بعث الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ونشر الرحمة والتعاون والحياة الكريمة للإنسانيَّة في ربوع الأرض، فربَّاه ربه سبحانه وتعالى على القيم والمبادئ المثلى، فكان صلى الله عليه وسلم نموذجًا حيًّا للتكافل والإغاثة في أعظم صورها، وربَّى صحابته الكرام على ذلك فرغَّبهم في تفريج الكروب، وإغاثة الملهوفين، ونصرة المظلومين، واعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم من يُحقق مصالح المسلمين، ويُقدِّم الخير لهم من أقرب العباد إلى الله سبحانه وتعالى؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ"[1]؛ لأنَّه لا يمكن بحالٍ من الأحوال بناء حضارة أو إقامة أمَّة يشهد لها العالم بغير بناءٍ داخلي لمجتمعٍ تتقارب فيه القلوب والأجساد، مجتمعٌ يشعر فيه الفقير أنَّه في معيَّة المجتمع بعد معيَّة الله، وبناء المجتمع يحتاج أوَّلًا إلى بناء النفوس المؤمنة، التي تتحرَّك بإيجابيَّة نابعة من دوافع إيمانيَّة مخلصة، تُقدِّم كلَّ ما تملك من إمكانات مادِّيَّة ومعنويَّة تُساعد في رقيِّ المجتمع بكلِّ طوائفه، وعند استعراضنا لحياة النبي صلى الله عليه وسلم يتبيَّن لنا أنَّ بناء المجتمع في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بمرحلتين سنتناولهما فيما يلي:

فطرة التكافل قبل البعثة

إنَّ سرَّ قوَّة الإسلام يكمن في انسجامه مع النظرة التي تُحرِّك الإنسان نحو مساعدة ومعاونة المكروب والمستغيث، ورسولنا صلى الله عليه وسلم كان نِعْمَ المغيث لكلِّ مكروب، فاشتهر بين الناس بـ الصدق والأمانة ومعاونة المحتاج. كذلك كانت أخلاقه قبل البعثة.

إنَّك لتحمل الكَلَّ:

فُطِرَ النبي صلى الله عليه وسلم على حبِّ الخير والإحساس بالآخرين، وبما يُعانون في حياتهم من متاعب وآلام؛ لذلك فإنَّ خديجة < زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأعلم الناس به، وبأخلاقه وبمبادئه التي يحيا بها، ومن أجلها تُذكِّره بأنَّ مثل هذه الأخلاق والمبادئ من حمله للكَلِّ، وإكسابه للمَعْدُوم، وإعانته على نوائب الحق، لذلك روت عائشة < الحوارَ الذي دار بين النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبين خديجة < في بداية نزول الوحي، حيث قالت: "... فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ < فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي". فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي". فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: "كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ"[2].

حِلف الفُضول:

إنَّ مبدأ التكافل والإغاثة متأصِّلٌ في أخلاق النبيِّ صلى الله عليه وسلم منذ نشأته، فكان يُسَرُّ بكلِّ دعوةٍ صادقةٍ لإغاثة ملهوفٍ أو مظلوم؛ لذلك نجد النبيَّ صلى الله عليه وسلم يشيد ويمدح حِلف الفُضول؛ ذلك الحلف الذي تألَّف بعد عودة قريش من حرب الفجار، وسببه أنَّ رجلًا من زبيد قَدِمَ مكَّة ببضاعةٍ فاشتراها منه العاص بن وائل، ومنعه حقَّه، فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يُعينوه لمكانة العاص فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بآل فهر وأهل المروءة ونادى بأعلى صوته.

فقام الزبير بن عبد المطلب فقال: ما لهذا مترك. فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وبنو تَيْم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في شهرٍ حرام، وهو ذو القعدة، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنَّ يدًا واحدةً مع المظلوم على الظالم حتى يُردُّ إليه حقُّه، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه، وسمَّت قريش هذا الحلف حِلف الفُضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضلٍ من الأمر[3].

وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحلف الذي يُعين المظلوم على الظالم، ويُغيثه في كربه ومدحه بقوله: "شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلاَمٌ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَنْكُثُهُ"[4].

