بدأت الحياة على الأرض بالجماعات البشرية التي نُسمِّيها "بُدائيَّة"، إلَّا أنَّ تلك الجماعات سرعان ما تفاعلت مع الطبيعة، وأنشأ بعضها حضارات لا تزال آثارها ماثلةً أمامنا حتى الآن، وذلك إن دلَّ على شيءٍ فإنَّما يدلُّ في المقام الأول على أنَّ تلك الجماعات (نجحت) في تكوين (علاقات) بينها وبين بعضها؛ بل وبينها وبين الجماعات البشريَّة المجاورة لها، ولا شكَّ أنَّ تلك العلاقات تبدأ بسيطةً ثم ما تلبث أن تتعقَّد، وتتشابك حتى تُؤسِّس ما نُسمِّيه اليوم (نظامًا).

ونحن في بحثنا هذا نستعرض لمظهرٍ من مظاهر اجتماع الناس، ونرقب كيفيَّة تعاملهم كـ(مجتمع)، وما إذا كان قد ظهر عندهم نوعٌ من الألفة الاجتماعية، أدَّت إلى وجود (التكافل الاجتماعي)، أو أيِّ مظهرٍ من مظاهر حرص الجماعة على الفرد، ووجود حقوقٍ معيَّنةٍ مرعيَّة للإنسان في هذه المجتمعات، أم أنَّ صبغة (البدائيَّة) و(الهمجيَّة) كانت هي العامل الأبرز، والمظهر الأكثر شيوعًا، وكان النظام القائم هو نظام القوَّة، وشريعة الغاب!!

يتحدَّث ول ديورانت عن القيم والمبادئ الاقتصاديَّة في المجتمعات البدائيَّة، فيقول عما يُسمِّيه بالشيوعيَّة البدائية: "... كان من المألوف عند (الهمج) أنَّ من يملك طعامًا يقتسمه مع من لا يملك منه شيئًا؛ كما كان من المألوف كذلك للمسافرين إذا ما أرادوا طعامًا أن يقفوا عند أيِّ دارٍ يشاءون في طريقهم، بل كان من المألوف أن تستعين الجماعات التي ينزل بها القحط بجيرانها، وكان إذا ما جلس إنسانٌ في الغابة ليأكل وجبته، تَوَقَّع منه الناس أن يصيح لمن أراد أن يُشاطره الطعام قبل أن يبدأ هو في تناوله، وبغير ذلك لا يكون الصواب في جانبه... وكان الجائع من الهنود ما عليه إلَّا أن يسأل فيُجاب سؤاله بالعطاء، فمهما يكن مورد الطعام ضئيلًا عند المعطي؛ فإنَّه لا بُدَّ أن يُعطي منه هذا السائل ما دام محتاجًا؛ فيستحيل أن تجد إنسانًا يعوزه القوت ما دامت الغلال موجودةً في مكانٍ بالمدينة؛ وكانت العادة عند الهوتنتوت أن يقتسم مَنْ يملك أكثر من سواه هذه الزيادة حتى يتساوى الجميع؛ وقد لاحظ الرحَّالة البيض أثناء رحلاتهم في إفريقيا قبل أن تدخلها المدنية، لاحظوا أنَّ (الرجل الأسود) إذا ما قُدِّمَتْ له هديةٌ من طعامٍ أو غيره من الأشياء ذوات القيمة، فإنَّه يُقسِّمها بين ذويه فورًا؛ وإذا ما أعطى المسافرُ بدلةً لأحد هؤلاء السود، فسرعان ما يرى الموهوب يلبس من الهبة جزءًا كالقبَّعة مثلًا، ثم يرى صديقًا له يلبس السراويل وصديقًا آخر يرتدي السترة، وكذلك الإسكيمو لا يرون للصائد حقًّا شخصيًّا في امتلاك صيده؛ بل يلزم توزيعه على أهل القرية جميعًا، وكانت الآلات والمخزون من الطعام ملكًا مشاعًا بين الجميع"[1].

وقد وصف كابتن كارفر Captain Carver هنود أميركا الشمالية فقال: "إنَّهم لا يعرفون من فوارق الملكية شيئًا سوى الأدوات المنزلية... وهم أسخياء مع بعضهم البعض غاية السخاء، وإذا ما فاض عند أحدهم فيضٌ ونَقص عند الآخر ما يحتاج إليه، فلا بدَّ أن يسدَّ الأول بفيضه نقص زميله"..

"ويقول شاهدٌ آخر: لقد رأيتهم يقتسمون الصيد إذا كان لديهم ما يُقتسم، لكنِّي لا أذكر مثلًا واحدًا لتنازعهم، أو لتوجيههم النقد لطريقة التقسيم؛ كأن يقولوا: إنَّه غير عادل. أو غير ذلك من أوجه الاعتراض؛ إنَّ الواحد منه ليُؤْثِر أن يرقد على معدته الخاوية، على أن يُتَّهم بأنَّه أبى أن يُعين المحتاج... إنَّهم يعدُّون أنفسهم أبناء أسرةٍ واحدةٍ كبيرة"[2].

إلَّا أنَّ ديورانت يُلاحظ -أيضًا- أنَّ هذا الأمر لم يستمر طويلًا، ويعزو ذلك إلى أنَّ المجتمع إذا لم يُكافئ المجتهد، ويُعاقب الخامل المتكاسل، فإنَّ ذلك سينتج عنه تدريجيًّا أن يُصبح الشعب كلُّه خاملًا، ممَّا يُقلِّل من معدَّلات التنمية داخل المجتمع.

ولكن تلك المجتمعات تغيَّرت، وبدأ يُحيط بها أخطارٌ عديدة، تنشأ إمَّا من اعتداءٍ خارجي، أو ثورة فئةٍ منهم على فئة، ممَّا جعلهم تدريجيًّا يضعون لأنفسهم زعيمًا، أو قائدًا، يوزِّع عليهم الأدوار، ويتصدَّى لِمَا قد يُواجههم من أخطـار، وشيئًا فشيئًا ظهرت التقسيمات المجتمعيَّة، وبظهورها برزت المدن، وبدأت الحضارات.

