لقد جاء في وصفها على لسان عبد الرسول اللاري، قوله:

«كانت ثورة الإمام الثقافية، المناضلة الوحيدة التي دخلت معركة الدفاع عن الإسلام في وقت تآمرت عليه كل قوى الإلحاد، وجنّدت كل طاقاتها لإعادة الرجعية المادية التي نسفها الإسلام، وقد اعترفت بذلك الجبهة الملحدة العدوة، حيث كان يصرّح أقطابها ما كلمني بهذا غيرك»
وأضاف قائلاً: «ومن هنا نعرف إن كل الملايين المسلمة التي عاشت بعد ثورة الإمام الثقافية، وكل الملايين التي تعيش اليوم.. والتي ستعيش غداً.. وبعد غد. كلها مدينة لثورة الإمام الصادق (ع) الثقافية العظيمة العملاقة»
لما كان من نتائجها تخليص الأمّة من منعطف جارف منحرف يأخذ بها إلى الهاوية نتيجة الظروف الاجتماعية والسياسية من جهة، وتغلغل أولئك الزنادقة والملحدين بين صفوف المسلمين من جهة ثانية، وتواجد زمرة المنافقين الذين لم يخلُ زمان منهم من جهة ثالثة، وكل ذلك يشكل خطر كبير على الأمة لا يمكن درؤه بواسطة الانشغال عنه بالسلطة وتولي الأمور السياسية.

من أسباب تركه للسلطة والإنشغال بتعليمه للأمة :

قد يقال:

إنّ الفرصة قد أتيحت للإمام الصادق (ع) بعد سقوط الدولة الأموية لاستلام الحكم، مع رغبة الناس الشديدة إلى قيادة الأئمة العلويين من أهل بيت محمد (صلّى الله عليه وآله)، فماذا ترك الأمر؟

الجواب:
نعم، إنّ الفرصة كانت متاحة لأن يستلم الإمام الصادق (ع) الحكم لو أراد ذلك، ولكن توجد عدّة أسباب دعت بالإمام (ع) أن يترك هذا الأمر، لينشغل بما هو أهم منه ـ بحسب علمه (ع) في تشخيص المصلحة - ومن جملة هذه الأسباب إنّ الإمام الصادق عليه السلام يرى أن الأمّة الإسلامية قد عاشت ثلاثاً وعشرين سنة تحت قيادة ربانية وزعامة إلهية ونَفْس نبوية، ولكن ما إن رحل عنها عادت فيها الخلافات والاختلافات، وأخذت تزداد يوماً بعد يوم، حتى انتهت بقتل خلفائها وخيرة رجالها، بل بلغ الحال فيها إلى درجة كادت الأمة أن تلفظ آخر أنفاسها؛ لكثرة قتالها وانتشار المنافقين بين صفوفها، فاحتاجت إلى من يقوم بإعادة رشدها ووعيها، لأنّ ذلك أنفع لها، وأدوم لبقائها واستمرار حضارتها.
فكانت حركة الإمام الصادق (ع) نقطة الانطلاق لتجديد الصحوة الإسلامية، وهي تتطلب التوعية الرشيدة، والمعرفة الحقيقية، بحيث تصبح المعارف إلهية، والإحكام إسلامية (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ)(20)، والأخلاق محمدية، كما وصفها الحق تبارك وتعالى بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(21)، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)(22)، حتى يخسأ الإلحاد، ويخرس الشيطان، وينكس المنافق على عقبيه.


فاستحقت مدرسته أن تكون مرجع صدق وحق يرجع إليها كبار الأمة وعلماؤها، وطلاب المعرفة، حتى أن التاريخ لم يكتب جملة واحدة في صفحاته كما كتبها عن الإمام الصادق (ع)، إنّ الإمام (ع) ما سئل عن شيء وأجاب لا ادري، إذ انّ ذلك هو مقتضى علمهم ومعرفتهم بالأشياء وحقائق الدين، حيث اختارهم الله قرناء لكتاب العزيز كما جاء في حديث الثقلين، وحديث جابر عن رسول الله حينما سأله الإمام محمد بن علي الباقر (ع) عن شيء، فأجابه: «والله لا دخلت في نهي رسول الله (ص)، لقد أخبرني أنكم الأئمة الهداة من أهل بيته، أحكم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً، فقال: لا تعلِّموهم فإنهم أعلم منكم، فقال الإمام أبو جعفر (ع): صدق جدّي (ص)، إني أعلم منك بما سألتك عنه، ولقد وأتيت الحكم صبياً كل ذلك بفضل الله علينا ورحمته لنا أهل البيت»(23)، أو أن مناظراً قد أقحمه قط، بل تحداهم بقوله: «سلوني فإنه لا يحدثكم احد بمثل حديثي»(24).

عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيره، قالوا: سمعنا أبا عبد الله عليه السلام يقول: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ»(25).