز بشموله وبقدرته على تنظيم حياة البشر على هذه الأرض، وهو دينٌ يتناول كلَّ الحياة البشريَّة في واقع المسلم، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]. وهو الدين الكامل الذي ختم الله به الرسالات، وختم برسوله صلى الله عليه وسلم الرسل، وأنزل فيه قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. كما كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقًا لهذا الشمول ولهذا الكمال، فلقد حفلت حياته صلى الله عليه وسلم بإسهامات ووصايا وتعاليم في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وكذلك في مجال البيئة.
على الرغم من امتياز الإسلام بهذا الشمول وبهذا الكمال فإنه يُهاجَم الآن بأعنف ما يكون، فيتم وصفه بالعنف والإرهاب والظلم والقسوة والتخلف عن مواكبة العصر، وعلى الرغم من أنَّ المسلمين لم يتسبَّبوا في كوارث العالم البيئيَّة، وعلى الرغم من أنهم لا حول لهم ولا قوَّة في التأثير العالمي إلَّا أنَّ الهجوم على الإسلام قائم، بل ويزيد ويتصاعد وتشتد ضراوته.
أصبح المنهج الرباني الشامل الكامل القادر على حلِّ مشكلات الإنسانية محاصرًا وغير مسموح له بالعطاء، ولو استطاعوا لما سمحوا له بالبقاء، كما قال ربنا تبارك وتعالى:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
في ظلِّ هذه الصورة القاتمة نتساءل: أين المسلمون الذين ينبغي أن يتكلَّموا عن ذلك المنهج الإلهي بألسنتهم، وأن يكتبوا عنه بأقلامهم؟
إنَّ جهل المسلمين بدينهم وما فيه من روائع مشكلة أخرى وكبرى تُضاف على عاتق العلماء والدعاة والمصلحين، ولقد وصف الله أهل الكتاب ممن يحملون الحق ولا يفقهونه بوصف شنيع، فقال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]. والخشية أن يكون هذا الوصف منطبقًا على أمَّة الإسلام.
من هنا كانت سعادتي كبيرة بكتابة هذا الموضوع؛ لأن الكتابة فيه تُحقِّق عددًا من الأهداف، فمشكلة البيئة مشكلة عالميَّة لا تقتصر على قومٍ دون قوم أو بلدٍ دون بلد، فحيث ثبت أن الإسلام يُقدِّم لها الرؤية والحل المناسبين، فذلك دليل على عالمية الإسلام. كما أن سبق الإسلام في عنايته بأمر البيئة -قبل أن يبدو للبشر أن البيئة قد تكون ذات يوم مشكلة- بحيث لا يكاد توجيهٌ من التوجيهات في الشرع الإسلامي الحنيف إلَّا ويُلامس موضوع البيئة بوجهٍ أو بآخر يثبت ربانية هذا الدين. كذلك فإنَّ حالة الجهل بالعطاء الإسلامي في هذا المجال والتي تشمل غير المسلمين وعامَّة المسلمين، بل أكاد أقول –أيضًا-: تشمل كثيرًا من الدعاة، كانت دافعًا آخر للكتابة في هذا الموضوع.
الحقيقة أنني لا أستثني نفسي من هذا الأمر؛ فلقد بدأت هذا الموضوع وفي ذهني القواعد والأصول الشرعيَّة وعدد من الوصايا القرآنيَّة والنبوية وبعض أقوال العلماء، ولكن البحث والتنقيب في تراثنا الفقهي الهائل كان دائمًا ما يزيدني انبهارًا وإعجابًا وإيمانًا كذلك، إلى الحدِّ الذي اضطرني إلى مقاومة الرغبة في التوسع والتفصيل ساعيًا نحو الإيجاز ما استطعت، وبدا لي بوضوح كيف أنَّ الشريعة التي نزلت لتنظيم حياة الناس على هذا العالم ضمَّت بين جنباتها ما يجعله أصلح وأنفع البيئات لحياتهم.
قد ازددت إدراكًا لهذا المعنى الجديد للعبادة في قوله تعالى:{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ فالله عز وجل خلق آدمعليه السلام وجعله خليفة في الأرض، وأمر الملائكة أن تسجد له، وكرَّمه وعظَّمه ورفعه، وعلَّمه الأسماء كلها فأصبح مؤهلاً -بهذا العلم- أن يعمر الأرض.
لم يتفوَّق آدمعليه السلام على الملائكة بطول قيامٍ، ولا بكثرة ذكرٍ أو تسبيحٍ، ولا بقوةٍ خارقة، ولا بطاعةٍ مطلقة. فهذه الأمور كلُّها ممَّا تتفوق فيها الملائكة بلا منازع، وإنَّما تفوَّق عليهم فقط في هذا العلم الذي جعله مستطيعًا لصورةٍ جديدة من صور العبادة، وهي التعمير والبناء والإنماء؛ ومن أجل ذلك رفعه الله عز وجل فوق مصافِّ هؤلاء الملائكة العِظام، وفضَّله عليهم، بل وأسجدهم له، فاستحق بهذا أن يكون خليفة الله في الأرض.
يقول تعالى في تقرير ذلك:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة: 30 - 34].لقد تعامل الإسلام مع قضية البيئة على مستويين، فوضع قواعد عامَّة وأصولًا كبيرة تنتظم تحتها كلُّ ما يستجد في حياة البشر من أحداث وما يعتريهم من مشكلات، ثم وضع -أيضًا- كثيرًا من التفاصيل -وهذه حفلت بها السُّنَّة على وجه الخصوص- التي لا يلحقها التغير على طول الزمان؛ كإماطة الأذى، والنهي عن التبوُّل في الماء الراكد، والأمر بتغطية الآنية.
لقد كان من أثبت أدلَّة خلود المنهج الإسلامي وصلاحيته لكلِّ العصور ما تحقَّق في عصور الحضارة الإسلامية المختلفة من حسن استعمال المسلمين لمصادر البيئة، سواءٌ بالاستثمار أو بالحماية، وعلى قدر ما كانت قضيَّة البيئة في التشريع الإسلامي ثورة وقفزة على ما قبلها من الأفكار كانت –أيضًا- سابقة على ما حدث بعدها حين ضعف المسلمون وتركوا منهجهم الرباني، فاستعلى عليهم غيرهم وساد على هذه الأرض، فكان أن{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41].
ختامًا، أسأل الله عز وجل أن ينفع الأمَّة الإسلاميَّة بكلِّحرفٍ في هذه المقالات، وأن يقرَّ أعيننا برؤية أمَّتنا عظيمة رائدة، وأن يجعل ذلك كله في ميزان حسنات كل من ساهم في هذا العمل أو استفاد منه.
والله سبحانه وتعالى من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
د.راغب السرجاني