وفي الأعمِّ لا تنشأ الفرق والطبقات إلَّا بعد ظهور مجتمع المدينة هذا، المستقر الهادئ، المحدَّد بحدودٍ جغرافيَّةٍ معيَّنة، ولا شَكَّ أنَّ المدن الأولى قد منحتنا (وجود) الملوك الأوائل، وبالتالي المجتمعات الطبقيَّة الأولى؛ إذ أينما انتشرت المدن في وادي نهر النيل، ونهر السند في الباكستان وفي تركيا والصين... جرت العادة على وصف الملك بأنَّه مؤسِّس المدن، وتمكَّن هؤلاء الملوك -في كلِّ مكانٍ تقريبًا- من إسباغ قداسة دينيَّة على سلطانهم في كلِّ مكانٍ بسطوا فيه سيطرتهم تقريبًا؛ ففي مصر وأميركا كان الملك هو الرب، وفي بلاد ما بين النهرين كانت هناك طبقةٌ جديدةٌ من الكهنة تقوم بتأدية الفروض الخاصَّة بديانة الملك التي تهدف إلى السيطرة"[3].

ممَّا سبق يبدو لنا أنَّ فطرة الله التي فطر الناس عليها كانت في التكافل، والإيثار وحبِّ الخير للناس، ولكن تطوُّر الحياة، وتعقُّدها، وعدم وجود وازعٍ دينيٍّ أو أخلاقيٍّ محدَّد، قلَّص كلَّ هذه الفطر السويَّة، والأخلاق القويمة، وجعل الناس يُفكِّرون بمنطق القوَّة بعد ذلك، وشيئًا فشيئًا تكوَّنت "طبقات في المجتمع" تفرض الطبقة الحاكمة القويَّة نفسها عليه، وتحتكر خيراته، وتتعامل بقسوةٍ مع الطبقات الأدنى منها، وإنَّنا لنعجب كلَّ العجب عندما نرصد صورة المجتمع في الحضارات السابقة كلِّها لنجد غياب صورة التكافل كما سيظهر لنا تفصيلًا في السطور القادمة.

وسنُحاول فيما يلي أن نتعرَّض لكلِّ حضارةٍ على حدة، وذلك من الحضارات التي سبقت ظهور الإسلام مباشرةً، لنرى كيف كان شكل المجتمع فيها، وإلى أيِّ مدى كان هناك اتِّصال أو انفصال بين طبقات مجتمعها، اتِّصال ينشأ عنه التكافل والرحمة، أو انفصال يُولد العداوة والكره!

المجتمع في الحضارة اليونانية

كان اليونان ينقسمون إلى ثلاث طبقات تختلف كلُّ واحدةٍ منها عن الأخرى من الناحيتين السياسية والقانونية؛ إذ كان هناك طبقة المواطنين الذين لهم حق المشاركة في الحياة السياسية للمدينة وفي الشئون والوظائف العامَّة، أمَّا الطبقة الثانية فهي طبقة الأجانب المقيمين في المدينة، وهي محرومةٌ من المساهمة في الحياة السياسيَّة على الرغم من كون أعضائها أحرارًا، أمَّا طبقة الأرقَّاء فتأتي في أدنى السُّلَّم الاجتماعي؛ فقد بقي الاسترقاق مشروعًا عند الإغريق، وربَّما كان ثلث سكان أثينا من طبقة الأرقَّاء، وهذه الطبقة لا تدخل في حساب المدينة الإغريقيَّة مطلقًا، وكان الرقيق ملكًا لسيده وشيئًا من أشيائه.

تصوُّر المجتمع وحقوقه عند فلاسفة اليونان:

عُرفت اليونان في ذلك العصر القديم بوجود عددٍ من المفكرين والفلاسفة، الذين حملوا على عاتقهم همَّ توصيل بعض الحقائق، وإرساء بعض المعايير داخل مجتمعهم؛ وذلك عن طريق تفكيرهم المنطقي، وبحثهم عن أسباب الظواهر ونتائجها، فكيف كان تصوَّر هؤلاء الفلاسفة للمجتمع آنذاك؟

برز لدى اليونان علمان في المنطق والفلسفة، هما "أرسطو" و"أفلاطون"، فأمَّا الأول "أرسطو" فإنَّنا نجده يدعو صراحةً إلى أن يُخصِّص المواطنون أنفسهم للشئون السياسيَّة تاركين كلَّ الأعمال اليدويَّة للأرقَّاء، وأمَّا أفلاطون فلا يقول شيئًا عن نظام الرقِّ حين يتحدَّث عن نظريَّته في الملكيَّة الفرديَّة، ولكن يبدو أنَّه لم يقصد إلغاء نظام عالمي في ذلك الوقت هو نظام الرق دون أن يذكر ذلك صراحة.

وعلى ذلك يُمكن القول: إنَّ مسألة حقوق الفرد لم تبلغ شأوًا كبيرًا عند الإغريق، وهذا أمرٌ يرجع إلى عوامل اجتماعية واقتصادية اشتركت فيها الحضارات القديمة عمومًا، ولكن بعض الفلاسفة الإغريق انتقد مع ذلك التقاليد القائمة والقوانين النافذة في المجتمع، التي تُقصي العبيد والأجانب؛ فقد أُثِرَ عن بعض هؤلاء قوله: (إنَّنا جميعًا متساوون في الميلاد وفي كلِّ شيء، إنَّنا جميعًا نستنشق الهواء من الفم والأنف)، ولقد جاء في بعض النصوص على لسان أحد الأرقاء: (إنَّني يا سيدي وإن أكُ رقيقًا، أُعدُّ إنسانًا مثلك، ولقد خلقنا من لحمٍ واحد، فليس هناك من هم أرقَّاء بالفطرة).

وقد أنكر يوريبيدس صحَّة الفوارق الاجتماعية القائمة على أساس المولد حتى بالنسبة إلى الرقيق، إذ قال: (إنَّ هناك أمرًا واحدًا يجلب العار على الأرقَّاء وهو الاسم، ولا يفضلهم الأحرار فيما عدا ذلك الشيء؛ فكلٌّ منهم يحمل روحًا سليمة).

