الامام الصادق (عليه السلام) كما عرفه علماء الغرب





ولد الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في المدينة المنورة في يوم الاثنين السابع عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين(1) أو سنة ثمانين للهجرة(2). وأمه هي فاطمة بنت قاسم بن محمد بن أبي بكر، الكنّاة بأم فروة، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، أي أن نسبها ينتهي إلى أبي بكر من ناحيتي الأب والأم.
وقام جدّه علي بن الحسين زين العابدين بتربيته ورعايته طوال مدة اثنتي عشرة سنة، فنهل منذ صباه من منهل جده زين العابدين (عليه السلام) في الأدب والفقه والمعارف الإسلامية والزهد والتقوى. أما والدة الإمام علي ابن الحسين زين العابدين (عليه السلام) فهي شهر بانويه بنت يزرجرد بن شهريار بن كسرى، ويسمونها أيضاً شاه زنان، وقيل جهان بانويه، وقيل سلافة، وقيل خولة.
وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) سمّاها مريم، وكانت تدعى سيدة النساء(3). قضى الإمام زين العابدين (عليه السلام) بضع سنين في كنف جدّه الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم نشأ في مدرسة عمه الحسن وأبيه الحسين سبطي الرسول (صلى الله عليه وآله) وتغذى من نمير علوم النبوة، واستقى من مصادر آبائه الطاهرينن فهو وارث علم جدّه علي (عليه السلام) وأبيه الحسين (عليه السلام).
وأما عن زهده وورعه ومواعظة، فهو إمام الزهاد وقدوة المتقين وهداية المتعظين، قلّ أن تجد كتاب زهد وموعظة لم يرد فيه. (قال علي بن الحسين، أو قال زين العابدين (عليه السلام) ). وقد جاء في سيرة الإمام أنه كان يخطب الناس في كل جمعة ويعظمهم، ويزهدّهم في الدنيا، ويرغبهم في أعمال الآخرة، ويقرع أسماعهم بتلك القطع الفنية من ألوان الدعاء والحمد والثناء التي تمثل أروع صورة للعبودية المخلصة لله سبحانه وتعالى.
وقد ترك لنا زين العابدين (عليه السلام) هذه الأدعية والخطب في وثيقة سميت (بالصحيفة السجادية) تعتبر تراثاً ربانياً فريداً، يبقى على مر الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب، فهذه الوثيقة هي حقاً ثمرة المدرسة المحمدية وتراثها الخالد، وقد قدّر للإمام زين العابدين (عليه السلام) أن يعاصر همرحلةً من أدق المراحل التي مرت على الأمة الإسلامية في القرون الأولى من تاريخ الإسلام.
فقد شهد النصف الثاني من القرن الأول امتداداً للفتوح الإسلامية من الحجاز إلى أدنى الشرق وأقصى الغرب، فزعزع المسلمون عروش الأكاسرة والقياصرة، وضموّا إليهم شعوباً مختلفة وبلاداً واسعة، وأصبح المسملون قادة القسم الأكبر من العالم الممتدين وقتئذ وخلال نصف قرن.
ومع أن هذه القيادة جعلت من المسلمين قوةً كبرى على الصعيد العالمي من الناحيتين السياسية والعسكرية، إلاّ أنها عرضتهم لخطرين داهمين خارج النطاق السياسي والعسكري، وكان لا بد من الإقدام على عمل حاسم للوقوف في وجههما:
أما الخطر الأول فهو الذي نجم عن انفتاح المسلمين على ثقافات الأمم المتحضرة، وعلى اعراف تشريعية، وأوضاع اجتماعية مختلفة نتيجة لتفاعلهم مع الشعوب التي دخلت في دين الله أفواجاً وكان لابد من عمل على الصعيد العلمي يؤكد للمسلمين أصالتهم الفكرية وشخصيتهم التشريعية المتميزة المستمدّة من الكتاب والسنّة.
وكان لابد من حركةٍ فكرية اجتهادية تفتح آفاقهم الذهنية ضمن ذلك الإطار لكي يستطيعوا أن يحملوا مشعل الكتاب والسنّة بروح المجتهد البصير، والممارس الذكي، الذي يستطيع أن يستنبط ما يفيده في كل ما يستجد له من حالات(4)، فكان لابد إذن من تأصيل الشخصية الإسلامية، ومن بذر بذور الاجتهاد، وهو ما قام به زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) الذي أنشأ حلقةً للبحث والدرس في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) ليحدّث الناس بصنوف المعرفة الإسلامية من تفسير وحديث وفقه، ويفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين ويمرّن النابهين منهم على الفقه والاستنباط.
وقد تخرج من هذه المدرسة عدد كبير، منهم فقهاء المسلمين من الصحابة والتابعين الذين وردت أسماء بعضهم في كتب سير الصحابة من أمثال جابر بن عبد الله الأنصاري، وعامر بن وائلة الكناني، وسعيد ابن جهان الكناني، وسعيد بن المسيّب بن حزن. وقد قال زين العابدين (عليه السلام) عن الأخير: (سعيد بن المسيّب أعلم الناس بما تقدم من الآثار).