وقال صلى الله عليه وسلم في روايةٍ أخرى: "لَقَدْ شَهِدْتُ في دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَدْعَانَ حِلْفًا، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ دُعِيتُ بِهِ فِي الإِسْلامِ لأَجَبْتُ"[5].

كفالته لـ علي بن أبي طالب:

شعر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالأزمة التي كان يمرُّ بها عمُّه أبو طالب؛ فقريشٌ كلُّها تعيش في أزمةٍ طاحنةٍ وأبو طالب ذو عيالٍ كثير، فتوجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم للعبَّاس عمه، وكان من أيسر بني هاشم، فقال له: يا عباس! إنَّ أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنُخفِّف عنه من عياله، آخذٌ من بنيه رجلًا، وتأخذ أنت رجلًا فنكلفهما عنه. قال العباس: نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا: إنَّا نُريد أن نُخفِّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه. فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلًا فاصنعا ما شئتما. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا فضمَّه إليه، وأخذ العباس جعفرًا فضمَّه إليه[6].

فكانت كفالة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ نموذجًا عظيمًا لشعور المرء بأهله، وبمدى ما يمرُّ بهم من أزمات.

التكافل والإغاثة في المرحلة المكية

وكما كانت بداية الرسول صلى الله عليه وسلم تقوم على استعداده الكامل للتكافل مع الآخرين وإغاثة الملهوفين، كانت كذلك -من باب أولى- كلُّ حياته بعد البعثة، وكلُّ حياة من آمن به من أصحابه الأبرار.

ولم يكن هذا المبدأ في فترةٍ دون فترة، أو في ظرفٍ دون ظرف؛ بل كان يشمل كلَّ أيَّام وساعات السيرة النبويَّة. فترى هذا التكافل ظاهرًا بعمقٍ في أيَّام مكة، وكذلك تراه واضحًا تمام الوضوح في أيَّام المدينة، على الرغم من أنَّ السمة الغالبة على الفترة المكية هي الاضطهاد والتعذيب والتنكيل بالضعفاء، وكانت حياتهم معرَّضة لنكباتٍ مستمرَّةٍ من ألمٍ وجوعٍ وفقرٍ وطردٍ من الديار وقتلٍ للأنفس، إلَّا أنَّ التكافل والإغاثة قد ظهرا في أسمى صورهما؛ فعلى سبيل المثال يروي ابن مسعود، فيقول: "كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلاَمَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلالٌ وَالْمِقْدَادُ؛ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلَّا بِلاَلًا فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّة، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ"[7].

إغاثة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه:

كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقيرًا، وكان مأمورًا بـ الكف عن القتال؛ ولذا فلم تكن إغاثته للمسلمين بالمال أو بالقوَّة واردةً في حساب هذه الفترة؛ فالمسلمون عبارة عن أفرادٍ داخل مجتمعٍ لا يدين بدينهم ولا يترك لهم حريَّة العقيدة؛ بل يستعمل معهم أبشع أنواع التعذيب لردِّهم، ولكنَّه صلى الله عليه وسلم قَدَّم إليهم إغاثةً من نوعٍ آخر وهي إغاثة الكلمة الطيِّبة والبشرى الحسنة، فلننظر إلى تكافل النبيِّ صلى الله عليه وسلم المعنويِّ وبُشراه لأسرة "آل ياسر" (تلك الأسرة التي ابتُليت كلها في سبيل الله؛ أب وأم وابن)، فعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بعمَّار وأهله وهم يُعذَّبون، فقال: "أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ وَآلَ يَاسِرٍ، مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ"[8].

لم يكن في وسع النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يُقدِّم شيئًا لآل ياسر -رموز الفداء والتضحية- فليسوا بأرِقَّاء حتى يشتريهم ويعتقهم، وليست لديه القوَّة ليستخلصهم من الأذى والعذاب، فكلُّ ما يستطيعه صلى الله عليه وسلم أن يزفَّ لهم البشرى بالمغفرة والجنَّة, ويحثهم على الصبر؛ لتُصبح هذه الأسرة المباركة قدوةً للأجيال المتلاحقة"[9].