ولكن يبدو أنَّ ذلك كلَّه ظلَّ في مقولات الفلاسفة، ولم ينزل إلى حيِّز التطبيق العملي منه شيء، وظلَّت وجهة نظر الفلاسفة (السفسطائيُّون) من فكرة العدالة تربط بين العدالة وبين مصلحة الأقوى، وهذا معناه أنَّ السفسطائيُّون لهم موقفٌ من فكرة العدالة ذات الطابع الثوري؛ فهم يُشيرون إلى الصلة بين العدالة القائمة في كلِّ دولةٍ وبين ما تُقدِّره الطبقة الحاكمة من مصالح اقتصاديَّة واجتماعيَّة تُملي على المشرِّع تشريعه؛ فإنَّ الأقوى هو الدولة، وحيث إنَّ الدول متنوِّعة فإنَّ معنى العدالة بعيدٌ عن الثبات؛ بل هو في الدولة الديمقراطية ديمقراطي، وفي الدولة المستبدَّة يحمي القانون مصالح الطبقة المستبدة.

بل إنَّ أفلاطون (427-347 ق. م) يُصرِّح بأنَّ التعدِّي على وظائف الآخرين والخلط بين الطبقات الثلاث يجرُّ على الدولة -في نظر أفلاطون- أوخم العواقب، حيث إنَّ المرء لا يعد الصواب إذ عدَّ ذلك جريمة. وهذا يعني أنَّ أفلاطون وضع للعدالة حدودًا طبقيَّة واضحة لا يسمح بتخطِّيها[4].

أمَّا أرسطو فالحقيقة أنَّ موقفه يستدعي الكثير من التأمُّل من مسألة الرقِّ على وجه الخصوص؛ فهو يتساءل فيما إذا كانت الطبيعة تعدُّ أُنَاسًا أرقَّاء، فيُصبح الرقُّ بالنسبة إليهم إجراءً مشروعًا ومناسبًا، وهو يُجيب بالإيجاب فلا مناص -طِبقًا لرأيه- من وجود فئةٍ حاكمةٍ وأخرى محكومة؛ فالأعلى منزلةً يجب أن يحكم الأقلِّ منزلةً منه، والطبيعة عادة -في رأيه- تهب بدنًا قويًّا للرقيق، بينما تُودِع في جسد الحرِّ عقلًا أرجح وفكرًا أنضج، ومِنْ ثَمَّ يصبح الإنسان الحرُّ مهيَّئًا لأن يحكم، تأسيسًا على قاعدة الفكر يحكم البدن، ويَقِفُ أرسطو ضدَّ مبدأ المساواة في الحقوق الطبيعيَّة؛ فهو يعتقد أنَّ الطبيعة قد ميَّزت البعض بالعقل، ووهبت آخرين القدرة على استعمال أعضاء البدن، فالطبيعة تجعل أجسام الأفراد الأحرار مختلفة عن أجسام العبيد، فتمدُّ العبيد بالقوَّة اللازمة للقيام بالأعمال الشاقَّة بينما خُلِقت أجسام الأحرار بطبيعتها غير صالحةٍ لأَنْ تُحْنِي قوامها المستقيم للقيام بمثل تلك الأعمال الشاقَّة؛ إذ إنَّ الطبيعة تعدُّ الأحرار لوظائف الحياة المدنيَّة فحسب.

إلَّا أنَّ أرسطو في أواخر حياته وضع بعض الشروط التي تكفل إدخال بعض الإصلاحات على حالة الرقيق؛ فقد نادى بضرورة معاملة الرقيق معاملةً حسنة، وبأن يمدُّ له الأمل في منح الحرِّيَّة يومًا، كما نصح بعتق الأرقَّاء، وقرَّر في وصيَّته عتق عبيده[5].

اقتصرت إذًا أفكار فلاسفة اليونان -مع التمايز الطبقي الواضح، والتبرير لوجوده- على المناداة بـ"معاملة الرقيق معاملةً حسنة"، ولم يبرز عند أحدٍ منهم "كيفيَّة" هذه المعاملة، أو "تطبيق" هذه المعاملة عمليًّا، وواقعيًّا؛ بل ولم يوجد في تاريخ الحضارة اليونانية بيتٌ واحدٌ لإيواء معسر، أو مجموعةٌ واحدةٌ تُنادي بضرورة رعاية المحتاجين، أو الإنفاق على الفقراء، أو أي مظهرٍ آخر من مظاهر التكافل الاجتماعي.

ويذكر ول ديورانت في "حياة اليونان": "لم يكن اليونان في القرن الخامس مثلًا طيِّبًا في حسن الخُلُق، وذلك لأنَّ ارتقاء عقولهم قد أحلَّ الكثيرين منهم من تقاليدهم الأخلاقيَّة، وجعل منهم أفرادًا يكادون يكونون لا خَلَاق لهم!! فلم يكونوا يُؤْثِرُون على أنفسهم أحدًا غير أبنائهم، وقلَّما يشعرون بوخز الضمير، أو يفكرون قط في أن يُحبُّوا جيرانهم كما يُحبُّون أنفسهم[6].

المجتمع في الحضارة الهندية

عرف الشعب الهندي منذ القدم نظامًا طبقيًّا صارمًا، يُقسِّم طبقات المجتمع إلى سادةٍ لهم كل الحقوق، وعبيدٍ ليس لهم أيُّ حقٍّ، وعليهم أن يُنفذوا الأوامر فحسب!! إذ "لم يُعرف في تاريخ أمَّة من الأمم نظامًا طبقيًّا أشدَّ قسوة، وأعظم فصلًا بين طبقةٍ وطبقة، وأشدَّ استهانةً بشرف الإنسان، من النظام الذي اعترفت به الهند دينيًّا ومدنيًّا، وخضعت له آلافًا من السنين ولا تزال، وقد بدت طلائع التفاوت الطبقي في آخر العهد الويدي (1500-500 ق.م) بتأثير الحِرَف والصنائع وثوراتها، وبحُكْم المحافظة على خصائص السلالة الآريَّة المحتلَّة ونجابتها، وقَبْل ميلاد المسيح بثلاثة قرون ازدهرت في الهند الحضارة البرهميَّة، ووُضِع فيها مرسومٌ جديدٌ للمجتمع الهندي، وأُلِّف فيه قانونٌ مدنيٌّ وسياسيٌّ اتَّفقت عليه البلاد، وأصبح قانونًا رسميًّا ومرجعًا دينيًّا في حياة البلاد ومدنيَّتها وهو المعروف الآن بـ "منوشاستر".

