إغاثة المسلمين للكفار:
إنَّ مفهوم الإغاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسع من نصرته لفئةٍ مؤمنةٍ تمرُّ بأزمةٍ معيَّنةٍ تحتاج فيها إلى قدرٍ من المساعدة؛ بل يتَّسع المفهوم العملي للإغاثة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليشمل كلَّ نفسٍ إنسانيةٍ تُعاني من أزمةٍ أو من كرب، حتى مع ألدِّ أعدائه نجده صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم نظرة الداعية وليست نظرة المحارب أو السياسي، وما حدث من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش يُقدِّم الدليل العملي على رحمته وإغاثته لكلِّ مكروب؛ فعندما أسلم "ثمامة بن أثال" رضي الله عنه -وكان من سادات بني حنيفة، ومن كبار تجَّار القمح فيها- أقسم ألَّا تصل حبَّة حنطة منه إلى المشركين في مكَّة؛ لأنَّهم آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا أنْ يأذن رسول الله، قال ثمامة: لا وَاللهِ لا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
وبلغ الجهد بقريش؛ فمكة -كما هو معروف- بلادٌ جبليةٌ صحراويَّة، ليس فيها إمكانيَّات الزراعة، وتعتمد اعتمادًا كليًّا على ما كان يأتيها من ثمامة بن أثال رضي الله عنه.
وصمدت مكَّة حينًا، ولكنَّها ما لبثت أن انهارت، وأسرعت تجري إلى المدينة المنورة، متنازلةً عن كبريائها وغطرستها، راجيةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن لثمامة بن أثال في أن يبيع لهم الحنطة، قال زعماء مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
إنَّك تأمر بصلة الرحم.
فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة أن يُخَلِّيَ بينهم وبين الحمل إليهم[1].
وسيرته صلى الله عليه وسلم تدلُّ دلالة عمليَّة على عمق شعوره بمن يقع عليه ظلمٌ أو عنتٌ مهما كان دينه أو لونه أو جنسه، وهذا ما حدث منه صلى الله عليه وسلم عندما تحرَّك لنصرة قبيلة خزاعة -المتحالفة مع الرسول صلى الله عليه وسلم- بعدما خالفت بنو بكر (وهي القبيلة التي حالفت قريشًا بعد صلح الحديبية، ومِنْ ثَمَّ تجري عليها أحكام الصلح كاملة) الميثاقَ، ونقضت العهد، وقتلت رجالًا منها، بل لم تكتفِ بهذا القتل؛ ولكن تتبَّعتهم إلى داخل الحرم المكي، واستمرَّت في عمليَّة القتل هناك! ثم إنَّ قريشًا لم تقف موقفًا محايدًا في القضيَّة، ولكنَّها قامت بما هو أشنع من الحياد[2]؛ إذ أمَدَّتْ بني بكر بالسلاح، بل وقاتلت معهم في داخل الحرم![3].
فالجريمة مُرَكَّبة، والمخالفة عظيمة، فليس هذا قتيلًا واحدًا قد يُبَرَّرُ قتله أو يُعتَذَرُ عنه؛ إنَّما هم عددٌ كبيرٌ من القتلى، بلغ في بعض الروايات عشرين قتيلًا[4]، ثم إنَّ قريشًا شاركت في عمليَّة القتل في تهوُّرٍ ليس له معنى أبدًا غير الكيد لحلفاء المسلمين، وفوق كلِّ ذلك لقد لاذ رجال خزاعة بالحرم المكي الآمن، فاستمرَّت بنو بكر -وقريش معها- في عمليَّة القتل مخالفين بذلك كلَّ الأعراف والقوانين.
إنَّها لجريمةٌ شنيعةٌ حقًّا!!
واستنصرت خزاعة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا بد من موقفٍ جريءٍ عادل تجاه هذه القبيلة المظلومة، وكان لا بد من موقفٍ حازمٍ إزاء هذا النقض الصريح للمعاهدة، ومِنْ ثَمَّ كان قرار رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح مكَّة ونصرة خزاعة، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع وتأكَّد من الخبر إلى قريش فقال لهم: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَبْرَءُوا مِنْ حِلْفِ بَنِي بَكْرٍ، تَدُوا خُزَاعَةَ، وَإِلاَّ أُوذِنُكُمْ بِحَرْبٍ"[5].
هكذا كانت سيرته e في التكافل والإغاثة نبراسًا للعالمين، ونورًا يسير في ظلاله كلُّ من أراد رقيًّا وازدهارًا للأمَّة الإسلامية، وبهذه السيرة وحدها تُبنى الأمم على المحبَّة والألفة والتكافل والنصرة، وبغيرها تنهار وتصبح في ذيل الأمم، وعندما سار المسلمون على نهجه وتعاليمه سادوا العالم ونشروا الخير والرحمة في العالمين.
المصدر:
كتاب رحماء بينهم، للدكتور راغب السرجاني.
[1] ابن كثير: السيرة النبوية 4/92، وابن سعد: الطبقات الكبرى 5/550.
[2] كان يجب على قريش أن تقف في وجه حليفتها "بني بكر" لتُظهر حرصها على استمرار المعاهدة.
[3] ابن حجر: فتح الباري 6/285، وابن كثير: السيرة النبوية 3/526، والطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/153.
[4] ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/134.
[5] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 5/204.