"كان مدمنا على السجائر و مع كل احتراقة لواحدة كنت احترق من الداخل ... كل شيء تغير كلامه... حركاته... حتى روتينه اليومي... شيء في داخلي يصرخ أن وراء كل هذا سر...و عقلي الذي يلتزم اسلوب الاتزان يأمرني بالهدوء...
نظرت اليه كطفلة و سالت للمرة الالف... كم تحبني ؟
نظر اليا و كأنه من المتوقع سؤالي و أخذ نفسا طويلا من سيجارته ليمتصها لآخر قطرة ثم نفخ كما ينفخ عازف المزمار ليمتلئ المكان بذلك الابيض القاتل ثم أجاب على قدر المستطاع أحبك ... كل شيء تغير فيه شيئ ما انطفأ ببطئ شعلة الأمل في قلبه... شعره الذي تحول للأبيض الناصع...حتى خطواته اصبحت بطيئة .... لم أعد أعرفه أصبحنا غريبين تجمعنا الأسئلة المعتادة ...كيف حالك؟... بخير و أنت ؟ ... بخير و يعم الصمت المكان ... فقدت أحلامنا لذة الصعود لذة الظهور الى النور و بدأ يتلاشى كل شيء ... لم يكن فقط الرجل الذي أحببت يوما كان لي أكثر بكثير ... أخ ... صديق... رفيق لي في كل شيء... كان صندوق أسراري... كان أحيانا بمثابة الأب لي... كان يعلم ما لا أعلم عشر سنوات فارق في العمر كانت كطريق طويل مليء بالتجارب... كان لا داعي أن أعيش تجاربي بل كنت أعيش تجاربه في الحياة من خلال ما كان يسرده لي ... أستمع و أتعلم... هكذا ببساطة... كنت أختبئ في صندوقي البلوري المغلف بالقطن الأبيض ... لأكون بأمان... تمسكي به كان خوفا مما سينتظرني و تمسكه بي كان أكبر من حب رجل لفتاة ... الأقرب حب رجل لابنته...
أيعقل أن من يحب نفس الشخص و يحفظه من كل أذية أن يؤذيه بنفس القوة التي أحب ؟ أيعقل أن كل تلك المشاعر البريئة تتبخر لتحل مكانها مشاعر أخرى مشوهة مليئة بالأنانية و الكره و سواد القلوب؟ أيعقل أنا تلك الطفلة المدللة الملتزمة الذكية أن تشعر بدرجة غباء لا توصف فقط لأنها لم ترى تلك الخيانة و لم تتفطن لها؟
سنوات مرت... و أحلام تبخرت ... اليوم أصبح مثله كمثل باقي الأيام ... لا جديد يذكر و لا قديم يعاد...
"سوف يرزق ببنت الشهر القادم" هكذا انطلقت رحلتي صباحا لمدينة صفاقس. هكذا و بدون مقدمات أخبرتني خالتي الجالسة بجانبي قبل انطلاقنا. نهرتها قائلة: "ألم أخبركم أني لا أريد سماع أخباره؟؟" و سكت خبر نزل على قلبي وأنا امسك مقود السيارة تلك العجلة الدائرية التي تحدد مساري على طول الطريق السيارة بين ثلاث ولايات تدور عقارب ساعتي لتطرق ابوابا أوصدتها وأحلاما دفنتها في قعر النسيان
سيرزق ببنت. بنت كانت ستكون يوما ابنتي. في أحلامي سميتها "مريم" تيمنا بالعذراء مريم التي أحببت
واتمتم في نفسي "مريم مريمتي و عيني مرياما
مريم مريمتيي و عيني مرياما
و القلب مجرووح بدو مرياما ...." تلك الاغنية التي سأنشدها يوما لها
اليوم بعد شهر او أقل سيحل الفرح منزلهما وسيكتمل فرحهما _ مبارك لهما_
كما ستكتمل خزينة مسروقات زوجته من أحلامي تلك التي حدثتها عنها أحلامي التي قدمتها لها على طبق من ذهب صديقة كانت لي يوما استمعت لي بشغف سجلت في دفترها كل أمنياتي سرقت كل ما كان لي
رجلا احببت يوما ... اعتمدت نفس طريقة التزويق الكلاسيكية للمنزل والآن سيكتمل المشهد اسم البنت "مريم".
ياااااه حتى في كلمات هذه الأغنية وجع " والقلب مجروح بدو مرياما" يا لهذا الحزن الذي في قلبي كيف له ان يمحى... يا لهذه اللعنة التي أصابتني وهذه الذكرى المقيتة من حياتي...