يُقسِّم هذا القانون أهل البلاد إلى أربع طبقات مختلفة، وهي:

(1) البراهمة: طبقة الكهنة ورجال الدين.

(2) شتري: رجال الحرب.

(3) ويش: رجال الزراعة والتجارة.

(4) شودر: رجال الخدمة"[7].

"وقد منح هذا القانون طبقة البراهمة امتيازات وحقوقًا ألحقتهم بالآلهة؛ فقد قال: إنَّ البراهمة هم صفوة الله وهم ملوك الخَلْق، وإنَّ ما في العالم هو مِلكٌ لهم؛ فإنَّهم أفضل الخلائق، وسادَة الأرض، ولهم أن يأخذوا من مال عبيدهم شودر -من غير جريرة– ما شاءوا؛ لأنَّ العبد لا يملك شيئًا، وكلُّ ماله لسيِّده.

أمَّا شودر "المنبوذون" فكانوا في المجتمع الهندي -بنصِّ هذا القانون المدني الديني- أحطَّ من البهائم وأذلَّ من الكلاب، فيُصرِّح القانون بأنَّ "مِن سعادة شودر أن يقوموا بخدمة البراهمة، وليس لهم أجرٌ وثوابٌ بغير ذلك، وليس لهم أن يقتنوا مالًا، أو يدَّخروا كنزًا؛ فإنَّ ذلك يُؤذي البراهمة، وإذا مدَّ أحدٌ من المنبوذين إلى برهميٍّ يدًا أو عصًا ليبطش به قُطِعت يده، وإذا رفسه في غضب فُدِعَت رِجْلُه، وإذا هَمَّ أحدٌ من المنبوذين أن يُجالس برهميًّا فعلى الملك أن يكوي استه، وينفيه من البلاد، وأمَّا إذا مسَّه بيدٍ أو سبَّه فيقتلع لسانه، وإذا ادَّعى أنَّه يُعلِّمُه سُقِيَ زيتًا فائرًا، وكفَّارة قتل الكلب والقطَّة والضفدعة والوزغ والغراب والبومة ورجل من الطبقة المنبوذة سواء"[8].

وجديرٌ بالذكر أنَّ هذا الوضع القاسي لم يكن طريقةً رآها فلاسفة المجتمع، أو مجرَّد طبيعة جرت عليها نفوس أهل الهند في ذلك الزمان؛ بل كان ذلك ما ينصُّ عليه كتابهم كقانونٍ رسميٍّ للدولة، في كتابهم المسمَّى "منوشاستر"، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى نجد أنَّهم قد "فرضوا الضرائب الباهظة على الزراعة والتجارة تدعيمًا لأركان الحكومة، وكان على الفلاَّح أن يتنازل من محصوله عن مقدارٍ يتراوح بين سدسه ونصفه، وكذلك فُرضت ضرائب كثيرة على تبادل السلع وإنتاجها...

وكما هي الحال في كلِّ أرجاء العالم، كان في الهند إذ ذاك تفاوتٌ واسعٌ بين الفقر والغنى؛ ففي أسفل السُّلَّم كانت هناك أقلِّيَّة صغيرة من العبيد، ويتلوهم صعودًا فئة "الشودرا" الذين لم يكونوا عبيدًا بقدر ما كانوا مأجورين على عملهم، ولو أنَّ منزلتهم الاجتماعية كأُجَراء كانت تُوَرَّث، كما هو الحال في سائر المنازل الاجتماعية بين الهنود"[9].

وهكذا بدا لنا، ومن مصادر متباينة، كيف كان "التمايز الطبقي" هو الأساس الذي قام عليه المجتمع الهندي، فلا عجب أن تظلَّ الحضارة الهندية حضارة قصور الزعماء والرؤساء، لا مكان فيها لفقير، ولا مأوى فيها لمحتاج!!

المجتمع في الحضـارة الفارسية

لم يكن الحال في الحضارة الفارسية (إيران القديمة) أفضل حالًا من الحضارة الهنديَّة؛ فقد وُجد لديهم -أيضًا- ذلك التمايز الطبقي المقيت، فبين فئات الشعب تَذْكُر الأوتسا (كتاب القانون في إيران) ثلاث طبقات للمجتمع: طبقة رجال الدين، وطبقة رجال الحرب، وطبقة الزراع؛ بل والأكثر من ذلك أنَّهم اعتمدوا على تقسيم هذه الطبقات نفسها إلى طبقات، ولكلِّ طبقةٍ رئيس، وكان هذا التقسيم -كما هو واضح- سياسيٌّ إلى حدٍّ كبير، وإلى جواره -أيضًا- وُجِد تقسيمٌ اجتماعيٌّ يُقسِّم الطبقات الراقية من المجتمع (الرؤساء وأفراد العائلات الكبيرة الثريَّة)[10].

"وكان المجتمع الإيراني مؤسَّسًا على اعتبار النسب والحِرف، وكان بين طبقات المجتمع هوَّة واسعة لا يقوم عليها جسرٌ ولا تصل بينها صلة، وكانت الحكومة تحظر على العامَّة أن يشتري أحدٌ منهم عقارًا لأميرٍ أو كبير، وكان من قواعد السياسة الساسانيَّة أن يقنع كلُّ واحدٍ بمركزه الذي منحه نسبه، ولا يستشرف لِمَا فوقه، ولم يكن لأحدٍ أن يتَّخذ حرفةً غير الحرفة التي خلقه الله لها، وكان ملوك إيران لا يُولُّون وضيعًا وظيفةً من وظائفهم، وكان العامَّة كذلك طبقات متميِّزة بعضها عن بعضٍ تميُّزًا واضحًا، وكان لكلِّ واحدٍ مركزٌ محدَّدٌ في المجتمع"[11].