ونجده صلى الله عليه وسلم يتكافل مع خبَّاب معنويًّا ونفسيًّا مُشعرًا إيَّاه بقرب انتصار الإسلام، فيُروى عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ فَقَالَ: "... وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"[10].

فكان تكافل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عاملًا من عوامل الثبات والنصر؛ بل ومن عوامل تربية الرجال الذين قادوا الخير للعالمين.

ومن عظمته صلى الله عليه وسلم أنَّه أغاث مشركًا لا يعرفه قد وقع عليه ظلمٌ من أبي جهل وعجز صناديد قريش عن نصرته، فيذكر ابن إسحاق في سيرته حديث الأراشي الذي ابتاع منه أبو جهل الإبل ومطله بأثمانها، ودلالة قريش إيَّاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُنصفه من أبي جهل استهزاءً، لِمَا يعلمون من العداوة بينهما، قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ فقال: "مُحَمَّدٌ". فخرج إليه وما في وجهه من رائحة قد انتقع لونه، فقال: "أَعْطِ هَذَا حَقَّهُ". قال: نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له. فدفعه إليه، فذكر لهم الأراشي ذلك، فقالوا لأبي جهل: ويلك! ما رأينا مثل ما صنعت. قال: ويحكم! والله ما هو إلَّا أن ضرب عليَّ بابي وسمعت صوته، فمُلئت رعبًا، ثم خرجت إليه، وإنَّ فوق رأسه لفحلًا من الإبل، ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحلٍ قَطُّ، والله لو أبيت لأكلني[11].

إغاثة الصديق لضعاف المسلمين:

ووسط هذه الأهوال كان لا بُدَّ من التحرُّك لإنقاذ هذا المجتمع المسلم الناشئ من الهلاك، فتحرَّك أبو بكر الصديق وبذل معظم ماله في سبيل شراء هؤلاء المسلمين ليُغيثهم من هول التعذيب، فيذكر ابن سعد في طبقاته: "أنَّ بلالًا أخذه أهله فمطوه وألقوا عليه البطحاء وجلد بقرة، فجعلوا يقولون: ربك اللات والعزى؟ ويقول: أحدٌ أحد. قال: فأتى عليه أبو بكر فقال: علام تُعذِّبون هذا الإنسان؟ قال: فاشتراه بسبع أواقٍ فأعتقه"[12]. وكان جملة ما أعتقهم أبو بكر الصديق سبع رقاب، فيقول ابن هشام: "ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يُهاجر إلى المدينة ستَّ رقاب بلال سابعهم: عامر بن فهيرة، وأم عبيس وزنيرة، والنهدية وبنتها وكانتا لامرأةٍ من بني عبد الدار، فمرَّ بهما وقد بعثتهما سيِّدتهما بطحينٍ لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدًا. فقال أبو بكر رضي الله عنه: حل يا أم فلان. فقالت: حل أنت، أفسدتهما فأعتقهما. قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. قال: قد أخذتهما وهما حرَّتان. ومرَّ بجارية بني مؤمل حي من بني عدي بن كعب، وكانت مسلمة وعمر بن الخطاب يُعذِّبها لتترك الإسلام -وهو يومئذٍ مشرك- وهو يضربها حتى إذا ملَّ قال: إنِّي أعتذر إليك، إنِّي لم أتركك إلَّا ملالة. فتقول: كذلك فعل الله بك. فابتاعها أبو بكر فأعتقها"[13].

فقد أنفق رضي الله عنه كثيرًا من ماله في التكافل مع إخوانه المعذَّبين والمضطهدين؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه قال: "أسلم أبو بكر رضي الله عنه يوم أسلم وفي منزله أربعون ألف درهم، فخرج إلى المدينة في الهجرة ومَا لَه غير خمسة آلاف، كلُّ ذلك يُنفقه في الرقاب والعون على الإسلام"[14].

وقد وقف المجتمع الجاهلي أمام هذا النموذج الفريد من العطاء والتكافل موقف المتعجِّب من أفعال أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ إنَّه يُضحِّي بماله كلِّه في سبيل هؤلاء الضعفاء، وتساءلوا ماذا سيعود على هذا المسكين من نفع؛ لأنَّهم حسبوها بمنطق الدنيا.

