إجلال الله عز وجل

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من إجلال الله: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسِط))؛ رواه أبو داود.

إجلال الله تعالى:
‏(إن من إجلال الله)؛ أي: تبجيله وتعظيمه؛ فالله تبارك وتعالى الحقيق وحده دون سواه بأن يُعبد ويُوحد ولا يُجحَد، وأن يُطاع ويُشكر ولا يُكفر، وأن يُدعى ويُرجى، ويُتوكَّل عليه، وأن يُخلَصَ له العمل، وتُسلم له النفوس، وأن تُذعن له القلوبُ، وتَعنو له الوجوه؛ قال تعالى: ﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 74].
ذلكم الله ربي وربكم، ما في الكون من خلقٍ إلا وهو شاهدٌ على عظمته وقدرته، هو الحيُّ الغنيُّ القويُّ، الذي تتصاغر أمام قوته كلُّ قوة، ويتضاءل عند ذكر عظمته كلُّ عظيم، الملائكة يخافونه من فوقهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهم من خشيته مشفقون.

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حَبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، إن الله يُمسك السماوات يوم القيامة على أصبع، والأرَضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يَهُزُّهنَّ، فيقول: أنا الملك، أنا الله، فضحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا مما قال الحبر تصديقًا له، ثم قرأ: ((﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67]))؛ متفق عليه.

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقةٍ مُلقاة بأرض فَلاةٍ، وفضل العرش على الكرسي كفضلِ تلك الفَلاةِ على تلك الحلقة))؛ أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب العرش، وصحَّحه الألباني.
ألا فاتَّقوا الله ربكم، وابذُلوا الجهد في معرفته وحبه، والذل له والخضوع لكبريائه، اتقوه حقَّ التقوى، فأطيعوه بلا عصيانٍ، واذكروه بلا نسيانٍ، واشكروه بلا كُفران، احفظوا الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكَّروا الموت والبِلى، وعظِّموا الشرع والشعائر والحرمات، ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30]، ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].

ومَن سُئل بالله تعالى أو بوجه الله عز وجل، فليُعطِ وليُجِب؛ لِما رواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن استعاذكم بالله فأَعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأَجيبوه، ومن منَح إليكم معروفًا فكافِئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تَروا أنكم قد كافأتموه))؛ صححه الألباني في صحيح الجامع، وفي رواية: ((مَن سألكم بوجه الله)).

قال في عون المعبود: ومن سألكم بوجه الله - أي: شيء من أمور الدنيا والآخرة أو العلوم - فأعطوه إجلالًا لِما سألكم به.
وروى الطبراني من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ملعون مَن سأل بوجه الله، وملعون مَن سُئل بوجه الله، ثم منع سائلًا ما لم يسأل هُجرًا))؛ حسَّنه العراقي، ثم الألباني في صحيح الجامع؛ أي: ما لم يسأل فُحشًا.

والمراد من قوله صلى الله عليه وسلم: ((ملعون مَن سأل بوجه الله))؛ أي: مَن سأل المخلوقين، أو سأل أمرًا من أمور الدنيا؛ كما بيَّنه الحافظ العراقي، ونقَله عنه المناوي في "فيض القدير"، والحاصل أنه يجب على الإنسان الاحتراز من سؤال المخلوقين بوجه الله، وأن على مَن سُئل بالله أو بوجهه الكريم أن يجيب ويعطي إجلالًا لله تعالى.

إكرام ذي الشيبة المسلم:
(إكرام ذي الشيبة المسلم)؛ أي: تعظيم الشيخ الكبير صاحب الشيبة البيضاء الذي عمره في الإيمان، وتوقيره في المجالس، والرفق به، والشفقة عليه؛ أي: مِن جملة إجلال الله وتوقيره أن يُكرم موضع وقاره وهو شيبة المسلم، ولهذا السر قال الخليل - وقد رأى الشيب، وكان أول مَن شاب -: ما هذا يا رب؟ قال: وقار يا إبراهيم، قال: يا رب زِدني وقارًا.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فأبطأ القوم عنه أن يُوسعوا له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا مَن لَم يَرحَم صغيرَنا، ويوقِّر كبيرنا))؛ صحَّحه الألباني في صحيح الترمذي، وصحيح الأدب المفرد.

إكرام حامل القرآن:
(وحامل القرآن)؛ أي: قارئه، وقيل: حافظه، وسماه حاملًا له؛ لِما يحمل مِن مَشاقَّ كثيرةٍ تزيد على الأحمال الثقيلة، وقال القاري: أي وإكرام قارئه، وحافظه، ومُفسره.
(غير الغالي فيه): الغلو: التشديد ومجاوزة الحد؛ أي: غير المتجاوز الحدَّ في العمل به، أو يَبتدع ويُحمل القرآن ما لا يَحتمله، ويُحكم رأيه في القرآن، ويأخذ من القرآن ما يوافق هواه، ويفتي بالهوى فيه، أو يغالي في حدود قراءته ومخارج حروفه.

(والجافي عنه)؛ أي: التارك له، البعيد عن تلاوته، والعمل بما فيه، والجفاء: أن يتركه بعدما علِمه، ولا سيما إذا كان نسِيه، فإن حدَث هذا عُدَّ من الكبائر، ومنه الحديث: ((اقرؤوا القرآن، ولا تَجفوا عنه))؛ أي: تعاهدوه ولا تَبعدوا عن تلاوته، بأن تتركوا قراءته، وتشتغلوا بتفسيره وتأويله.