ويذكر بعض المؤرِّخين أنَّ المجتمع الإيراني قد قام على أساسين؛ هما النسب والمَلَكِيَّة، كما جاء في كتاب (تنسر) حيث ميَّز "الأشراف" عن الحرفيِّين والعمال باللباس والزينة، كما ميَّزت أزواجهم بثياب الحرير والقصور العظيمة... وعلاوةً على هذا وُجدت الدرجات الاجتماعية في جميع الطبقات، فكان لكلِّ فردٍ مرتبته ومكانه المحدَّد في الجماعة، وكان الفلَّاحون تابعين لصاحب الأرض، مُجْبَرِين على السُّخْرَة والخدمة، وكانت كثرتهم العظمى تسير وراء الجيوش، وكأنَّها ذاهبةٌ إلى ذُلٍّ أبدي، بغير أجرٍ يُحفِّزها ولا مكافآت، ولم تكن هناك قوانين لحماية الفلاحين[12]!

المجتمع في حضارة قدماء المصريين

عَرفت الحضارة المصرية القديمة منذ بداية تأسيسها نظام "الأسرات" الحاكمة، الذي نشأ على أساسه تراتب طبقي وطيد، قُسِّم المجتمع على ضوءه إلى طبقةٍ حاكمة، وطبقة محكومة، وتجدر الإشارة إلى أنَّ تلك الطبقة الحاكمة لم تقتصر على الملوك والرؤساء فحسب؛ وإنَّما شملت كذلك طبقة "الكهنة" و"كبار رجال الدولة"، ممَّن يملكون نفوذًا سياسيًّا أو دينيًّا يُؤْثَرُون به على العامَّة، ويَفْرِضون به عليهم ولاءهم وطاعتهم، مُجْبَرِين أو مختارين!

وهكذا كان العزُّ والثراء حكرًا على الحكَّام والأمراء وأصحاب النفوذ والسلطان، وتفاوتت درجات تعاملهم مع شعبهم كلٌّ حسب طبعه، أو مزاجه الشخصي، إلَّا أنَّه غلب عليهم طابع الجبروت والقسوة، وتسخير العمَّال لمصالحهم الشخصيَّة والخاصَّة.

فقد "توفَّر لكبار الموظَّفين بالدولة والكهنة -بصفةٍ خاصَّة- نصيبٌ واسعٌ من الإمكانيَّات المادِّيَّة، وازدادت أسباب التقارب بينهم وبين الملوك شيئًا فشيئًا، ممَّا جعل بعض الملوك لا يرى بأسًا في أن يُولِّي أبناء كبار الموظفين المقرَّبِين منهم مناصب آبائهم بعد وفاتهم، ولا شَكَّ أنَّه على هذا الأساس فقد ظلَّت الطبقة المرفهة أو الميسورة مادِّيًّا حكرًا على هؤلاء الموظَّفِين، بعد أن بقيت طبقة الملوك والحكَّام تسير بالطريقة المَلَكِيَّة ذاتها، وبهذا زاد الفقر، وارتفعت معدلات البؤس في الطبقات الأدنى، التي كان منها الزُرَّاع والفلاَّحين، الذين كانوا يُعدُّون الطبقة المهمَّشة في مصر القديمة[13].

ويذكر وِل ديورانت في حديثه عن الزرَّاع والفلاَّحين في مصر القديمة أنَّ كلَّ فدانٍ من الأرض كان ملكًا لفرعون لا يستطيع غيره من الناس أن يفعلوا به إلَّا بإذنٍ منه، وكان على كلِّ زارع أن يُؤدِّي له ضريبةً سنويَّةً عينيَّةً تتراوح ما بين عُشر المحصول وخُمسه، وكان أمراء الإقطاع وغيرهم من الأثرياء يملكون مساحات واسعة من الأرض، وفي وسعنا أن نتصوَّر ما كانت عليه أملاكهم من الاتِّساع إذا علمنا أنَّ واحدًا منهم كان يملك ألفًا وخمسمائة بقرة... وكانت معيشة الفلاحين معيشة ضنكًا، فأمَّا مَن كان منهم مزارعًا "حرًّا" فلم يكن يخضع إلَّا للوسيط والجابي، وكان هذان الرجلان يُعاملانه على أساس المبادئ الاقتصاديَّة التي ثبتت تقاليدها على مدى الأيام، فكانوا يأخذون من محصول الأرض كلَّ ما تتحمَّله وسائل النقل"[14].

هكذا كان القانون والمبادئ الاقتصاديَّة القائمة على استنزاف جهود هؤلاء الفلاحين والزرَّاع لا لشيءٍ إلَّا لأنَّهم في طبقةٍ اجتماعيَّةٍ أقلَّ!! وعلى ذلك فلا تهتمُّ الطبقة الحاكمة "صاحبة النفوذ" بهم، ولا تُوفِّر لهم شيئًا يُذْكَر!!

ويُضيف ديورانت: "وإلى القارئ رأْي أحد الكتبة الظرفاء في حياة معاصريه من الرجال الذين كانوا يطعمون مصر القديمة: "هلا استعدْت في خيالك صورة الزارع حين يُجْبَى منه عُشْرَ حَبِّه؟ لقد أتلفَتِ الديدان نصف القمح، وأكَلَتْ أفراس البحر ما بقي له منه، وهاجمتها في الحقول جماعاتٌ كبيرةٌ من الجرذان، ونزلَت بها الصراصير، والماشية النهمة، والطيور الصغيرة تختلس منها الشيء الكثير، وإذا غفل الفلَّاح لحظةً عمَّا بقي له في الأرض، عدا عليه اللصوص، يُضاف إلى هذا أنَّ السيور التي تربط الحديد والمعزقة فقد بليت، وأنَّ الثورين قد ماتا من جرِّ المحراث، وفي هذه اللحظة يخرج الجابي من القارب عند المرسى ليطلب العشور، ثم يأتي حُرَّاس أبواب مخازن "المـَلِك" بعِصِيِّهم، والزنوج بجريد النخل، يصيحون: تعالَوا الآن، تعالوا! فإذا لم يأتهم أحدٌ طرحوا الزارع أرضًا، وربطوه، وجرُّوه إلى القناة، وألقوه فيها مبتدئين برأسه، وزوجته مربوطة معه، ثم يسلك أطفاله في السلاسل، ويفرُّ جيرانه من حوله ليُنْقِذوا حُبُوبَهم"[15].

