0
في الآونة الأخيرة يمكن القول أنّ النظرة للطب النفسي اختلفت قليلًا وتطورت بعض الشيء؛ بسبب تيقن الأشخاص من حاجتهم إلى الطبيب النفسي في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها الوطن العربي، والحروب التي تترك آثارها على كل الأشخاص والأطفال خصوصًا، وجهل طويل الأمد ظهرت نتائجه في الجيل الحالي بشكل واضح للغاية مع الانفتاح على العالم بطريقة لم يؤهل لها أحد، ودخول وسائل التواصل الاجتماعي وشبكات الإنترنت، حيث صار كل شيء معروضًا، وصار الجميع يمكن أن يعرف كل شيء بضغطة زر… كل هذه التطورات السريعة لم يكن ليحتملها حاسوب متطور، فكيف بإنسان ذو تركيبة نفسية هشة يمكن أن تحطمها كلمة وترممها أخرى!
ولكن يبقى في بعض المجتمعات حاجز كبير من الخرافات التي تمنع أفرادها من اللجوء إلى الطبيب أو المعالج النفسي، وتجعلهم يقبلون المرض والتعب النفسي، ويتحملون العيش فيه على الذهاب إلى الطبيب واستشارته.
الطبيب النفسي للمجانين فقط
لا أتخيل أنّنا في القرن الواحد والعشرين وتجاوزنا الألفية الثالثة ومازال هناك من يعتقد أنّ المرض النفسي كلمة مرادفة تمامًا للجنون، وأن الجنون ليس له سوى معنى واحد وهو التصرف بطريقة غريبة وغير متزنة طوال الوقت، وعدم القدرة على التحكم بالأفعال بشكل عقلاني، والحقيقة أنّ الجنون مشتقة من لفظ (جنّ) وتعني حجب أو ستر، أي أنّ المجنون قد حجب عقله وفقد القدرة على التفكير والسيطرة على انفعالاته … لكن ليس كل مرض نفسي هو الجنون بالتأكيد، فقائمة الأمراض النفسية والعصبية التي يمكن أن تسبب للمريض تصرفات غريبة تطول جدًا ليس أغربها الفصام أو الذهان.
والدراسات تكشف أن الكثير من الأمراض النفسية قد لا تؤثر على تصرفات الإنسان بشكل مباشر أو على تعامله مع الآخرين لكن يمكن للمقربين منه الشعور بالتغيير الذي يصاحبه في حياته اليومية.
الجو المريب في العيادة النفسية
ساهمت المسلسلات والأفلام في تشكيل فكرة خاطئة في لاوعي المشاهدين والجمهور، وذلك من خلال عرض عيادة الطبيب النفسي بجو الإضاءة الخافتة والشخصية المريبة للطبيب منفوش الشعر غريب الأطوار في فمه غليون أو سيجار كوبي فاخر طوال الوقت، وعلى المريض أن يتمدد على الشيزلونج أثناء الزيارة، بصراحة بالنسبة لي هذه الأجواء هي عبارة عن فيلم رعب وليست جلسة معالجة نفسية، والحقيقة أنّ الجو في العيادة النفسية مختلف تمامًا عن هذا، فهي مثل أي عيادة عادية يتكلم فيها المريض بما يشعر ويسأله الطبيب بضعة أسئلة ثم يخبره عن التشخيص، وقد تكون الجلسة عبارة عن حوار بينهما تساعد المريض على العلاج والطبيب على التشخيص المناسب.
المرض النفسي والشعوذة
ارتبطت أعراض المرض النفسي في الوعي الجمعي والثقافة الشعبية بالاعتقاد بحالات التلبس والاتصال بالجن، وهذه الأمور التي مازال البعض يعتقد بها، والحقيقة أنّه من الطبيعي أن يسمع بعض المرضى النفسيين أصواتًا غريبة، ويتهيَأ لهم أنّهم يكلمون أشخاصًا آخرين أو يتخيلون أنّهم أشخاص غيرهم والتصرف على هذا الأساس، وليس لأنّ هذا المريض يتلبسه جني ما ويتصرف من خلال جسده أو أنّ فتاة قد اقترن بها جني ما هام بها عشقًا، فصارت تظهر عليها آثار غريبة، ربما هي مصابة بالفصام وتتصرف بأمور تنساها ولا تعترف بها.
