كلمات عن الصبر
الصبر نصف الدين، وطريق التمكين وصفة المؤمنين على التعيين، وحسبهم قول ربهم: ﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]، ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]، وفي هذا أعظم ترغيب للراغبين؛ قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126].
والصبر ثلاثة أنواع: وكل نوع له معناه الخاص به:
1- الصبر على المأمور (الطاعة): القيام بحق العبودية والمحافظة عليها، وهو الصبر الأعلى، فمن حقَّقه حقَّق النوعين الآخرين، فجميع الطاعات بجميع أشكالها تحتاج إلى صبر؛ قال تعالى: ﴿ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾ [مريم: 65]، ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [طه: 132]، ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ ﴾ [يونس: 109]، ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾ [الكهف: 28]، وفي الحديث: (والصبر ضياء)؛ (رواه مسلم)، يُضيء الطريق ويضيء القلب، ويُرضي الرب.
وأعظم مثل للصبر على الطاعة: ما كان من خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام - بأبي هو وأمي - ومن يصبر صبره؟! يأمره الله تعالى بجعل ولده وامرأته في مكان قفرٍ، لا أنيس فيه ولا جليس، فيطيع ويصبر، يأمره بذبح ولده فيطيع ويصبر، يُلقى في النار فيصبر!
قال ابن عباس: ما قام أحد بدين الله كله إلا إبراهيم، قدَّم بدنه للنيران، وطعامه للضيفان، وولده للقربان[1].
بل انظر إلى صبر ولده: قال تعالى: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102].
2- الصبر عن المحظور (المعصية): كف النفس عما حرَّم الله، وثباتها في مقاومة الهوى والشهوات، فكما أن الطاعة تحتاج إلى صبر في أدائها، كذلك المعصية تحتاج إلى صبر في اجتنابها؛ ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35]، ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142].
وفي الحديث: (يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه، كالقابض على الجمر)؛ (صحيح الترمذي).
والسبب في ذلك كثرة الفتن وانتشار المعاصي والمنكرات، والمجاهرة بها، وجعلها من الأمور العادية، حتى أصبح كثير من الآباء يرون أبناءهم وبناتهم عاكفين على الأفلام والمسلسلات، والقنوات الفضائية المليئة بالأغاني والرقص والعري، ولا يحركون ساكنًا، وإذا أنكرت منكرًا واحدًا من هذه المنكرات العظيمة، سمعت الكلمة الخبيثة التي شب عليها الكبير، وهرم عليها الكبير، وهي (عادي)!!
الصبرَ الصبرَ عباد الله عن معاصي الله:
قيل لوهيب بن الورد: هل يذوق حلاوة الإيمان من عصى، قال: ولا مَن هَمَّ[2].
قال ميمون: الصبر صبران: صبر على المصيبة، وأفضل منه الصبر عن المعصية [3].
الصبر مثل اسمه مُر مذاقتُه ♦♦♦ لكن عواقبه أحلى من العسل
3- الصبر على المقدور (البلاء):
﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
عُزِّيَ بعض السلف في مصيبة، فقال: ما لي لا أصبر وقد وعدني الله مع الصبر ثلاث خصال، كل خصلة خير من الدنيا وما فيها[4].
ففي الحديث: (ما يزال البلاء ينزل بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)؛ رواه أحمد وابن حبان، والبيهقي في الكبرى، وغيرهم، وصحَّحه الألباني في الصحيحة.
كيف يجاهد الإنسان نفسه على الصبر بأنواعه؟
1- الاستعانة بالله: قال الله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [النحل: 127].
2- الاستشعار الدائم أنك ما جئت في هذه الدار إلا لعبادة الله الملك القهار: قال تعالى: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96].
3- ملاحظة حسن جزاء الصابرين عند رب العالمين: قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، وقال تعالى: ﴿ نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [العنكبوت: 58، 59].
4- علم العبد بقبح المعصية وسوء عاقبتها، يُصبره عن فعلها.
5- علم العبد أن الصبر عن المعصية أسهل من الصبر عن عاقبتها، وبيان ذلك أن امرأة مستحسنة مَرَّت على رجلين، فلما عرضت لهما، اشْتَهَيَا النظر إليها، فجاهد أحدهما نفسه، وغض بصره، فما كانت إلا لحظة ونسي ما كان، وأوغل الآخر في النظر، وهو معنى قول بعضهم: "ولَلَصَّبْرُ اليوم عن معاصي الله خير من الصبر على الأغلال"[5].
6- أن يعلم العبد أن الدنيا دار بلاء وابتلاء، لا دار نعيم ورخاء.
7- أن يعلم العبد أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة، وأن حلاوة الدنيا هي بعينها مرارة الآخرة.
8- أن يعلم أن تشديد البلاء يخص الأخيار.
9- اليقين بفرج الله؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6].
وقال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)؛ (رواه الترمذي وصححه الألباني).
10- التأسي بأهل المصائب.
11- حمدُ الله على أن المصائب ليست في الدين؛ فمن سلِم له دينه، فالمحن في حقه مِنَحٌ، والبلايا عطايا، لكن المصيبة العظمى والكسر الذي لا يُجبر، والعثرة التي لا تقال، هي المصيبة في الدين.
وكل كسرٍ فإن الدينَ يَجبره ♦♦♦ وما لكسرِ قناةِ الدينِ جُبرانُ
[1] الإنسان بين علو الهمة وهبوطها؛ علي نايف الشحود ج2 ص57.
[2] الجامع لشعب الإيمان ج5 ص447.
[3] عدة الصابرين؛ ابن القيم ص71.
[4] عدة الصابرين ص73.
[5] روضة المحبين ونزهة المشتاقين ابن القيم ص396، وذم الهوى؛ ابن الجوزي ص61.