أهل الصُّفَّة.. دراسة حالة إغاثية:

هم خاصَّة النبي، وفيهم نزل قوله سبحانه وتعالى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273].

ويقول الشوكاني أنَّ المقصود بالفقراء في الآية هم أصحاب الصفة. فعن ابن عباس أنَّه قال في: "Ïلِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ": هم أصحاب الصُّفَّة. وعن مجاهد قال: هم مهاجرو قريش بالمدينة مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم أمروا بالصدقة عليهم"[1].

ولم يغب أصحاب الصُّفة عن فكر النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومًا، فكان يتعهَّدهم بنفسه فيزورهم ويتفقَّد أحوالهم، ويعود مرضاهم كما كان يُكثر من مجالستهم، ويُرشدهم ويُواسيهم، ويُذكِّرهم ويُعلِّمهم ويُوجِّههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته، فتكافل النبيُّ صلى الله عليه وسلم معهم بكلِّ الطرق التي تكفل لهم حياةً كريمة، وبوسائل متنوِّعة متعدِّدة، منها:

1- الإيواء:

مع استمرار تدفُّق المهاجرين إلى المدينة واختلاف طبيعة المدينة كمجتمع زراعي عن مكة ذات الطبيعة التجارية، عانى بعض المهاجرين من مشكلة الإيواء ففكَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم في إيجاد مأوى لهم، فكان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بعد ستَّة عشر شهرًا من الهجرة وبقاء حائط القبلة الأولى في مؤخِّرة المسجد حلاًّ من الحلول؛ حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم به فظُلِّل وأُطلق عليه اسم الصُّفَّة[2]، ولم يكن لها ما يستر جوانبها[3].

ولكثرة ما نزل بها من المهاجرين الفقراء سُمِّيت صُفَّة المهاجرين[4].

2- الطعام والشراب:

كما اهتمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإيوائهم اهتمَّ -أيضًا- بكفالة حاجاتهم من الطعام والشراب؛ فيقول أبو هريرة: أمرني النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن أدعو له أهل الصفة، فتتبَّعتهم حتى جمعتهم، فوضعت بين أيدينا صَحْفة فأكلنا ما شئنا وفرغنا، وهي مثلها حين وضعت إلَّا أنَّ فيها أثر الأصابع[5].

ففي بعض المرَّات سقاهم لبنًا، ومرَّةً أطعمهم جشيشة، ومرَّةً أخرى حيسة، وثالثة شعيرًا محمصًا، لكنَّهم نالوا في إحدى المرَّات الثريد[6].

وكثيرًا ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في إحدى حجرات أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ولم يكن يغفل عنهم مطلقًا؛ بل كانت حالتهم ماثلة أمامه؛ فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَرَّةً: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ سَادِسٍ"، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاثَةٍ وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَشَرَةٍ..."[7].

ومن شدَّة حرصه صلى الله عليه وسلم على أهل الصفة أنَّه رفض إعطاء فاطمة من سبيٍ أصابه ويترك أهل الصُّفَّة جوعى؛ فعن علي رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمـَّا زوَّجه فاطمة بعث معه بخميلةٍ ووسادةٍ من أَدَمٍ حشوها ليف وَرَحَيَيْنِ وسقاء وجَرَّتين، فقال عليٌّ لفاطمةٍ ذات يوم: والله لقد سَنَوْتُ حتى لقد اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه. فقالت: أنا والله قد طحنت حتى مَجَلَتْ يداي. فأتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: "مَا جَاءَ بِكِ أَيْ بُنَيَّةُ؟" قالت: جئت لأسلم عليك. واستحت أن تسأله ورجعت، فقال: ما فعلتِ؟ فقالت: استحييت أن أسأله. فأتيناه جميعًا، فقال عليٌّ: يا رسول الله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري. وقالت فاطمة: وقد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاء الله بسبي وسعة، فَأَخْدِمْنَا. قال: "وَاللَّهِ لاَ أُعْطِيكُمَا وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَطْوَى بُطُونُهُمْ لاَ أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي أَبِيعُهُمْ وَأُنْفِقُ عَلَيْهِمْ أَثْمَانَهُمْ". فرجعا فأتاهما صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفتهما، إذا غطت رءوسهما تكشَّفت أقدامهما، وإذا غطَّيَا أقدامهما تكشَّفت رءوسهما، فَثارا، فقال: "مَكَانَكُمَا"، ثم قال: "أَلَا أُخْبِرُكُمَا بِخَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَانِي؟" قالا: بلى. قال: "كَلِمَاتٌ عَلَّمَنِيهِنَّ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ: تُسَبِّحَانِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدَانِ عَشْرًا، وَتُكَبِّرَانِ عَشْرًا، وَإِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ"[8]. قال علي رضي الله عنه: فما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين[9].

ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم وحده هو الذي يشعر بما يعاني أهل الصفة من جوع وحاجة؛ بل وصل الأمر إلى تكافل المجتمع كله معهم؛ فيُروى أن محمد بن مسلمة الأنصاري وآخرين من الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يُخرِج كل واحد منهم قنوًا من بستانه حين ينضج التمر لأهل الصُّفة والفقراء، فوافق على ذلك، ووضع في المسجد حبلاً بين ساريتين، فأخذ الناس يعلقون الأقناء على الحبل، فربما اجتمع عشرون قنوًا وأكثر، وأنكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم على رجلٍ علق قنوًا فيه حشف، وأراد أن يكون التصدق بأطيب من ذلك[10].

3- التعليم:

كما تكافل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مع أهل الصُّفَّة تعليميًّا؛ فربَّاهم وقدَّم إليهم تعاليم الإسلام بنفسه، فكان ذلك عونًا لهم على الثبات على مبادئ الإسلام في وقتٍ يمرون فيه بأزمةٍ وشدَّة؛ فعن العرباض بن سارية -من بني سليم من أهل الصفة- قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقام فوعظ الناس ورغَّبهم وحذَّرهم وقال ما شاء الله أن يقول، ثم قال: «اعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَطِيعُوا مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ أَمْرَكَمْ، وَلاَ تُنَازِعُوا الأَمْرَ أَهْلَهُ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ، وَعَلَيْكُمْ بِمَا تَعْرِفُونَ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّكُمْ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَى نَوَاجِذِكُمْ بِالْحَقِّ"[11].

وسار بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على منواله في تعليم أهل الصُّفَّة؛ فعن عبادة بن الصامت قال: علَّمت ناسًا من أهل الصفة الكتابة والقرآن، فأهدى إليَّ رجل منهم قوسًا. فقلت: ليس بمال، وَأَرْمِي عنها في سبيل الله؛ لآتينَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه. فأتيته فقلت: يا رسول الله، رجلٌ أهدى إليَّ قوسًا ممَّن كنت أعلِّمه الكتابة والقرآن، وليست بمال، وأرمي عنها في سبيل الله. فقال: "إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا"[12].

4- الزواج:

ووصل اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الصفة إلى التفكير في تزويج من لم يتزوج منهم، فكان كثيرًا ما سأل عن أحوالهم ومدى قدرتهم على الزواج، وفي ذلك إشعار لهم بمدي اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بهم وبكل ما يكفل لهم حياة يشعرون في ظلها بالحب والاطمئنان؛ فعن ربيعة الأسلمي -وكان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم- قال: قال لي صلى الله عليه وسلم ذات يوم: "يَا رَبِيعَةُ، أَلاَ تَزَوَّجُ؟" قال: قلت: يا رسول الله، ما أحب أن يشغلني عن خدمتك شيء، وما عندي ما أعطي المرأة. قال: فقلت بعد ذلك: يا رسول الله، أنت أعلم بما عندي مني يدعوني إلى التزويج، لئن دعاني هذه المرة لأُجيبنَّه. قال: فقال لي: "يَا رَبِيعَةُ، أَلاَ تَزَوَّجُ؟" فقلت: يا رسول الله، ومن يزوجني؟ ما عندي ما أعطي المرأة. فقال لي: "انْطَلِقْ إِلَى آلِ فُلاَنٍ -حَيٍّ مِنَ الأَنْصَارِ وَكَانَ فِيهِمْ تَرَاخٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُزَوِّجُونِي فُلانَةَ". قال: فأتيتهم فقلت: إنَّ رسول الله أرسلني إليكم لتزوِّجوني فتاتكم فلانة. قالوا: فلانة؟ قال: نعم. قالوا: مرحبًا برسول الله ومرحبًا برسوله. فزوجوني.

فأتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله، أتيتك من خير أهل بيت صدقوني وزوجوني، فمن أين لي ما أعطي صداقي؟ فقال رسول الله: "يَا بُرَيْدَةُ الأَسْلَمِيُّ، اجْمَعُوا لَهُ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ". قَالَ: فَجَمَعُوا لِي وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فجمعوها فأعطوني فأتيتهم فقبلوها. فأتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله قد قبلوا، فمن أين لي ما أَوْلِمُ؟ قال: فقال رسول الله لبريدة: "اجْمَعُوا لَهُ شَاةً". قال: فجمعوا وقال لي: "انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ فَقُلْ لَهَا: فَلْتَدْفَعْ إِلَيْكَ مَا عِنْدَهَا مِنَ الشَّعِيرِ". قال: فأتيتها فدفعت إليَّ، فانطلقت بالكبش والشعير. فقالوا: أمَّا الشعير فنحن نكفيك، وأمَّا الكبش فمر أصحابك فليذبحوه. وعملوا الشعير فأصبح والله عندنا خبزٌ ولحم[13].

فقد تكافل المجتمع كلُّه من أجل فقيرٍ مسلمٍ يريد العفاف، وهكذا يجب أن تحيا المجتمعات.

المصدر:

كتاب رحماء بينهم، للدكتور راغب السرجاني.

[1] الشوكاني: فتح القدير 1/443.

[2] انظر في معنى اسم الصفة: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/145، النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 13/47.

[3] ريكندوف: دائرة المعارف ص105.

[4] انظر: أبا داود: كتاب الحروف والقراءات (4003)، والطبراني في الكبير (999)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه راو لم يسم وقد وثق وبقية رجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد (10874).

[5] القاضي عياض بن موسى اليحصبي: الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/292-293.

[6] انظر في هذا: ما رواه الإمام أحمد (15582)، وأبو داود (5040)، والطبراني في الكبير (208)، والبيهقي في السنن الكبرى (6619)، وأبو نعيم في الحلية 2/33. انظر أيضًا: السمهودي: وفاء الوفاء 1/323.

[7] البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة (3388)، ومسلم: كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره (2057).

[8] رواه أحمد (838)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن.

[9] محب الدين الطبري: ذخائر العقبى 1/105، 106.

[10] انظر: أبو داود: كتاب الزكاة، باب ما يجوز من الثمر في الصدقة (1608 )، والترمذي (2987) وقال: حديث حسن غريب صحيح. والنسائي (2493)، وابن ماجه (1821)، وأحمد (24022)، والحاكم (3126)، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الترغيب والترهيب (879). والحشف: الفاسد من التمر.

[11] رواه الحاكم (330) وقال: صحيح على شرطهما، ولا أعرف له علة. ووافقه الذهبي.

[12] أبو داود: كتاب الإجارة باب في كسب المسلم (3416)، والحاكم (2277) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن أبي شيبة (20843)، والبيهقي في السنن الكبرى (11461)، وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح أبي داود (2915).

[13] أحمد (16627)، والطبراني في الكبير (4578)، وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، وفيه مبارك بن فضالة وحديثه حسن، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد (4578).