إكرام ذي السلطان المقسط:
(وإكرام ذي السلطان)؛ سلطان؛ لأنه ذي قهر وغلبة، من السلاطة، وهي التمكن من القهر؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [النساء: 90]، ومنه سُمِّي السلطان، وقيل: ذي حجة؛ لأنه يقام به الحجج، (المقسط): العادل في حكمه بين رعيَّته.

وإنما كان إجلال ذي السلطان المقسط؛ لأنه يرى السلطة غُرمًا لا غُنمًا، فيَبسُط العدل بين الناس على تفاوت أقدارهم، فتنشأ الرعية على الولاء للأوطان، ويجتهد أفرادها في نهضتها، ولذلك تجد نهضة أي أمة في الماضي والحاضر معقودة على السلطان المقسط ابتداءً، فالحضارات تُبنى من أعلى - من الرأس - وإنما يأتي دور الشعوب مكمِّلًا لتوجهات القيادة الراشدة.

وبوجه عام فتوقير أهل الفضل من مكارم هذا الدين الحنيف، وبه نطقت الكثير من النصوص النبوية المباركة:
فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليَلِنِي منكم أُولو الأحلام والنهي، ثم الذين يَلونهم - (ثلاثًا) - وإياكم وهَيْشات الأسواق))؛ رواه مسلم؛ أي: المنازعة، والخصومات واللغط، وارتفاع الأصوات التي توجد بالأسواق غالبًا.

وعن أبي يحيى سهل بن أبي حَثْمة الأنصاري رضي الله عنه قال: انطلق عبدالله بن سهل ومُحيصة بن مسعود إلى خيبر - وهي يومئذ صلح - فتفرَّقا، فأتى مُحيصة إلى عبدالله بن سهل وهو يَتشحَّط في دمه قتيلًا، فدفنه، ثم قدِم المدينة، فانطلق عبدالرحمن بن سهل ومُحيصة وحُويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبدالرحمن يتكلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (((كبِّر، كبِّر))، وهو أحدث القوم، فسكت، فتكلما، فقال: ((أتحلفون وتستحقون دم قاتلكم؟))، وذكر تمام الحديث؛ متفق عليه.

وقوله صلى الله عليه وسلم : (كبر كبر): معناه: يتكلم الأكبر.
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد يعني في القبر، ثم يقول: ((أيهما أكثر أخذًا للقرآن؟))، فإذا أُشير له إلى أحدهما، قدَّمه في اللحد؛ رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أراني في المنام أتسوَّك بسواك، فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر، فقيل لي: كبِّر، فدفعتُه إلى الأكبر منهما))؛ رواه مسلم.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ومن ذلك إذا قدمت الطعام مثلًا أو القهوة أو الشاي، فلا تبدأ باليمين، بل ابدأ بالأكبر الذي أمامك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا أراد أن يُعطيه الأصغر، قيل له: كبِّر، ومعلوم أنه لو كان الأصغر هو الأيسر، لا يذهب الرسول صلى الله عليه وسلم يعطيه إياه، فالظاهر أنه أعطى الأيمن من أجل التيامن، لكن قيل له: كبِّر؛ يعني: أعطِه الأكبر، فهذا إذا كان الناس أمامك تبدأ بالكبير، لا تبدأ باليمين، أما إذا كانوا جالسين عن اليمين وعن الشمال، فابدأ باليمين.

وبهذا يجمع بين الأدلة الدالة على اعتبار التكبير؛ أي: مراعاة الكبير، وعلى اعتبار الأيمن؛ أي: مراعاة الأيمن، فنقول: إذا كانت القصة كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان معه إناء يشرب منه، وعلى يساره الأشياخ وعلى يمينه غلام، وهو ابن عباس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للغلام: ((أتأذَن لي أن أعطيَ هؤلاء))، فقال الغلام: لا واللهِ، لا أُوثِر بنصيبي منك أحدًا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذا كان هكذا، فأعطِه مَن على يَمينك، أما الذين أمامك فابدأ بالكبير؛ كما تدل عليه السنة، وهذا هو وجه الجمع بينهما.
ثم إن الإنسان إذا أعطاه الكبير، فمن يعطي بعده؟ هل يعطي الذي على يمين الكبير ويكون عن يسار الصاب، أم الذي عن يمين الصاب؟!
نقول: يبدأ بالذي عن يمين الصاب، وإن كان على يسار الكبير؛ لأننا إذا اعتبرنا التيامن بعد مراعاة الكبر، فالذي على يمينك هو الذي عن يسار مقابلك، فتبدأ به، ما لم يسمح بعضهم لبعض، ويقول: أعطه فلانًا، أعطه فلانًا؛ فالحق لهم، ولهم أن يسقطوه، والله أعلم!

المصادر:
♦ وما قدروا الله حق قدره؛ عبدالله بن محمد البصري، شبكة الألوكة.
♦ عون المعبود بشرح سنن أبي داود.
♦ شرح رياض الصالحين؛ لابن عثيمين رحمه الله تعالى.
♦ فتاوى الشبكة الإسلامية، فتوى رقم 14141.