هكذا بكلِّ جبروت، إذا لم يُقَدِّم الزارع الضريبة المفروضة عليه، حتى لظروف خارجة عن إرادته، فإنَّه يُتعاملُ معه بكلِّ قسوة، ويُعذَّب هو وأسرته!!

هكذا كان المجتمع في حضارةٍ بثَرَاء وعظمة الحضارة المصرية، وإنَّ المرء ليعجب من هذا السلوك الذي يستمرُّ في البشر حتى مع زوال الظالم أو المستبدِّ، وكلُّ ذلك يعكس مدى أهميَّة وجود قوانين وتشريعات تحفظ للمظلوم حقَّه، وتُحاسب الظالم على ظلمه...

وكان نتيجة طبيعيَّة لذلك أن حدثت مجاعة عنيفة في أواخر أيَّام الأسرة العشرين:

"اشتدَّت فيها الضائقة على الطبقات العاملة كلِّها، بسبب استمرار الملوك والأمراء وكبار الموظفين والكهان في حصولهم على الأموال والثراء على حساب تلك الطبقات العاملة، واستنزاف كلِّ طاقاتهم، وارتفعت أسعار الأقوات إلى أكثر من ثلاثة وخمسة أمثالها!! وسُمِّي أحد أعوامها عام "الضباع"، وهو تصويرٌ بالغ القسوة إلى أيِّ مدى أصبح تعامل الناس مع بعضهم في هذه الأثناء، وزاد من ذلك أن قلَّ فيضان النيل، وتضخَّم عدد العمال دون عمل، وتكرَّرت إضراباتهم دون جدوى، وحدث مرَّةً أن عطف عليهم أحد العمد فصرف لهم خمسين غرارة من الحبوب من أحد المعابد، إلَّا أنَّ كهنة المعبد تآزروا ضدَّه، وعزَّ عليهم أن ينتقص من مدَّخرات المعبد ليُطعم العمَّال منها، فاشتكوه إلى الوزير، ووصفوا فعلته بأنَّها اغتصابٌ وجريمةٌ شنعاء"[16]!!

هكذا تنقلب الحقائق، وتتغيَّر المعايير، فلا يغدو للمظلوم حقٌّ، وتغدو محاولته لأخذ جزءٍ من حقِّه اغتصاب وجريمة!!

هكذا كان الحال في مصر القديمة، اضطهادٌ وتعذيبٌ للفقراء وقت الحكم، وفوضى لا يُعْرَف فيها حقٌّ من باطلٍ وقت الثورات!!

المجتمع في الحضارة الصينية

تُعَدُّ الحضارة الصينيَّة من أقدم وأعرق الحضارات التي تأسَّست بجذورٍ عميقةٍ في العالم القديم، ويذكر المؤرِّخون أنَّ الصينيِّين كانوا من أكثر الشعوب "مَدَنِيَّة" وَتَحَضُّرًا" منذ فجر التاريخ، وقد قال فيهم ديدرو: "أولئك قومٌ يَفُوقُون كلَّ من عداهم من الآسيويِّين في قِدَم عهدهم، وفي فنونهم، وعقليَّتهم، وحكمتهم وحسن سياستهم، وفي تذوُّقهم للفلسفة؛ بل إنَّهم في رأي بعض المؤلِّفين ليُضَارعون في هذه الأمور كلِّها أرقى الشعوب الأوربيَّة وأعظمها استنارة". وقال فولتير (Voltaire): "لقد دامت هذه الإمبراطوريَّة أربعة آلاف عام دون أن يطرأ عليها تغيُّر يُذكر في القوانين، أو العادات، أو اللغة، أو في أزياء الأهلين... وإنَّ نظام هذه الإمبراطوريَّة لهو في الحقِّ خيرُ ما شهده العالم من نُظُمٍ"[17].

هكذا يُصوِّر مفكِّرو العالم الغربي تلك الحضارة، وإنَّنا لنعجب كلَّ العجب حينما نُقلِّب كذلك في صفحاتها، باحثين عن شكل المجتمع في هذه الحضارة الراقية، لنجد أنَّها لم تختلف كثيرًا عن مثيلاتها من حضارات العالم القديم، ولعلَّنا تحسن بنا الإشارة هنا إلى أنَّ فكرة التمايز الطبقي بحدِّ ذاتها ليست ولم تكن أبدًا دليلًا على رُقِيِّ شعبٍ أو انحطاط آخر؛ وإَّنما المعوَّل عليه في تصوُّرنا هو مدى تفاعل تلك الطبقات مع بعضها، وكيف كانت تنظر الطبقة الأعلى إلى الطبقة التي دونها، وما ينشأ بينهم من علاقات وروابط...

في الصين القديمة ظهرت الزراعة مبكِّرًا، وتزايد الاهتمام بها، ممَّا أدَّى إلى ظهور نظام الإقطاع الذي أنبت بذور الطبقيَّة، وأشعل الاضطرابات والانتفاضات العديدة في معظم الأقاليم الصينيَّة[18]. وسرعان ما ظهرت الأسر الحاكمة في الصين، التي بدأت تفرض وصايتها على المجتمع؛ بل ونشأ عندهم ما عرَّفه المؤرِّخون باسم "المجتمع العبودي" وانقسم المجتمع حينها إلى طبقتين أساسيَّتَيْن:

الأولى: طبقة مُلاَّك العبيد الأرستقراطيِّين، الذين تملَّكوا الأراضي الزراعية بمساحات شاسعة، وكان قائدهم الأعلى هو المـَلِك.

والثانية: طبقة العبيد، الذين قاموا بفلاحة الأراضي، وجني المحصول، وتربية المواشي لصالح الطبقة الأولى.

وإلى جانب هاتين الطبقتين كانت توجد طبقة العامَّة المنحدرة، التي يعمل أبناؤها في الحرف اليدوية.

وكانت الزراعة تقوم على أكتاف العبيد، على الرغم من أنَّ الأراضي الزراعية كلَّها أصبحت ملكًا للدولة؛ أي للملك، وكان الملك يُوزِّعها على الأمراء والوزراء على شكل قطعٍ محدَّدة، وتمَّ تسخير العبيد لزراعة تلك الحقول، وكذلك القيام بكافَّة الأعمال الخاصَّة بالزراعة وتربية المواشي لصالح طبقة الأمراء الأرستقراطيِّين، وعلى رأسهم الملك.

