المشروع الابتكاري ليس صنيعة المبتكر وحده، بل يسهم في صنعه جوقة من المنجزين تتراوح طبيعة أدوارهم بين ما هو إبداعي محض يتجاوز الواقع ويتحدى القيود وما هو تنفيذي محض يتعامل مع أدق التفاصيل من أجل إخراج المنتج إلى حيز الوجود. يقدم هذا المقال جوقة الابتكار العلمي التكنولوجي والتي تشكّل من عشرة من المنجزين نورد فيما يلي وصفًا موجزًا لطبيعة الدور الذي يضطلع به كل منهم، والمهام الأساسية التي يتطلبها هذا الدور، وقد ركز المقال على الابتكار الخاص باقتصاد المعرفة.
1 - المخترع Inventor
هو صاحب الفكرة، مطلق الشرارة، ذو البصيرة الثاقبة الذي يتخيل ما ليس قائمًا، ويصبو إلى ما هو أفضل وأجدى، وقد ظن كثيرون من أهل عصر تكنولوجيا الصناعة، ومؤسسات العلم الضخم وليدة هذا العصر، أن الاكتشاف العلمي سوف يسود وأن طبقة المخترعين في طريقها إلى الانقراض وتمادي البعض معلنًا موت المخترع، ويأتي عصر المعلومات ليثبت مدى خطأ هذا الظن، فهاهو المخترع يستعيد سابق مجده بعد أن كثرت المشكلات المستجدة التي أفرزها هذا العصر، والتي تحتاج إلى حلول مبتكر، ليسود الاختراع مرة أخرى حتى أوشك الموقف أن ينقلب إلى الضد، فهناك من يرى أن كثيرًا من الاكتشافات العلمية باتت أقرب إلى «الاختراع» وبات مشروعًا أن يتساءل المرء ما إذا كانت الرياضيات، وهي الركيزة الأساسية لتأصيل الاكتشافات العلمية، اكتشافًا أم اختراعًا، وذلك بعد أن أصبحت النظريات الرياضية الحديثة تقوم على افتراضات وعلاقات من اختراع المنظر الرياضي نفسه.
بقول آخر، إن عصر المعلومات يقلص ما كان يفصل فيما مضى بين الاختراع والاكتشاف وإن يكن قد استقر في الأذهان أن الاختراع ذو طابع فردي والاكتشاف ذو طابع جمعي فقد أوشك الاختراع بفضل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أن يصبح هو الآخر إنجازًا جمعيًا، وتتعدد الأمثلة من المشاركة في تطوير البرمجيات بأسلوب المصادر المفتوحة إلى المشاركة في تأليف القصص، وقد أصبح مألوفًا أن يصادف المرء في معارض الفنون «التشكيلية أعمالاً يسهم في تكوينها زوار المعرض.
وكما أن الحاجة هي أم الاختراع، وفقًا للقول الشائع، فإن الاختراع يمكن اعتباره أبًا الحاجات، فالاختراع غالبًا ما يولد حاجات لم يتوقعها أحد ولا حتى صاحب الاختراع نفسه، وخير شاهد على ذلك الهواتف النقالة والإنترنت، وليس ثمة غرابة في ذلك، إذا ما قورن الابتكار العلمي - التكنولوجي بنظير آخر من الابتكار الإنساني ألا وهو الإبداع الأدبي، حيث شاعت مقولة «يموت المؤلف ليحيا القارئ» كذلك يموت المبتكر التكنولوجي ليحيا المستخدم الذي يسهم بصورة مباشرة وغير مباشرة إذا ما راقت لنا هذه المقارنة، في تطوير المنتج المعرفي باستحداثه أساليب مبتكرة لاستغلاله، وهكذا تتخذ مقولة «موت المخترع» السالفة الذكر معنى أكثر عمقًا وإيحاء.
2 - المحقق Realizer
هو المهندس التطبيقي الذي يضطلع ببلورة الفكرة المجردة في صورة ابتكار فعلي، وبشكل أكثر تحديدًا، المحقق هو المصمم وواضع الإطار العام، وهو مَن يقيم الهياكل الأساسية ويبني النماذج الإيضاحية، وبغرض إبراز الفرق بين مخترع الفكرة ومحققها نورد هنا بعض الأمثلة:
المثال الأول: تطلب تطبيق فكرة استخدام طاقة البخار كمصدر للقوى المحركة «محققا ابتكاريًا» ليبلور الفكرة في صورة مكابس يدفعها ضغط البخار داخل أسطوانات في حركة ترددية، وآلية لتحويل هذه الحركة المستقيمة إلى حركة دائرة، ومنظم سرعة يمنع تجاوز سرعة الآلة البخارية الحدود القصوى المسموح بها، ثم جاء محقق ابتكاري آخر ليستخدم التوربينات التي يمكن من خلالها تحويل طاقة البخار بشكل مباشر إلى حركة دائرية.
