بمناسبة بدء الموسم الجديد من المسلسل الجماهيري «صراع العروش»، كتب المؤرخ والكاتب آيليت هايمسون لوشكوف، لموقع «هيستوري إكسترا» عن عدد من ملامح التاريخ التي ربما تكون قد ألهمت كاتب المسلسل. قال لوشكوف:
الجدار
ربما يكون هذا الحاجز الجليدي الضخم الذي يشير إلى نهاية الممالك السبع، أشهر بناء في «ويستروس»، والمرتبط قطعًا بالدولة الرومانية القديمة. وقد قال جورج آر آر مارتن نفسه إنه صممه على غرار سور هادريان، الذي كان يقسم شمال إنجلترا بين نهر التاين ولسان سولواي البحري، حيث كان يمكن لجندي روماني أن يحدق في الغابة الكثيفة وراءه متسائلًا عن الأخطار الرابضة بين الأشجار، وحيث كان باستطاعته أن يحمي زملاءه الجنود ومواطني بريطانيا من تهديد حلف قبائل «البيكتس» المغيرة، وهناك أيضًا، في محطات على طول السور، وفي أماكن مثل قلعة غيندولاندا، قد يعيش هذا الجندي حياته بأسرها. على الجانب الجنوبي كانت الحضارة والأمان، بينما في الشمال كانت البرية والفوضى.
لكن حتى الرومان اعترفوا بأنَّ ثمة طريقة أخرى للنظر إلى ذلك الأمر فقد تخيل المؤرخ الروماني تاسيتوس، فيما كتبه قبل فترة وجيزة من بناء السور، الزعيم الكاليدوني، جالكاكوس مدافعًا عن حرية الشمال ضد الاسترقاق الإمبريالي لروما. إذ قال جالكاكوس، في واحدة من أشهر خطب الأدب الروماني: «السرقة، والذبح والنهب، يسمونها زورًا بالإمبراطورية. وعندما يحل الخراب، يسمونه سلامًا».
وتحمل التوترات بين القبائل الكاليدونية والامبراطورية الرومانية شبهًا واضحًا بين الشعب الحر (الفري فوك) والممالك السبع في كتب مارتن.
حتى إننا نجد قائد «الوايلدينج»، مانس رايدر، يلاقي ميتة بشعة مفضلًا إياها على خيانة التزامه بالحرية. لكن الجدار ودلالاته السياسية ليسا الشيء الوحيد في صراع العروش المستمد من الماضي
حرب الملوك الخمسة
وعن فكرة حرب الملوك الخمسة وصراعهم للوصول إلى الحكم قال لوشكوف:
إنَّ سياسات السلطة قديمة قدم الإنسانية ذاتها، لكنَّ حرب الملوك الخمسة الخيالية في كتب مارتن لها نظير يشبهها شبهًا كبيرًا في عام 69 الزاخر بالأحداث. كان هذا هو العام الذي شن فيه أربعة من المطالبين بأحقيتهم بمنصب إمبراطور روما ــ هم: جالبا وأوثو وفيتيلياس والمنتصر النهائي فسباسيان ــ حربًا أهلية وحشية في كل الإمبراطورية وفي العاصمة ذاتها.
لكن لماذا اختار الكاتب «خمسة ملوك» مع أنه لم يكن إلا أربعة أباطرة فحسب؟ الجواب أنَّ هذه التسمية «عام الأباطرة الأربعة» تحذف ذكرى الامبراطور نيرو، الذي انتحر في أواخر عام 68، وتخلت عنه جيوشه وكرهه شعبه (بحسب القصة).
ويعطينا تاسيتوس وصفًا تقشعر منه الأبدان لفظائع الحرب الأهلية وأثرها الضار على السلوك الإنساني، لكنه يزعم أيضًا أنَّ الحرب إنما كشفت عن حقيقة مهمة حول النفوذ السياسي في الإمبراطورية: فبينما كان مركز السلطة سابقًا في روما، فإنَّ الجيوش التي خرجت في الأقاليم هي من حددت من سوف يكون الإمبراطور.
وكذا الحال مع قارة وستروس الخيالية التي مُزقت من الداخل، في العاصمة كينجز لاندينج حيث كانت عائلة لانسترز تكافح للإمساك بالسلطة، ومن الخارج أيضًا حيث كان التارجاريانز في الشرق، والغزاة من وراء الجدار يهددون بفضح هشاشة الممالك السبع. والأمر يشبه كثيرًا مصير الأباطرة الرومان، بحسب المقولة الخالدة لتايوين لانستر «إما أن تنتصر أو تموت».
