في جنح الظلام!

وبصحبة الشيطان!

جلس أكابر المجرمين في مكة يتباحثون في أمر القرآن!

هذا الكتاب عجيب! حُجَّته بالغة.. وطريقته معجزة..

يأخذ الألباب.. يأسر الأرواح.. يُفحم العقول.. وليست لنا به طاقة!

سَحَرَ كبارنا وصغارنا.. ورجالنا ونساءنا.. وأحرارنا وعبيدنا..

ماذا عسانا أن نفعل؟!

مناقشات ومحاورات.. وأفكار واقتراحات..

علت أصواتهم.. واحمرَّت وجوههم.. وارتعشت أجسادهم..

وأخيرًا جاء القرار!!

{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}[فصلت: 26]!

هذا هو الحلُّ الوحيد.. والمخرج الفريد..

وتقاسموا على ذلك باللات والعزى.. ومناة الثالثة الأخرى..

لكن أنت تشاء، وأنا أشاء، والله يفعل ما يشاء!

أَبَى اللهُ إلا أن يُسمِع أحد كبار المجرمين، وعتاة المشركين، بضع آيات من القرآن الكريم!

الوليد بن المغيرة!

سيد بني مخزوم.. وحكيم قريش.. وأحد قوَّادها.. ومن أكابر نبهائها..

وقف الخبير القرشي أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد طأطأ رأسه، وأرهف أذنه!

واستمع واستمع.. وخشع وارتدع!

وعاد إلى قومه مسرعًا، ولأصحابه ناصحًا..

أيها الناس جميعًا.. يا شباب قريش ويا رجالها.. يا زُوَّار مكة ويا أهلها..

سمعتُ محمدًا، وهذا رأيي فيه.. وفقهتُ قرآنه، وهذا تعليقي عليه:

«والله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه ولا بقصيده منِّي، ولا بأشعار الجنِّ..

والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا..

والله! إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة..

وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله..

وإنه ليعلو وما يُعلى عليه..

وإنه ليحطم ما تحته»[1]!!

إن ما حدث مع الوليد بن المغيرة زعيم قريش ليس أمرًا فريدًا.. بل هو الأصل في قصة هذا القرآن العظيم.. ما استمع له أحدٌ بإنصات وتدبُّر إلا كان هذا ردَّ فعله، وهذا مع كل الناس.. مع الخبراء والحكماء، وكذلك مع العامَّة والدهماء.. ومثل الذي حدث مع الوليد بن المغيرة رأيناه مع عتبة بن ربيعة وأبي جهل وغيرهما.. لقد أدرك الجميع أن هذا الكلام معجز بكل المقاييس، فلم يُفَكِّروا أن يحاكوه أو يصوغوا مثله قط.. وأدركوا منذ الوهلة الأولى أن هذا ليس من كلام البشر ولا الجنِّ..

هذا حدث مع كل المستمعين للقرآن..

وانقسم الناس إلى مؤمن يزداد إيمانًا كلَّما استمع القرآن، وكافر أدرك الحقَّ ورغِب عنه لحاجة في نفسه! ذكر الله عز وجل هاتين الطائفتين في قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة: 124، 125]..

لا يترك القرآن أحدًا إذن إلَّا وأحدث فيه أثرًا..

فما الذي يحدث مع بعضنا؟!

إنَّ منَّا مَنْ يقرأ القرآن في صلاته، أو يسمع له من إمامه، ولا يخشع فيه!

فماذا نحن فاعلون؟!

أكان قلب الوليد بن المغيرة أرقَّ من قلوبنا؟! أم أن هناك أمرًا ما نحن عنه غافلون؟!

واقع الأمر أن الذي لا يتدبَّر القرآن لم يفهم على الحقيقة ما هو القرآن! والقرآن ببساطة هو «رسالة»!

إنه رسالة من ربِّ العالمين إلى البشر يدلُّهم فيها على ما يُصلح دنياهم وآخرتهم، وهو ما ذكره الحسن بن علي رضي الله عنهما في قوله العميق: «إنَّ مَنْ كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبَّرونها بالليل، ويتفقَّدونها في النهار»[2].

ولهذا فليس هدف التدبر في القرآُّن هو فقط رفع الدرجات، وتكثير الحسنات؛ إنما الهدف هو البحث عن مراد الله عز وجل منَّا حتى نصل بفضله إلى بغيتنا، وهي رضاه سبحانه والجنة! والذي يفهم هذا المقصود يُنْصِت؛ والذي يُنْصِت يفهم ويتدبَّر، والذي يفعل ذلك يتأثَّر لا محالة!

[1] الحاكم (3872) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري. ووافقه الذهبي، وانظر: السيوطي: لباب النقول، ص206، وصححه الصوياني، انظر: الصحيح من أحاديث السيرة النبوية ص54، 55، وأورده الألباني في صحيح السيرة النبوية ص158.

[2] أبو طالب المكي: قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد 1/107، وأبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 1/275، والنووي: التبيان في آداب حملة القرآن ص54.