والأنكى من ذلك كلِّه أنَّ فئة النبلاء تلك (أو الأرستقراطيِّين المستحقِّين للخدمة) قُسِّمت إلى خمس فئات تبعًا لنفوذهم وثرائهم: فهناك الملك وأفراد أسرته كفئةٍ أُولَى، وهي الأكثر ثراءً، وهناك الأمراء والوزراء وكبار قادة الجيوش فئة ثانية، وكبار الموظفين كفئةٍ ثالثة، أمَّا الرابعة فكانت من الكهنة وأصحاب الخدمات الجليلة كالأطباء والمهندسين وبعض التجار، والفئة الخامسة كانت من أصحاب المهن المتميِّزة كالمدرِّسين والسحرة والكُتَّاب والفنَّانون... إلخ.

وشيئًا فشيئًا تضخَّمت ثروات الأمراء والأستقراطيِّين، وانضمَّ إليهم النبلاء وكبار الموظفين وكبار التجار، حيث كوَّنوا القوَّة السائدة للأثرياء في المجتمع، أمَّا الفلاحون فقد فَقَدوا أراضيهم، وأصبحوا عبيدًا ومشرَّدِين، وكان الأثرياء المتملِّكون للأراضي يستنزفون جهود الفلاحين دون أن يعطوهم الحدَّ الأدنى لقُوتِهم اليومي، ممَّا دفع إلى اندلاع العديد من الانتفاضات الفلاحية ضدَّ الأُسَر الحاكمة، التي كانت سرعان ما يُقْضَى عليها قبل أن تَقْضِي على طبقة الملَّاك[19]!!

هذا، وتُشير الوثائق التاريخيَّة إلى أنَّ مملكة شانغ عُرِفت بقسوة العقوبات وفظاعتها، وبشدِّة النظام العبودي فيها، الذي لم يكتفِ فيه مُلاَّك العبيد الأرستقراطيِّين من الاستيلاء على وسائل الإنتاج فحسب؛ بل استحوذوا على العبيد أيضًا، واعتبروهم أداةً ناطقة، وكان يحقُّ لهم قتلهم كما تُقْتَل الحيوانات، وتقديمهم قربانًا للموتى بدلًا من الماشية، وكان العبيد يواجهون ذلك التسلُّط والاضطهاد البشع بتخريب وسائل الإنتاج، والهروب من مواقع العمل وشنِّ الانتفاضات العديدة، التي زعزعت كيان هذه الأسرة[20].

وقد جاء في سجلات "نقوش العظام الكهنوتية" أنَّ أحد القادة قَتَل 2656 عبدًا في إحدى المناسبات الطقوسيَّة، ويُدْفَن العبيد مع سيِّدِهم بعد أن يُقْتَلوا لهذا الغرض، وقد كشف قَبْر أحد ملوك شانغ عن 400 عبدٍ قُدِّموا قربانًا له[21]!!

ويذكر أنَّ المجتمع قد انقسم في عهد تلك الأسرة إلى "ثلاث طبقات، الأولى: النبلاء؛ وهي التي تضمُّ الملك وحاشيته، وكبار وزراءه، والطبقة الثانية: هي العامة؛ وهي جمع الشعب الصيني من عمال ومزارعين، وحرفيين، وكانت الحقوق المقرَّرة لهم تقلُّ بدرجةٍ كبيرةٍ جدًّا عن الحقوق المقرَّرة لطبقة النبلاء، كما لم يتقرَّر لأفرادها أيُّ امتيازات؛ بل على العكس كانت تُفرض عليهم التزامات عديدة، مثل دفع الضرائب.. وغير ذلك، أمَّا الطبقة الثالثة: فهي بلا شَكٍّ طبقة العبيد الذين كان معظمهم من أسرى الحروب واللقطاء، وهؤلاء -كما ذكرنا سابقًا- كانوا الأداة الناطقة، وكانوا يسمونهم بالنار في وجوههم لتمييزهم عن العامَّة، ويربطونهم من أعناقهم عند العمل، ويُعاملونهم أسوأ معاملة[22]!!

وكانت دولة "تشين" قد كلَّفت الشعب أعباءً باهظة؛ إذ كان على الفلَّاحين تسليم ثلثي محاصيلهم إلى الحكومة كضرائب، بالإضافة إلى ما عليهم من الخدمات العسكرية والسخرة، وقد سخَّر أحد ملوكهم أكثر من 700 ألف شخصٍ لبناء قصور آفانغ (شمال العاصمة)، وكانت قوانين تلك الأسرة قاسيةً جدًّا؛ فقد قضت أن تأخذ العائلة بجريمة الفرد الواحد منها، وتُآخِذ الجار بجاره!! وأدَّت تلك السياسة إلى خراب الإنتاج الاجتماعي، وإلقاء الشعب في هاوية الفقر، ممَّا عمَّق التناحر الطبقي بين الحكام الإقطاعيِّين والفلاحين[23].

وفي عهد أسرة الهان الشرقيَّة: "انغمس ملَّاك الأراضي في الترف والبذخ، تاركين العمال و"الشغيلة" جياعًا، لا يجدون قُوت يومه!! ممَّا دفعهم لأنَّ يُشْهِروا سيوفهم، ويَخرجوا في انتفاضة جماهيرية كبرى، ممَّا دفع بالحكومة إلى تركيز جهودها في صدِّ انتفاضات الفلاّحين، فأنشأت جيوشًا محلِّيَّة نظَّمتها بالاندماج مع ملاك الأراضي، مما أتاح للموظفين المحليين أن يضخموا نفوذهم الشخصي، ويتصرفوا كأمراء حرب، وبينما كانت الحملات التأديبية ضدَّ الفلاحين قائمة على قدم وساق، كان هؤلاء الأمراء الجدد يتقاتلون على مناطق النفوذ، مما أنزل الخسائر الشديدة بأرواح الشعب وممتلكاته!![24].