العمارة
للعمارة في «ويستروس» شبه كبير بأنماط عمارة قديمة. فساحات المصارعين، مثل تلك التي رآها تيريون في ميريين، تشبه الكولوسيوم، هذه الساحات الضخمة التي بنتها أسرة فلافيان لاستضافة المسابقات الترفيهية الفخمة القاسية. أما تايتان برافوس، هذا التمثال الضخم المشرف على الميناء، فإنه مبني على نمط تمثال عملاق رودس، وهو تمثال برونزي يصور إله الشمس هيليوس، وكان يعتبر واحدًا من عجائب العالم القديم.
ومع ذلك، فإنَّ عملاق رودس، بخلاف تمثال تيتان برافوس، كان معروفًا بصفته واحدًا من خرائب العالم القديم وقد بناه سكان جزيرة رودس بعد تحقيقهم انتصارًا عسكريًا عظيمًا في القرن الثالث الميلادي، واستغرق بناؤه 12 عامًا، وكان منتصبًا قبالة مدخل الميناء (لا مشرفًا عليه كما كان يظن مؤرخو القرون الوسطى) حتى انهار في زلزال بعد حوالي 60 عامًا من بنائه.
ورفض أهل رودس، الذين أُخبروا بأنهم أغضبوا الإله منهم، إعادة بناء التمثال، وظلت البقايا في مكانها لحوالي 800 عام أخرى، وخلال تلك الفترة كان السياح مثل بليني الأكبر يزورونه متعجبين من حجمه وما يشتمل عليه من فنون.
الطعام
لعل أكثر ولائم المسلسل بذخًا وليمة حفل زفاف جيفري باراثيون ومارجري تايرال. تميز هذا الزفاف بالإفراط واسع النطاق؛ إذ قُدم فيه 77 نوع طعام، بما في ذلك فطيرة الزفاف التي أكلها منها العريس والعروس معًا، فانطلقت منها حمامات حية كانت مخبأة داخلها، وهو طبق مقتبس من قائمة رومانية خيالية، وكل ذلك في وقت كانت فيه مدينة «كينجز لاندينج» تتضور جوعًا.
وثمة طبق مشابه قُدم في العمل الخيالي لبترونياس، ستايريكون، خلال وليمة أقامها تريمالشيو فاحش الثراء، وهو عبد سابق أصبح الآن يمتلك مساحات من الأرض جنوبي إيطاليا (أو على الأقل هذا ما كان يدعيه). ولما كان تريمالشيو حريصًا على إثارة إعجاب ضيوفه، فقد قدم للمرة الأولى سلسلة من الأطباق كل واحد منها أكثر بذخًا مما قبله.
أحد هذه الأطباق كان خنزيرًا بريًا ضخمًا، طعنه الجزار في جانبه بسكين صيد (إذ كان الرومان يحبون بعض المشهدية عند تناول طعامهم). عندما استقرت السكين، طار سرب من طائر السمنة من جوف الخنزير المشوي محلقًا فوق رؤوس المدعوين. ضحك المدعوون طبعًا، لكنَّ هذا البذخ المسرف لم يرق لهم؛ إذ ظهر تريمالشيو بصورة المهرج، محدث نعمة. وظهر الساخرون منه من ضيوفه على أنهم متكبرون ومنافقون.
ووراء تلك المظاهر البراقة من فن الطهي ثمة سخرية اجتماعية لاذعة حول سلوكيات الطبقات ومواقفها، تمامًا كما تسلط قائمة الطعام المسيلة للعاب – التي عرضها مارتن – الضوء على الحرمان المحيط بمكان الوليمة.
فاليريا القديمة
كانت إمبراطورية فاليريا القديمة، في أعماق ماضي «ويستروس»، تشبه نفوذ روما وسلطتها. فاللغة الفاليرية الفصحى مثلًا، قد نجت من «الهلاك» باعتبارها لفة الثقافة والرقي، ودُرّست لتعليم الشباب تعليمًا جيدًا، تمامًا كما تزدهر اللاتينية حتى يومنا الحاضر في المدارس والجامعات والأوساط المؤسسية، مثل الكنيسة الكاثوليكية.
وليست اللغة الشيء الوحيد الباقي من فاليريا القديمة: فالطرقات الفاليرية ما تزال منتشرة بطول وعرض إسوس. هذه الطرقات المتينة الطويلة المستمرة هي المعادل لواحد من أعظم إنجازات روما، ألا وهو شبكة الطرق التي خلفتها. انتشرت هذه الطرق من مدينة روما نفسها ووصلت إلى كل زاوية من زوايا الإمبراطورية تقريبًا. حملت هذه الطرق جيوش الإمبراطورية، وتجارتها، وتقاليدها، ولغتها، وفنها المعماري، وقوانينها، وعملاتها، وجامعي الحبوب وجباة الضرائب.
