هل يقبل المسلمون إغاثة الكفار لهم؟
منذ بدء الدعوة وكفار قريش يُساومون النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالمال والجاه والنساء وغيره من المغريات، ولكنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقف أمام هذه المغريات كالجبل الأشم مبلِّغًا رسالات ربِّه مؤمنًا بنصره، ولكنَّه صلى الله عليه وسلم لم يسلم من أذاهم، ووسط هذه المحن والابتلاءات قَبِل صلى الله عليه وسلم جوار عمِّه دون تفريط في مواصلة دعوته، فيقول ابن كثير في السيرة النبوية: "بعثت قريش أبا طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليردَّه عن دعوته الجديدة، فقال له: يابن أخي، إنَّ قومك قد جاءوني وقالوا كذا وكذا، فأبقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تُحمِّلني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك.
فظنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بَدَا لعمِّه فيه، وأنَّه خاذله ومُسْلِمه، وضعف عن القيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا عَمِّ، لَوْ وُضِعَتِ الشَّمْسُ فِي يَمِينِي وَالْقَمْرُ فِي يَسَارِي، مَا تَرَكْتُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلَكَ فِي طَلَبِهِ". ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى.
فلمَّا ولَّى قال له حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله صلى الله عليه وسلم: يابن أخي. فأقبل عليه، فقال: امضِ على أمرك، وافعل ما أحببت، فو الله لا أُسلمك لشيءٍ أبدًا.
قال ابن إسحاق: ثم قال أبو طالب في ذلك:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينًا
فامضِ لأمرك ما عليك غضاضة[1].
كما عرضت قريش على أبي طالب مبادلة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعمارة بن الوليد، ولكنَّ أبا طالب رفض طلبهم، على الرغم ممَّا يتعرَّض له من إيذاءٍ وسخريةٍ نتيجة هذا الجوار، فيروي ابن هشام أنَّ قريش قالت لأبي طالب: هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره، واتِّخذه ولدًا وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرَّق جماعة قومك، وسفَّه أحلامهم فنقتله، فإنَّما هو رجلٌ كرجل. قال: والله لبئس ما تسومونني! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا والله ما لا يكون أبدًا[2].
المطعم بن عدي وجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبعد موت أبي طالب خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم من مكَّة وما فيها من عنتٍ إلى الطائف؛ لعلَّ الله يشرح قلوبهم للإسلام، فلاقى فيها من الإيذاء ما لم يلقه من قبل، فطلب الجوار فلم يُجبه إلَّا المطعم بن عدي، فيذكر ابن هشام أنَّه: "لمـَّا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الطائف ولم يُجيبوه لما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته صار إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليُجيره، فقال: أنا حليف، والحليف لا يُجير. فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال: إنَّ بني عامر لا تُجير على بني كعب. فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه إلى ذلك، ثم تسلَّح المطعم وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنِ ادْخُل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلَّى عنده ثم انصرف إلى منزله[3]. وظلَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يذكر ذلك الفضل للمطعم بن عدي وفاءً منه صلى الله عليه وسلم.
ومن العجائب أنْ تُحرِّك العصبيَّة والحميَّة القبليَّة أبا لهب للدفاع عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم -وهو ألدُّ أعدائه- بعد موت عمِّه أبي طالب؛ فيروي ابن سعد في طبقاته: لمـَّا تُوُفِّي أبو طالب وخديجة بنت خويلد، وكان بينهما شهر وخمسة أيام، اجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان، فلزم بيته وأقل الخروج ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع به، فبلغ ذلك أبا لهب فجاءه فقال: يا محمد، امضِ لما أردت وما كنت صانعًا إذ كان أبو طالب حيًّا فاصنعه، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت[4].
وبلغ الأمر بأبي لهبٍ إلى محاربة مشركٍ من قريشٍ دفاعًا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ففي أحد الأيَّام تجرَّأ ابن الغيطلة وسبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فتحركت عصبيَّة أبي لهبٍ دفاعًا عن ابن أخيه. وعن ذلك يقول ابن كثير: "وسبَّ ابن الغيطلة النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه أبو لهبٍ فنال منه، فولَّى وهو يصيح: يا معشر قريش، صبأ أبو عتبة. فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب، فقال: ما فارقت دين عبد المطلب، ولكن أمنع ابن أخي أن يُضام حتى يمضي لِمَا يُريد. قالوا: قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم. فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك أيَّامًا يذهب ويأتي لا يتعرَّض له أحدٌ من قريش.