هكذا كان المجتمع في تلك الحضارة العريقة!! يقوم على استعباد طائفة ثرية عن طريق استنزاف جهود من هُمْ أدنى منهم، بل وفرض عقوبات وضرائب تعسفيَّة على العامَّة، حتى تظلَّ هي الطبقة الأعلى، والأكثر ثراءً...

وعلى الرغم من وجود انتفاضات شعبية عديدة حدثت في تلك الحضارة القديمة، من العبيد مرَّة ومن عامَّة الشعب مرَّات، إلى أنَّ ذلك النظام وتلك الهيمنة ظلَّت هي المسيطرة على أجواء الحضارة الصينية القديمة ردحًا من الزمان.

المجتمع في الحضـارة الرومانية

تُعدُّ الحضارة الرومانية من أعظم حضارات أوربَّا بعد الحضارة الإغريقيَّة اليونانيَّة، وقد عرفت هذه الحضارة نُظُمًا إداريَّة ومدنيَّة جديدة على البشريَّة، فمِنْ ذلك القانون الذي وضعته، الذي يكشف لنا عن مدى ما تَوصَّل إليه مفكروهم وفلاسفتهم من عِلْم وخبرة، ونجد في (قانون الأحوال الشخصية) لديهم تصوُّرهم لطبيعة عَلاقة الفرد بالمجتمع، وما له من حقوق وما عليه من واجبات.

وكشأن غيرها من المجتمعات القديمة تألَّف المجتمع الروماني من سادة، وعامَّة، وعبيد، وكان للسادة كافَّة الحقوق، أمَّا العبيد فلم تكن لهم حقوقٌ مدنيةٌ على الإطلاق، والحقُّ أنَّ القانون الروماني كان يتردَّد في أن يُطلق عليه لفظ شخص (Person)، ثم خرج أخيرًا من هذه الورطة بأن سمَّاه "إنسانًا غير شخصي"، وكانوا يعدُّون العبد من قبيل المتاع، فلم يكن يحقُّ له أن يمتلك، أو يرث، أو يورث، ولم يكن يستطيع أن يتزوَّج زواجًا شرعيًّا، وكان أبناؤه كلُّهم يعدُّون أبناء غير شرعيِّين، كما أنَّ أبناء الجارية كانوا يعدُّون كلهم عبيدًا ولو كان أبوهم من الأحرار، وكان في وسع السيِّد أن يرتكب الفحشاء مع عبيده وجواريه من غير أن ينالوا منه تعويضًا قانونيًّا، ولم يكن في مقدور العبد أن يُقَاضي من يُؤذيه من المحاكم، وكان الذي يحقُّ له أن يُقاضي مَنْ يتسبب في إيذاء العبد هو سيده، وكان لهذا السيِّد في عهد الجمهوريَّة أن يضربه، ويسجنه، ويحكم عليه أن يُقاتِل الوحوش في البرِّيَّة، ويُعَرِّضه للموت جوعًا، أو يقتله لسببٍ أو لغير سبب، ومن غير أن تكون عليه رقابةٌ إلَّا رقابة الرأي العامِّ المكوَّن من ملَّاك العبيد.

وإذا أَبَق عبدٌ ثم قُبض عليه كان في مقدور سيِّده أن يكويه بالنار أو يصلبه؛ وكان أغسطس يفخر بأنَّه قبض على ثلاثين ألفًا من العبيد الآبقين، وأنَّه صلب كلَّ مَنْ لم يكن له مَالِكٌ يطلُبه، وإذا ما استفزَّ العبد عَمَلٌ من هذه الأعمال أو غيرها فقَتل سيِّدَه، قَضَى القانون بأن يُقْتَل جميع عبيد القتيل؛ ولَمَّا أن قُتِلَ الوالي بدانيوس سكندس (Pedanius Secundus) في عام 61م، وحُكِم على عبيده الأربعمائة بالإعدام، احتجَّت أقليَّة من أعضاء مجلس الشيوخ على هذا الحكم، وطلبت جماعة غاضبة في الشارع باستعمال الرأفة، ولكن المجلس أصرَّ على تنفيذ القانون اعتقادًا منه أنَّ السيد لا يكون آمنًا على نفسه من عبيده إلَّا بمثل هذه القسوة"[25].



المصدر:

كتاب رحماء بينهم، للدكتور راغب السرجاني.

[1] ول ديورانت: قصة الحضارة 1/32 وما بعدها بتصرف.

[2] ول ديورانت: قصة الحضارة 1/33.

[3] كافلين ريكلي: الغرب والعالم ص76 بتصرف.

[4] صلاح الدين الناهي: العدالة في تراث الرافدين وفي الفكرين اليوناني والعربي الإسلامي ص39.

[5] غانم محمد صالح: الفكر السياسي القديم والوسيط ص109، 110.

[6] ول ديورانت: قصة الحضارة 7/93 وما بعدها بتصرف.

[7] أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص72 وما بعدها.

[8] السابق 75.

[9] ول ديورانت: قصة الحضارة 3/158، 159.

[10] أرثر كريستنسن: إيران في عهد الساسانيين ترجمة يحيى الخشاب ص86.

[11] السابق: ص390 وما بعدها.

[12] محمد عبد القادر: إيران منذ فجر التاريخ ص183.

[13] عبد العزيز صالح: مصر القديمة ص199.

[14] ول ديورانت: قصة الحضارة 2/82 وما بعدها.

[15] السابق نفسه.

[16] انظر عبد العزيز صالح: مصر القديمة ص360.

[17] ول ديورانت: قصة الحضارة 4/9، 10.

[18] سمير أبو العينين: الحضارة الصينية القديمة ص185.

[19] سمير أبو العينين: الحضارة الصينية القديمة ص190 وما بعدها (بتصرف).

[20] سمير أبو العينين: الحضارة الصينية القديمة ص233.

[21] تاريخ الصين 1/13 من سلسلة كتب سور الصين العظيم، بدون مؤلف.

[22] سمير أبو العينين: الحضارة الصينية القديمة ص480.

[23] تاريخ الصين ص 33.

[24] تاريخ الصين 49 وما بعدها، بتصرف.

[25] ول ديورانت: قصة الحضارة 10/370، 371.