ولم تكن هذه الطرقات مجرد شريان حياة الإمبراطورية، وإنما أكثر تركاتها دوامًا، واستمرت الكثير من هذه الطرقات، إما بحالتها الأصلية، أو كانت الأساس الذي بنيت على غراره الطرقات الحديثة. ويستدعي تاريخ فاليريا إلى الذهن تاريخ روما أيضًا: فكما فعل الرومان، في القصة الشهيرة غير الصحيحة، مع قرطاج، عدوتهم اللدود، فكذا فعل الفاليريون عندما سووا عاصمة منافسيهم بالأرض، جيسكاريا، وبذروا الأرض بالملح.
الملكات المتآمرات
كل قصة لا بد لها من شرير، وسيرسي لانستر نموذج رائع لهذا النمط: فهي أم شديدة الحماية لأطفالها، وزوجة مُحتقرة، وامرأة استهلكها الطموح. وهي أيضًا امرأة غالبًا ما تتمنى لو كانت رجلًا: إذ لم تفهم لماذا عُلمت أشياء مختلفة عن أخيها التوأم جايمي، بينما كان لكليهما نفس الملامح. وهي تتمنى لو كانت قد تعلمت القتال، وهو يتمنى لو كان قد تعلم الغناء والرقص.
وهي في هذا تشبه كثيرًا من نساء الزمن القديم، لا سيما الأميرة البيزنطية آنا كومنينا، التي كانت تتمنى، بحسب المؤرخ شونيتز، أن يكون بإمكانها أن تستبدل جنسها مع زوجها الخائب، وكانت الأقدر على الإطاحة بأخيها، الملك. ومن شبه المؤكد أنَّ قصة خيانة آنا ليست حقيقية، لكنها توافق عددًا من القصص المحكية عن السيدات العظيمات للبلاط الإمبراطوري الروماني، مثل قصة الإمبراطورة ليفيا، زوجة أول إمبراطور لروما، أوجستوس، التي اتُهمت (وإن لم يثبت الدليل على ذلك قط) بترتيب موت حفيدي الإمبراطور المقربين له، جايوس ولوسيوس، من أجل أن تمهد الطريق لخلافة ابنها. بل إنها قد اتُهمت – بحسب البعض – بتسميم الإمبراطور نفسه.
تحرير العبيد
كانت تجارة الرقيق محرمة، في «ويستروس» الأخلاقية. وعندما وصلت دانيريس تارجيريان إلى خليج النخاس (سليفرز باي)، بدأت حملة ممنهجة لتحرير العبيد.
كانت كل من اليونان وروما مجتمعات مبنية على العبيد، وكلا المجتمعين ساهما في تلك التجارة واستفادا منهما. وكان استرقاق مجموعات سكانية بكاملها نتيجة طبيعية تعقب الهزيمة في الحرب منذ زمن حكايات إلياذة هومر، التي يتخيل فيها هكتور زوجته، أميرة أندروماك، وهي جارية بعد موته وسقوط طروادة. وبينما لم يكن الرومان ديمقراطيون مثل داني، فقد كانت لديهم آلية لتحرير عدد صغير من عبيدهم، من غير الدراما الناتجة من وجود تنين ينفخ نارًا في المشهد.
كان يطلق على تلك العملية اسم الإعتاق: أي انتقال الشخص من كونه عبدًا إلى كونه «محررًا» – لا «حرًا» – لأنَّ الرومان كانوا يرون فارقًا حقيقيًا بين كون الشخص عبدًا سابقًا وبين ميلاده حرًا، على الرغم من تمتع النوعين بالمواطنة الرومانية ذاتها. وعادة ما كان السادة الرومان يعتقون العبيد في وصاياهم، مكافأة لهم على خدمتهم المخلصة خلال حياة المالك. وكانت الطريقة الأكثر ندرة من ذلك، أن يتمكن العبد من ادخار ما يكفي من مصروفه الهزيل لشراء حريته. وكان هذا الإعتاق يمنح العبد السابق الجنسية الرومانية، التي كانت تسمح له بالتجارة في روما، والتمتع بحماية القانون الروماني، والتصويت في الانتخابات، وتوريث جنسيته وثروته التي راكمها إلى أبنائه من بعده.