المثال الثاني: لم يكن توماس إديسون هو المخترع الأصلي لفكرة استخدام الطاقة الكهربية في الإنارة بل كان هو المحقق الابتكاري الذي ترجم الفكرة إلى منظومة من شبكات الكابلات والمحولات والعوازل وقواطع التيار، وما شابه.
المثال الثالث: لم تكن فكرة استخدام انشطار الذرة كمصدر لتوليد الطاقة لترى النور لولا التصميم الابتكاري الذي وضعه المهندس الإيطالي إيريكو فيرمي لإطلاق «الزناد الذري» - إن جاز القول - الذي يفجّر سلسلة ردود الفعل للانشطار النووي، وهو ما مكّن الولايات المتحدة من صنع أول قنبلة ذرية، قنبلة هيروشيما.
المثال الرابع: كان من الممكن أن يظل ذلك المنطق الرياضي الذي اخترعه «جورج بوول» حبرًا على ورق لولا أن تحوّل على يد «كلود شانون» أساسًا لتصميم الدوائر الكهرومغناطيسية، ومن بعدها الدوائر الإلكترونية.
3 - المتحقق Verifier
هو الباحث الذي يتحقق من أصالة الفكرة، ومدى جدارتها العلمية وجدواها الاقتصادية، ويتطلب ذلك - أول ما يتطلب - التأكد من عدم وجود أفكار مطابقة أو مشابهة للفكرة رهن البحث، وذلك من خلال استقصاء دقيق في مصادر المعلومات وعلى رأسها الإنترنت، التي أثبتت مدى صعوبة أن يأتي المرء بفكرة جديدة تمامًا، وقد أدى ذلك بدوره إلى صعوبة مهمة المتحقق حيث يجب عليه أن ينقّب بدقة في أرجاء فضاء الويب، الظاهر والخفي، مع الأخذ في الاعتبار أن الأفكار ذات المغزى التكنولوجي أصبحت محاطة بالسرية الشديدة من قبل أصحابها ، وهو ما يضطر أحيانًا للجوء إلى طرق مبتكرة للتجسس العلمي المشروع، ويمكن لشبكات التواصل الاجتماعي مثل الـ«فيس بوك» أن تسهم بدور فعّال في هذا الخصوص من خلال ما يطلق عليه أحيانًا «الترشيح الجمعي» لتصفية الأفكار.
4 - الممكن التكنولوجي Tech enabler
هو الخبير التكنولوجي الذي يمكنه تحويل الإطار العام للابتكار إلى حقيقة ملموسة. ويكرّس الممكن المتاح والملائم من التكنولوجيات ويولف بينها، ويضع المواصلات ويراعي المعايير القياسية ويختار أساليب الإنتاج ومواد التصنيع إن لزمت.
يتطلب ذلك - بداية - إلمامًا كافيًا بالتكنولوجيات المتاحة مصحوبًا بقدرة على المفاضلة بين البدائل التكنولوجية الممكنة، وذلك في ظل مبدأ أكّدت التجارب الواقعية مفاده أن الأكثر كلفة وتقدمًا ليس بالضرورة هو البديل الأفضل دومًا، فكثيرًا ما يكون الأرخص والأبسط هو البديل الأنسب والأجدى.
والممكن التكنولوجي المبدع هو القادر على التعامل مع القيود التكنولوجية ناظرًا إليها في الوقت ذاته كمصدر إلهام لمزيد من الابتكار، فعلى سبيل المثال كانت قيود الحيز المكاني الذي تشغله المكونات الإلكترونية التقليدية هي ما أدى إلى اختراع العديد من العناصر الميكروإلكترونية وفي مقدمتها التزانزيستور وشرائح الدوائر الإلكترونية المتكاملة.
إن تسارع إيقاع التطوير لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات يفرض على الممكن التكنولوجي ضرورة أن يتابع قدر المستطاع كل جديد تكنولوجي في مجال عمله مقرونًا بمجالات تطبيقه ومطالبه ومنافعه المتوقعة وآثاره السلبية المحتملة، فخطأ القرار التكنولوجي من قبل الممكن أصبح باهظ الكلفة. وما أكثر ما أصاب القِدَم مشروعات التطوير تكنولوجيات قبل أن تنجز بسبب تبني تكنولجيات تجاوزتها أخرى أكثر تقدمًا.