كثيرون ما زالوا يلجؤون إلى المشعوذين ومن يدّعون العلم والاتصال بعالم الجان، وقدرتهم على فك السحر وهذه الأجواء التي تمتلِئ بالريبة والشكوك، ويعتقدون أنّ العلاج النفسي هو إنكار للسحر والجن مما يتعارض مع معتقداتهم.
لا يمكن أن أبوح بأسراري لشخص غريب
يذكر لنا الدكتور أحمد خالد توفيق في إحدى رواياته عن متلازمة جار القطار، وهو الشخص الذي تجلس بجواره في رحلة القطار وتجد نفسك تحكي له كل أسرار حياتك لمجرد أنّك تعرف أنّك لن تلتقيه مجددًا. أعتقد أنّه محق إلى درجة كبيرة فالشيء الذي يغرينا في الذهاب إلى الطبيب النفسي أنّنا نعرف مسبقًا أنّه لن يحكم علينا، ولن يؤثر ما سنقوله أيًا يكن على حياتنا لاحقًا، وربما يكون في الفضفضة له راحة كبيرة لنا؛ لأنّه يزيح عن كاهلنا حِملًا ثقيلًا يتعبنا.
المعروف أنّ الطبيب النفسي يختص بأمر أهمية الاحتفاظ بحالة السرية لحالات مرضاه، بحيث لا يمكن بأي حال من الأحوال كشف هذه الأسرار حتى لأقرب أقارب المريض مالم يكن لهم علاقة بالعلاج، وإن كان هناك من انتهك ميثاق السرية أو استغل هذه الأسرار لابتزاز مريضه، فهي حالات تجاوز للقانون ولا يجب السكوت عنها.
المريض النفسي بعيد عن الله
يعتقد البعض استنادًا لآيات قرآنية وأحاديث شريفة وحتى مقولات من الكتب المقدسة أنّ المريض النفسي بعيد عن الله وهو ليس متدينًا بما فيه الكفاية، الحقيقة أنّ الآيات الكريمة لم تذكر المرض النفسي، ربما ذكرت الاطمئنان القلبي والراحة ولكن من قال أنّ هذا يعني أنّه سيكون خاليًا من المرض النفسي.
ربما علينا في البداية الاتفاق على تعريف للمرض النفسي، فهو ليس مجرد مشاعر سلبية ووساوس وهلاوس. لكن سببه الرئيس هي اختلال بهرمونات الجسم تسبب هذه الأعراض، ويتم العلاج من خلال الدواء لإعادة التوازن للجسم.
سأقول شيئًا صادمًا للبعض المرض النفسي يجعل المرء بعيد عن الله وليس العكس؛ لأنّه لن يكون بحال قادر على فهم سبب تلك العبادات والشعائر إذا كان حاله يزداد سوءًا، ولن يكون بحال نفسي تساعده على القيام بواجباته بشكل كامل وحالة تحفيز، المريض النفسي وخصوصًا مريض الاكتئاب يفقد القدرة على الاستمتاع بأي شيء في الحياة، وحتى الواجبات الدينية يقوم بها بشكل عادي وروتيني إذا لم ينقطع عنها.
الأدوية النفسية تسبب الإدمان
خرافة أخرى يتداولها الأشخاص تجعلهم يشعرون بالنفور والخوف من تناول الأدوية النفسية، حيث أنّه من الشائع أنّها تحسن الوضع بشكل مؤقت وحين الانقطاع عنها يعود الحال لما كان عليه، هذا الدواء مثله مثل أي دواء آخر يجب الالتزام بتعليمات الطبيب أثناء تناوله، والإفراط في تناول دواء ما سيؤدي إلى إدمانه أو الانقطاع المفاجِئ، وهو ما يفعله الكثيرون للأسف أيضًا يؤدي إلى الانتكاس.