ومن التابعين سعيد بن جبير ومحمد بن جبير بن مطعم وأبو خالد الكابلي والقاسم بن عوف واسماعيل بن عبد الله بن جعفر وإبراهيم والحسن ابنا محمد بن الحنفية وحبيب بن أبي ثابت وأبو يحيى الأسدي وأبو حازم الأعرج وسلمة بن دينار المدني وغيرهم(5)، فجمع من حوله الفقهاء ورواة الحديث، وأقرّ المسلمون جميعاً بعلمه واستقامته وأفضليته، وانقاذ الواعون منهم إلى زعامته وفقهه ومرجعيته، حتى لقد اعترف أعداؤه بفضله، واستنجدوا بعلمه وإرشاداته، فهذا عبد الملك بن مروان وقد اصطدم بملك الروم، الذي هدده باستغلال حاجة المسلمين إلى استعمال نقود بلاد الرومان في التعامل حيث أراد بذلك إذلال المسلمين وفرض شروطه عليهم، فوقف عبد الملك متحيراً، وضاقت به الأرض، وقال كما جاء في الرواية (أحسبني شأم مولودٍ في الإسلام).
وجمع أهل الرأي واستشارهم، فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعنى به، فقال له القوم: (إنك لتعلم الرأي والخرج من هذا الأمر) فقال: (ويحكم)، مَن؟ (قالوا: (الباقي من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله).
قال: (صدقتم)، وهكذا كان، فقد فزع إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الذي بعث ولده محمداً الباقر إلى الشام، وزوده بتعليماته الخاصة، فوضع خطة جديدة للنقد الإسلامي، وأنقذ الموقف عندئذٍ(6) ولقد فصّل الدميري في حياة الحيوان القول في هذه القضية وذكرها بالأرقام.
وإننا لو جمعنا ما قيل في علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) وعلمه وفضله وزهده وعبادته لأصبح كتاباً مستقلاً، وروضة تسرّ الناظرين، ولكننا نخرج بذلك عن الهدف، وقُصارى الأمر أن نسوق ما قاله بعض الأئمة فيه، فقد قال الزهري: (ما رأيت هاشمياً من علي بن الحسين، ولا أفقه منه). وقال سعيد بن المسيّب: (ما رأيت قط مثل علي الحسين). وقال الإمام مالك: (إنما سمي زين العابدين لكثرة عبادته). وقال سفيان بن عيينه: (ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين زين العابدين، ولا أفقه منه). وعَدَّ الإمام الشافعي علياً بن الحسين (أفقه أهل المدينة).
وكانت مدرسة الإمام زين العابدين (عليه السلام) توطئةً لما نشأ بعد ذلك من مدارس الفقه، ودعامةً لحركته الناشطة.
وقد استطاع الإمام بفضل هذا الأسلوب استقطاب الحركة الفكرية الاسلامية الأصلية عند القراء وحملة الكتاب والسنّة، حتى قال سعيد بن المسيّب: (إن القرّاء كانوا لا يخرجون إلــــى مكة حتى يخرج علي بـــن الحسين، فخــــرج وخرجنا معه ألف راكب)(7).
أما الخطر الثاني، فقد نجم عن موجة الرخاء التي عمّت المجتمع الاسلامي في اعقاب ذلك الامتداد الهائل وهيّأت للمجتمع أسباب الانسياق مع ملذات الدنيا والإسراف في الزخرف وزينة الحياة، وقد وردت أخبار الترف والإسراف في كتب التاريخ والسيرة بكثرة، وحسبنا في هذا المقام مراجعة كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني مثلاً، لنقف على أطراف ذلك.
وقد ادرك الإمام زين العابدين (عليه السلام) مدى هذا الخطر، وتصدى لعلاجه بدعوى المسلمين إلى التوجه إلى الله والدعاء له، واتخذ من الدعاء أساساً لهذا العلاج، واستطاع بما أوتي من بلاغة نبوية فريدة، وتمكن تام من أساليب التعبير العربي، وذهينة ربانية تتفق عن أروع المعاني وأدقها في تصوير صلة الإنسان بربه ووجده بخالقه تعلقه بمبدئه ومعاده، وماستطاع بذلك وبما أوتي من المواهب أن ينشر من خلال الدعاء جواً روحانياً يشد من عزيمة الإنسان المسلم امام المغريات، ويشده إلى ربه.
هذه هي مدرسة الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وهي المدرسة الأولى التي تعلّم فيها الإمام جعفر الصاق(عليه السلام) منذ نعومة ظفاره برعاية جده واهتمامه به وحنانه الأبوي عليه.
وقد توفي الإمام زين العابدين (عليه السلام) سنة خمس وتسعين هجرية، وكان الصادق عندئذ في الخامسة عشرة أو في الثانية عشرة من عمره الشريف.
وآلت الإمامة والزعامة الروحية بعد الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى ابنه الإمام أبي جعفر محمد الباقر (عليه السلام).


___________________________________________
1 - أصول الكافي: للكليني ج1 ص 472.
مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب ج4 ص 280.
2 - الفصول المهمة: ص208، 216.
3 - المناقب: ج4 ص 176.
ربيع الأبرار عن الزمخشري: روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (لله من عباه خيرتان، فخيرته من العرب قريش ومن العجم فارس) ز وكان علي ابن الحسين يقول أنا ابن الخيرتين، لأن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأمه بنت يزدجرد، وقد قال فيه أبو الأسود الدولي:
وإن غلاماً بين كسرى وهــاشم***لأكرم من نيطت عليـــه الشتائم
4 - الإمام محمد باقر المصدر: مقدمة (الصحيفة السجادية) ص 14.
5 - المناقب ج4 ص 136.
6 - المناقب: ج4 ص 303 ـ ومحمد باقر الصدر: مقدمة (الصحيفة السجادية) (صلى الله عليه وآله)90.
7 - المناقب ج4 ص 136.