5 - متفهم مطالب المستخدم Customer anthropologist
هو الذي يتفهم بدقة مطالب العميل أو المستخدم، ويدرك ما يتوق إليه، ويعي بكل وضوح السياق الاجتماعي والتشغيلي والتنظيمي الذي سيطرح في إطاره المنتج الابتكاري الجديد.
وكان من الطبيعي أن تزداد أهمية الدور الذي يقوم به هذا المشارك الإبداعي في تطوير الابتكار العلمي - التكنولوجي لما له من أبعاد اجتماعية وثقافية تفرض ضرورة تطويعه لتلبية مطالب فئات متعددة ومتباينة من المستخدمين.
لقد أصبح تحديد الاحتياجات بالنسبة للمنتج المعرفي من أصعب المهام نظرًا لعامل الجدة ومن ثم عدم توافر بيانات سابقة في كثير من الأحيان يمكن الاستهداء بها، فضلاً عمّا يتطلبه إضفاء الطابع الشخصي من تفصيل المنتج وفقًا لمطالب الفرد المستخدم.
لقد أصبح تحديد الاحتياجات على درجة عالية من الصعوبة يتعذر تذليلها دون أساليب منهجية منضبطة، ويفسر ذلك بزوغ مصطلح «هندسة الاحتياجات، ويطمح بعض التكنولوجيين إلى أن ترقى النظم الأتوماتية يومًا إلى حد الانتقال المباشر من تحديد الاحتياجات إلى تصنيع المنتج دون حاجة إلى توسيط عملية «التصميم».
6 - المتشوف Visionary
هو صاحب الرؤية الذي يتشوّف العالم، أي يتوق لرؤيته، كما يجب ويمكن أن يكون، يرى الأمور في سياقها الشامل، ويفترض السيناريوهات ويتصور العالم أو الظروف التي ستحيط بإطلاق الابتكار العلمي - التكنولوجي، ويولد لدى فئات الجماهير المستهدفة الشعور بالحاجة لاقتناء المنتج المرتقب.
ويرجع الفضل في معظم ما حققته المجتمعات والمؤسسات إلى أصحاب الروئ النافذة، فلولا رؤية «بيل جيتس» - على سبيل المثال - أن الكمبيوتر الشخصي ونظم تشغيله سوف تقهر الحواسيب الضخمة، ما كان كل هذا النجاح الذي حققته شركة «ميكروسوفت» عملاق صناعة البرمجيات، وتأتي شركة «جوجل» من بعده لتحقق نجاحها المذهل عندما تبنت رؤية مفادها أن محتوى المعلومات هو الملك، ولم ينقذ شركة أبل من الانتكاسة التي منيت بها على إثر انتشار الحواسيب الشخصية المتوافقة مع نظام «آي.بي.أم» سوى تلك الرؤية المبتكر لمؤسس أبل «ستيف جوبز» في كيفية توزيع هذا المحتوى في وسائط إلكترونية مصغّرة ومساعدات رقمية شخصية تجمع بين قدرات الهاتف النقال وحاسوب كف اليد.
بناء على ما سبق يجوز القول إن المعارك التكنولوجية الضارية التي تشهدها الساحة المعلوماتية هي في جوهرها صراع بين الرؤى وما أكثر المؤسسات العملاقة التي لقيت مصيرًا مروعًا لافتقاد أصحابها الرؤية الصائبة، وخير مثال على ذلك كيف خسرت شركة «آي.بي.إم» معركتها ضد ميكروسوفت لغياب الرؤية وتشبث حرسها القديم بتكنولوجيات ظنوا خطأ أنها قادرة على المنافسة والصمود إزاء أجيال الحواسيب الميكروية المتقدمة.
7 - المستشرف Futurecaster
هو القادر على أن يمد بصره ليرى آفاق التطور التكنولوجي ونمو الأسواق وحركة المجتمعات، وإذا كان التشوف تجاوزًا دافعه الطموح، فإن الاستشراف توقعًا طابعه التوازن والحذر.
ويقوم المستشرف بوضع النماذج التي تمكنه من استطلاع توجهات المستقبل من خلال الجمع بين التنبؤ باستخدام الأساليب والنماذج الإحصائية، والتخيل والتخمين المدروس والذي لا غنى عنه في حالة المنتج المعرفي الذي كثيرًا ما يطرح في الأسواق لأول مرة.