وهابوا أبا لهب، إلى أن جاء عقبة بن أبي معيط وأبو جهل بن هشام إلى أبي لهبٍ فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟ فقال له أبو لهب: يا محمد، أين مدخل عبد المطلب؟ قال: "مَعَ قَوْمِهِ". فخرج أبو لهب إليهما فقال: قد سألته فقال مع قومه. فقالا: يزعم أنَّه في النار. فقال: يا محمد، أيدخل عبد المطلب النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى مِثْلِ مَا مَاتَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ دَخَلَ النَّارَ".
فقال أبو لهب: لا برحت لك عدوًّا وأنت تزعم أنَّ عبد المطلب في النار.
فاشتدَّ عليه هو وسائر قريش[5].
لم يكن تكافل قريش خاصًّا بالرسول صلى الله عليه وسلم فقط بل تعدَّى الأمر إلى أصحابه؛ فالمجتمع المكي على الرغم ممَّا به من بُعد عن تعاليم الله سبحانه وتعالى فإنَّه كان به بقيَّةٌ من قيمٍ ومبادئ، منها جوار وكفالة المضطهد المظلوم؛ فيذكر ابن هشام: أنَّ أبا بكر الصديق قد اشتدَّ عليه بلاء قريش، فخرج أبو بكر مهاجرًا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيِّد القارة، فقال: أين تُريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأُريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي عز وجل. فقال ابن الدغنة: فإنَّ مثلك يا أبا بكر لا يَخْرج ولا يُخْرج، إنَّك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، فأنا لك جارٍ فارجع واعبد ربَّك ببلدك.
وكان مع أبي بكر الحارث بن خالد، فقال أبو بكر: فإنَّ معي رجلًا من عشيرتي.
فقال له ابن الدغنة: دعه فليمضِ لوجهه وارجع أنت إلى عيالك.
فقال له أبو بكر: فأين حقُّ المرافقة؟ فقال الحارث: أنت في حلٍّ فامضِ؛ فإنِّي سأمضي لوجهي مع أصحابي. فمضى حتى صار إلى الحبشة.
فرجع أبو بكر وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة في أشراف كفَّار قريش فقال: إنَّ أبا بكر لا يخرج مثله؛ أتُخرجون رجلًا يُكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكلَّ، ويُقري الضيف، ويُعين على نوائب الحق؟! فلم تُكذِّب قريش بجوار ابن الدغنة.
وفي رواية: فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربَّه في داره، وليُصلِّ فيها، وليقرأ ما شاء ولا يُؤذينا بذلك، ولا يستعلن به[6].
وتُظْهر لنا السيرة النبويَّة نماذج أُخر من النماذج المسلمة المضطهدة التي قبلت جوار أحد المشركين فترةً من الزمن، ثم ردَّته مرَّةً أخرى وقبولها بجوار الله عز وجل، فيذكر السهيلي في الروض الأنف: أنَّ عثمان بن مظعون لمـَّا رأى ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يغدو ويروح في أمان الوليد بن المغيرة قال: والله إنَّ غدوي ورواحي آمنًا بجوار رجلٍ من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يُصيبني، لنقصٌ كبيرٌ في نفسي. فمشى إلى الوليد فقال: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك وقد رددت إليك جوارك. قال: لم يابن أخي، لعلَّه آذاك أحدٌ من قومي؟ قال: لا، ولكنِّي أرضى بجوار الله عز وجل، ولا أُريد أن أستجير بغيره. قال: فانطلق إلى المسجد فاردد عليَّ جواري علانيةً، كما أجرتك علانيةً. فانطلقا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يردُّ عليَّ جواري[7].
وحرصًا من النبيِّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ومحافظةً على الفئة المؤمنة المستضعفة قليلة العدد؛ أمرهم بالهجرة إلى الحبشة؛ لأنَّ حاكمها ملكٌ عادلٌ لا يُظلم عنده أحد، فهاجر ثمانون رجلًا فرارًا بدينهم، ولمـَّا بلغ ذلك قريش أرسلوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد خلفهم، فقَدِمَا على النجاشي وقدَّما له هديةً كانوا قد جمعوها، وقال عمرو بن العاص للنجاشي: إنَّ ناسًا من أرضنا رغبوا عن ديننا، وهم في أرضك.
قال لهم النجاشي: في أرضي؟! قالا: نعم. فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلَّم منكم أحد، أنا خطيبكم اليوم. فانتهينا إلى النجاشي وهو جالسٌ في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره، والقسِّيسون جلوس سماطين، وقد قال له عمرو وعماره: إنَّهم لا يسجدون لك. فلمَّا انتهينا بَدَرنا من عنده من القسِّيسين والرهبان: اسجدوا للملك. فقال جعفر: لا نسجد إلَّا لله عز وجل.
فلمَّا انتهينا إلى النجاشي قال: ما منعك أن تسجد؟ قال: لا نسجد إلَّا لله.