ولذلك عاتبه والده فيما يفعل قائلًا له ذات يوم: يا بُني، إنِّي أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنَّك إذ فعلت أعتقت رجالًا جلدًا يمنعونك، ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر صلى الله عليه وسلم: يا أبتِ، إنِّي إنَّما أُريد ما أُريد لله عز وجل. فلا عجب إذا كان الله سبحانه وتعالى أنزل في شأن الصدِّيق قرآنًا يُتلى إلى يوم الدين[15]، قال عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} [الليل: 5 - 21].فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى.

إغاثة أمِّ المؤمنين خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

إنَّه نموذجٌ فريدٌ في البذل من أجل الإسلام، ففي تضحيةٍ وفداء قدَّمت السيِّدة خديجة بنت خويلد سيِّدة نساء قريش كلَّ ما تملك من أجل دعوةٍ ناشئة، ولم تُقدِّم مالها فقط؛ بل قدَّمت فكرها وعقلها ونفسها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ونستطيع أن نقول بكلِّ اطمئنان: إنَّها تكافلت مع الدعوة الإسلامية معنويًّا وماديًّا منذ بدأ نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وحتى تُوفِّيت <.

ويقرُّ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمواساة الحقيقيَّة والتكافل النبيل، فيقول في تقدير وإجلال: "قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عز وجل وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلاَدَ النِّسَاءِ"[16].

الرسول يُحوِّل التكافل إلى عملٍ مؤسَّسي:

بدأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في وضع نظامٍ للتكافل المؤسَّسي بين المسلمين؛ فالمجتمع الناشئ في مكة يمرُّ بأزماتٍ وابتلاءاتٍ لا بُدَّ معها من التعاون والتكافل المنظَّم؛ لذلك يروي صاحب السيرة الحلبية عن المرحلة المكيَّة قائلًا: "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوَّة، يكونان معه يُصيبان من طعامه"[17].

كما آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين السيِّد والعبد، وبين القويِّ والضعيف حتى يزداد المجتمع الناشئ تماسكًا، فيُروى عن ابن عباس قوله: "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود"[18]، ويقول ابن سيد الناس: وكانت المؤاخاة مرَّتين؛ الأولى بين المهاجرين بعضهم لبعض قبل الهجرة على الحق والمواساة، آخى بينهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فآخى بين أبي بكر وعمر.

وبين حمزة وزيد بن حارثة.

وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف.

وبين الزبير وابن مسعود.

وبين عبيدة بن الحارث وبلال.

وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص.

وبين أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة.

وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله.

وبين علي ونفسه صلى الله عليه وسلم[19].

إغاثة الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين في مكة:

لم يقف المسلمون في المدينة موقفًا سلبيًّا من نصرة وإغاثة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسط ما يتعرض له وأصحابه من تعذيب واضطهاد؛ بل بادروا إلى نصرته وإغاثته فبعثوا إليه سبعين رجلًا من خيار قادتهم لمبايعته على النصرة والمنعة؛ فيروي جابر أنَّه قال: "مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم عكاظ ومجنة، وفي المواسم يقول: من يُؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربِّي وله الجنة؟ فلا يجد أحدًا يؤويه ولا ينصره حتى إنَّ الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر -كذا قال- فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر غلام قريش، لا يفتنك ويمضي بين رحالهم. وهم يُشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويُقرِئه القرآن فينقلب إلى أهله فيُسلمون بإسلامه حتى لم تبقَ دارٌ من دور الأنصار إلَّا وفيها رهطٌ من المسلمين يُظهرون الإسلام، ثم ائْتَمرُوا جميعًا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكَّة ويخاف؟! فرحل إليه منا سبعون رجلًا حتى قَدِمُوا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة فاجتمعنا عندها من رجلٍ ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال: "تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لا تَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمُ الْجَنَّةُ". فقمنا إليه وأخذ بيده أسعد بن زرارة -وهو أصغر السبعين إلَّا أنا- فقال: رويدًا يا أهل يثرب، فإنَّا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلَّا ونحن نعلم أنَّه رسول الله، وإنَّ إخراجه اليوم مناوأةً للعرب كافَّة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإمَّا أنتم قومٌ تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإمَّا أنتم قومٌ تخافون من أنفسكم خيفةً فذروه؛ فبيَّنوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله. قالوا: أَمِطْ عنَّا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها أبدًا. قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ علينا وشرط ويُعطينا على ذلك الجنة"[20].