إن المستشرف يصوغ حالات محددة لاستثمار المنتج بغرض الحصول على الدعم المالي للمشروع واجتذاب رأس المال الغامر والذي لا يقدم على المجازفة ما لم يتم تجسيد فرص جني العائد الاستثماري خاصة بالنسبة لمنتج معرفي يتسم بدرجة عالية من عدم اليقين، وما أكثر الأفكار التي تبدو رائعة على الأوراق وكان مآلها الفشل في الأسواق.
ولاشك أن محاولات استطلاع آفاق المستقبل أصبحت عملية محفوفة بالمخاطر بسبب مفاجآت التكنولوجيا وتأرجح الأسواق، وتقلبات النظم المالية، لذا فالمنتج المعرفي الناجح هو الذي يتميز بسرعة تجاوبه ومرونة تكيّفه وانتهازيته في اقتناص الفرص، ومداومة أصحابه على أن يدفعوا للأسواق بنسخ جديدة معدّلة. فقدر المنتج المعرفي أن يعيش مهددًا بظهور منافس تكنولوجي يزيحه من الأسواق.
8 - المنتج Producer
هو الفارس الذي يرعى حشد الأفكار والطاقات، يدفع بها صوب الغاية المرسومة لها، ولتحقيق ذلك: على المنتج أن يفض التنازعات ويقيم التنظيمات ويعد الوسائل ويوفر الموارد البشرية ويراقب كيف يستغل أعضاء فريق الإنتاج أوقاتهم.
لقد أصبحت سرعة الإنتاج عاملاً حاسمًا لمواجهة المنافسة وتلبية مطالب الأسواق. واختصار المراحل (حرقها) ما بين تحديد الاحتياجات وإخراج المنتج في صورته النهائية، وقد طرأت تعديلات جوهرية على أساليب الإنتاج مثل التوزيع الجغرافي واتباع أسلوب التعهيد Outsourcing، ومثلما أدت تكنولوجيا المعلومات إلى النشر المكتبي وإنتاج الأفلام مكتبيًا ها هي التكنولوجيا النانوية تعدنا بمصانع مكتبية تمزج بين الأتوماتية الصلدة والليّنة وآليات التحكم الميكروية والروبوتات المعرفية.
9 - مزيل العقبات Roadblock Mover
هو مزيل العقبات التنظيمية والمالية والسياسية التي تعوق إخراج المنتج أو تسويقه، ويلجأ في ذلك إلى وسائل عدة تتراوح ما بين الحزم واللين، أو وفقًا للقول الشائع «ما بين المطرقة والقفاز المخملي»، وهو يساعد الناس على أن تعمل معًا بروح الفريق وأن يرشدهم إلى مواضع الاتفاق والاختلاف، وأن يوفقوا بين اهتماماتهم ومصالحهم، وأحيانًا ما يضطر هذا المنجز الابتكار إلى أن يطرح الدبلوماسية جانبًا إذا ا اقتضى الأمر ليصوب قوة موضعية لحسم عائق معين.
وتتعاظم أهمية دور هذا المبدع التنظيمي في المجتمعات النامية، حيث لا تتوافر عادة بيئة مواتية لتطوير الإنتاج العلمي - التكنولوجي، لذا فإن مهمته تنطوي على قدر كبير مما بات يعرف بـ«الإبداع الاجتماعي» القادر على التحاور مع القيود الداخلية والخارجية وتذليل العقبات في غياب التنظيمات والتشريعات ونقص الكوادر وغياب العمل بروح الفريق. بقول آخر إن هذا المبدع التنظيمي ذو مهمة مزدوجة لإزالة العقبات وسد الفجوات.
10 - الموصل Communicator
هو ناقل الفكرة إلى أذهان الآخرين خارج فريق المشروع، فهو الذي يوضح ويثري الأفكار، وهو الذي يكتب ويلقي الكلمات ويروي الأقاصيص والأهم من هذا كله هو دوره في إثارة خيال الآخرين، وما إن يتم له ذلك حتى تصبح مهمته الأساسية، ولاشيء سواها، هي تعليم المستفيدين على اختلاف فئاتهم، فلا يكفي للمنتج المعرفي أن يلقى به في الأسواق دون توعية وتدريب وترشيد.
وبناء على ما سبق، يمكن القول إن الموصل هو همزة الوصل بين مستخدمي المنتج ومطوّريه، لذا فهو يلعب دورًا محوريًا في تحسين المنتج وإذكاء قدرته على المنافسة.
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سيد مهدي حسب