فقال له النجاشي: وما ذاك؟ قال: إنَّ الله بعث فينا رسولًا، وهو الرسول الذي بشَّر به عيسى ابن مريم عليه السلام من بعده، اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نُشرك به شيئًا، ونُقيم الصلاة، ونُؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر.
فأعجب النجاشي قوله.
فلمَّا رأى ذلك عمرو بن العاص قال: أصلح الله الملك، إنَّهم يُخالفونك في عيسى ابن مريم.
فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟
قال: يقول فيه قول الله: هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر، ولم يَفْرِضْهَا ولد.
فتناول النجاشي عودًا من الأرض فرفعه، فقال: يا معشر القسِّيسين والرهبان، ما يزيدون هؤلاء على ما نقول في ابن مريم ولا وزن هذه! مرحبًا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنَّه رسول الله، وأنَّه الذي بشَّر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أُقبِّل نعليه، امكثوا في أرضي ما شئتم. وأمر لنا بطعامٍ وكسوة[8].
فكان تكافل النجاشي -ولم يكن أسلم بعدُ- مع المسلمين الفارِّين بدينهم نموذجًا فريدًا؛ فلم يُجبرهم على اعتناق دينه وإلَّا ردَّهم لبلادهم ليُعذَّبوا ويُضطهدوا؛ بل حماهم ونصرهم وكفل لهم حريَّة العبادة، فأصبح مضرب الأمثال في تكافل غير المسلمين مع المسلمين.
الحصار الاقتصادي (دراسة حالة):
تواصلت الابتلاءات والمحن على المسلمين، فقرَّر الطواغيت أن يُعلنوا الحصار الاقتصادي والاجتماعي والنفسي على المسلمين، فتتحدَّث كتب السيرة عن هذا الحصار الذي ظلَّ ما يقرب من ثلاثة أعوام فتقول: "ثم إنَّ المشركين اشتدُّوا على المسلمين كأشدِّ ما كانوا، حتى بلغ المسلمون الجهد واشتدَّ عليهم البلاء، وجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية.
فلمَّا رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب، وأمرهم أن يُدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شِعْبهم، وأمرهم أن يمنعوه ممَّن أرادوا قتله. فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حميَّة، ومنهم من فعله إيمانًا ويقينًا.
فلمَّا عرفت قريش أنَّ القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم ألَّا يُجالسوهم ولا يُبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يُسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودًا ومواثيق: لا يقبلوا من بني هاشم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسلموه للقتل"[9].
"وعُلِّقت الصحيفة في جوف الكعبة، وبقوا محبوسين ومحصورين مُضيَّقًا عليهم جدًّا، مقطوعًا عنهم الميرة والمادة نحو ثلاث سنين حتى بلغهم الجهد، وسُمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشِّعب"[10].
"وكان أبو طالب في طول مدَّتهم في الشِّعب يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي فراشه كلَّ ليلةٍ حتى يراه من أراد به شرًّا أو غائلة، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمِّه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها"[11].
واشتدَّ البلاء بالصحابة الكرام؛ فقد روي عن عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الشَّجَرِ حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا..."[12].
ويصف سعد بن أبي وقاص هذا البلاء قائلًا: "كنَّا قومًا يُصيبنا ظلف العيش بمكَّة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدته، فلمَّا أصابنا البلاء اعترفنا لذلك ومُرِّنَّا عليه وصبرنا له، ولقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة خرجت من الليل أبول، وإذا أنا أسمع بقعقعة شيءٍ تحت بولي، فإذا قطعة جلد بعيرٍ فأخذتها فغسلتها، ثم أحرقتها فوضعتها بين حجرين، ثم أستفها وشربت عليها من الماء فقويت عليها ثلاثًا"[13].
وقد نقض تلك الصحيفة الجائرة بعض أفرادٍ من قريش، كان لديهم بقيَّةٌ من بِرٍّ لأقاربهم وأهليهم، ومنهم: هشام بن عمرو بن ربيعة، "فكان يأتي بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشِّعْبِ ليلًا، قد أوقره طعامًا، حتى إذا أقبل به فم الشِّعْبِ خلع خطامه من رأسه، ثم ضرب على جنبه فيدخل الشِّعْبَ عليهم، ثم يأتي به قد أوقره بَزًّا فيفعل به مثل ذلك[14].
كما أنَّه مشى إلى زهير بن أبي أميَّة بن المغيرة[15]، فقال: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت! لا يباعون، ولا يُبْتَاع منهم، ولا ينكحون ولا يُنكح إليهم؟! أما إنِّي أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدًا. قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنَّما أنا رجلٌ واحد، والله لو كان معي رجلٌ آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها. قال: قد وجدت رجلًا. قال: فَمَنْ هو؟! قال: أنا. قال: أبغنا رجلًا ثالثًا.