وحركت المبايعة قلوب الأنصار لنصرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإنقاذ الدعوة من الاضطهاد، واشتاقت نفوسهم للجهاد دفعًا للضر، فقال العبَّاس بن عبادة بن نضلة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلنَّ على أهل مِنًى غدًا بأسيافنا؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ، وَلَكِنِ ارْجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ". قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا[21].



المصدر:

كتاب رحماء بينهم، للدكتور راغب السرجاني.



[1] البيهقي في شعب الإيمان (7444)، قال الألباني: حسن. انظر حديث (172) في صحيح الجامع.

[2] البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله r (3)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي (160).

[3] انظر: السهيلي: الروض الأنف 1/241، وابن كثير: السيرة النبوية 1/259 بتصرف.

[4] رواه أحمد عن عبد الرحمن بن عوف (1655)، وابن حبان (4373)، والبزار (1000)، والحاكم (2870) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والبخاري في الأدب المفرد (567 )، وأبو يعلى (844)، والبيهقي في السنن الكبرى (12856)، وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجال حديث عبد الرحمن بن عوف رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد (13582)، وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع (3717).

[5] ابن هشام: السيرة النبوية 1/133، وابن كثير: السيرة النبوية 1/261، وهذا الحديث أخرجه البزار في مسنده عن عبد الرحمن بن عوف (1024) وقال: روي عن عبد الرحمن في قصة الحلف بغير هذا اللفظ. وصححه الألباني، انظر صحيح السيرة النبوية ص35-37.

[6] ابن هشام: السيرة النبوية 1/245، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/124، والسهيلي: الروض الأنف 1/426 بتصرف.

[7] ابن ماجه: كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فضل سلمان وأبي ذر والمقداد (150)، وأحمد (3832)، وابن حبان (7083)، والحاكم (5238)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة (32333)، والبيهقي في شعب الإيمان (1629)، والسنن الكبرى (16674)، وأبو نعيم في الحلية 1/149، وصححه الألباني: انظر صحيح السيرة النبوية 1/122.

[8] رواه الطبراني في الأوسط (1508)، والحاكم (5666)، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وصححه الألباني، انظر صحيح السيرة النبوية 1/154.

[9] الصلابي: السيرة النبوية 1/184، 185.

[10] البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3416)، وأبو داود (2649)، وأحمد (21095)، وابن حبان (2897)، والطبراني في الكبير (3638)، وأبو يعلى (7213)، والبيهقي في شعب الإيمان (1633)، والسنن الكبرى (17498)، وأبو نعيم في الحلية (17498).

[11] ابن هشام: السيرة النبوية 1/269، وابن كثير: السيرة النبوية 1/470.

[12] ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/232.

[13] ابن هشام: السيرة النبوية 1/224.

[14] السيوطي: تاريخ الخلفاء ص39.

[15] ابن هشام: السيرة النبوية 1/225.

[16] رواه أحمد (24908)، والطبراني في الأوسط (7731)، وقال الهيثمي: رواه أحمد وإسناده حسن. انظر: مجمع الزوائد (15281).

[17] علي بن برهان الدين الحلبي: السيرة الحلبية 2/211.

[18] رواه الطبراني في الكبير (12816)، وفي الأوسط (929)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، ورجال الأوسط ثقات (13574). وانظر: الذهبي: معرفة القراء الكبار 1/33.

[19] ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/264.

[20] رواه أحمد (14496)، وابن حبان (6274)، والحاكم (4251)، وقال: حديث صحيح الإسناد جامع لبيعة العقبة، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى (16333). وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار، وقال في حديثه: "فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها". ورجال أحمد رجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد (9882)، وقال الألباني: صحيح. انظر السلسلة الصحيحة (63).

[21] انظر أحمد في مسنده (15836)، وابن هشام: السيرة النبوية 2/325.