فذهب إلى المـُطعم بن عدي فقال له: يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بَطْنان من بني عبد مناف، وأنت شاهدٌ على ذلك، موافقٌ لقريشٍ فيه؟! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنَّهم إليها منكم سِراعًا. قال: ويحك! فماذا أصنع؟ إنَّما أنا رجلٌ واحد. قال: قد وجدت ثانيًا. قال: مَنْ هو؟ قال: أنا. فقال: أبغنا ثالثًا. قال: قد فعلت. قال: مَنْ هو؟ قال: زهير بن أبي أمية. قال: أبغنا رابعًا.
فذهب إلى البختري بن هشام، فقال له نحوًا ممَّا قال لمطعم بن عدي فقال: وهل من أحدٍ يُعين على هذا؟ قال: نعم. قال: مَنْ هو؟ قال: زهير بن أبي أميَّة، والمطعم بن عدي، وأنا معك. قال: أبغنا خامسًا.
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد فكلَّمه، وذكر له قرابتهم وحقَّهم. فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم. ثم سمَّى له القوم، فَاتَّعَدُوا خَطْم الحَجون ليلًا بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك، فأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها. وقال زهير: أنا أبدَؤُكم فأكون أوَّل من يتكلَّم. فلمَّا أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أميَّة عليه حلَّة، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكَّة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكَى لا يُبَاعون ولا يُبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تُشقُّ هذه الصحيفة القاطعة الظَّالمة. فقال أبو جهل وكان في ناحية المسجد: كذبتَ، والله لا تُشق. فقال زمعَة بن الأسود: أنت والله أكذبُ، ما رَضينا كتابها حيث كُتبت. فقال أبو البخترِي: صَدَقَ زمعة، لا نرضى ما كُتب فيها ولا نقر به. فقال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب مَنْ قال غيرَ ذلك، نبرأ إلى الله منها وممَّا كُتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمرٌ قُضِيَ بليل تُشُووِرَ فيه بغير هذا المكان. فقام المـُطعم إلى الصحيفة ليشقَّها، فوجد الأرَضة قد أكلتها، إلَّا "باسمك اللهم"[16].
واشتدَّ حصار قريشٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُروى أنَّ أبا جهل بن هشام لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلامٌ يحمل قمحًا يُريد به عمَّته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، فتعلَّق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟! والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكَّة. فجاءه أبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم.
فقال له أبو البختري: طعام كان لعمَّته عنده بعثت به إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟! خَلِّ سبيل الرجل. فأَبَى أبو جهل -لعنه الله- حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لَحْيَ بعير فضربه به فشَجَّه ووطِئَه وطأً شديدًا[17].
على الرغم من شدَّة ما عاناه المسلمون في هذا الحصار فإنَّ نصر الله عز وجل أتاهم بعدما صبروا وثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكلت الأرضة ما في الصحيفة من ظلمٍ وجور، وفُكَّ الحصار عن المسلمين بفضلٍ من الله.
المصدر:
كتاب رحماء بينهم، للدكتور راغب السرجاني.
[1] ابن كثير: السيرة النبوية 1/463، 464، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 2/327.
[2] ابن هشام: السيرة النبوية 1/266، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/132، والسهيلي: الروض الأنف 2/8.
[3] ابن هشام: السيرة النبوية 1/381، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/179.
[4] ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/211.
[5] ابن كثير: السيرة النبوية 2/147، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 2/435، 436.
[6] ابن هشام: السيرة النبوية 1/372، والسهيلي: الروض الأنف 2/158.
[7] ابن هشام: السيرة النبوية 1/369، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 2/367، والسهيلي: الروض الأنف 2/155.
[8] ابن كثير: السيرة النبوية 2/12، 13.
[9] ابن كثير: السيرة النبوية 2/44.
[10] ابن القيم: زاد المعاد 3/20.
[11] ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/166.
[12] مسلم: كتاب الزهد والرقائق (2967)، وابن ماجه (2967)، وأحمد (20628)، والطبراني في الأوسط (2613)، وعبد الرزاق (20891)، وأبو نعيم في الحلية 1/93.
[13] الأصبهاني: حلية الأولياء 1/93.
[14] ابن هشام: السيرة النبوية 1/260.
[15] أمه عاتكة بنت عبد المطلب.
[16] ابن هشام: السيرة النبوية 1/260، 261، والطبري: تاريخ الأمم والملوك 1/408، وابن الجوزي: المنتظم 1/263، وابن كثير: البداية والنهاية 3/120.
[17] ابن هشام: السيرة النبوية 1/246، وابن كثير: السيرة النبوية 2/50، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 2/378.