امسك المقود تلك العجلة الدائرية التي تتحكم بمسار سيارتي على الطريق الممتدة أمامي وتدور عجلة الذكريات معها، سبعة سنوات مرت ومازال الألم يتمرد كلما أصابته سهام الذكرى ذكرى ذلك اليوم الذي شهد على ألمي: رن هاتفي رقم صديقتي، رفعت السماعة فجاء صوتها حادا:
_كيف حالك؟
_ اهلا بخير وأنت؟
_ماذا تفعلين؟
_اقضي بعض الشؤون
_افتحي الفايسبوك وستكتشفين امرا، لم يعد لي خيار ولم أكن أضن أنك ساذجة لهذه الدرجة وأنه يحبك لذاك الحد انه يخشى دمعك لم تتركي لي خيار آخر
وتغلق السماعة لم أسمع صوتها لاحقا أو اشاهدها مرة أخرى فقد أجادت الاختفاء وكانت تعلم أني سأزكي خيانتهما لي فأترك لها المجال. أنا تلك الطفلة التي كبرت بتجرع أول رمق من كأس الغدر والخيانة. أنا التي تضع كبريائها و كرامتها فوق كل اعتبار...
كانت تعلم أني لن أغفر لهما وأني لن أسامحه رغم ترجيه المتكرر للعودة ثم تزوجها نكالا فيا وتركته لها لأني رأيتهما مناسبان أكثر لبعضهما ولكي يدرك يوما أن ما خسره يوما لا يقدر بثمن.
كم سمعت بشجارهما المتواصل بسبب ذكراي. تلك التي ستبقى تتبعهما.
مع دوران مقودي و على طول الطريق السيارة يعتصر قلبي ألم حضور الماضي.
ألم يئن لهذا الجرح أن يندلي؟ ألم الخيانة الذي اعتصر قلبي مرات ومرات
ألم ما فتئ يتهادى على نغمات دقاته المتتالية كدقات الساعة تك تك تك ...
أمر بمدينة كركر التي درست بها ثلاث سنوات تحييني ضلال أشجار الصفصاف المتراصة على الجانبين وسراب الوجوه البريئة التي كنت أدرسها تلوح لي للقاء قريب..
في الطريق وعلى طول المسافة الفاصلة يتلاشى صوت مرافقيا خالتي التزمت الصمت امي ابي في الكرسي الخلفي كلاهما منصهر في عالمه في احلامه أنظر لهما من خلال المرآة وأبتسم لأبرر لهما صمتي الطويل وأخبرهما أني بخير ف.
أحمل ألمي خلف ابتسامتي أتمسك بالمقود تلك العجلة الدائرية التي تحدد مساري على الطريق. طريق ممتدة اشجار على الجانبين. باعة على حافة الطريق يلوحون بأيديهم وكأنهم يربتون على كتفي.
امرر يدي على آلة التسجيل. أرفع في مستوى الصوت أريد أن أطرد هذه الهواجس ويتزامن مع أغنية boogie street للمغني المشهور Leonard cohenكم اعشق صوته الرخامي وأدندن معها
O crown of light , o darkened one I never thought w'de meet.....
تليها أغنية Danse with me و أهيم مع كلماتها
Danse me to the end of love
Dance me to your beauty with a burning violin
Dance me through the panic 'til I'm gathered safely in
Lift me like an olive branch and be my homeward dove
Dance me to the end of love
أبتسم و أتساءل ترى من سيرقص معي رقصة الحب تلك
يغيب الصوت من جديد لتعود بي الذكرى الى تلك الوعود التي رددها على مسمعي هنا سنبني منزلنا و ستقومين باختيار كل ما يناسبه كل شيء، سوف تكونين ملكة قلبي...واريد بنتا تشبهك تحمل نقاء قلبك وابتسامتك الطفولية... تحمل سذاجتك التي تضحكينني بها ونكتك والعابك الصبيانية
تحمل في قلبها براءتك ونضوجك انت طفلتي الاولى وهي طفلتي الثانية. سنسميها "مريم" كما تريدين اتحمل في حروفها الأربع النقاء و الصفاء..
أتساءل لماذا تمسك بالاسم الذي جمع احلامنا؟ لماذا لم يختر اسما عصريا آخر؟ لماذا ؟؟؟؟؟؟
مريم مريمتي هكذا كنت ادندن
عيني على مريما .... و القلب مجروح بدو مرياما
أنظر لعداد السرعة اثر تجاوزي للعديد من السيارات 130كم في الساعة سيارتي ذات الأربع خيول لم تتجاوز يوما طيلة مسيرتها معي السرعة القصوى المحددة ها هي اليوم تتفاخر بنفسها في عجل .
اخفف سرعتها أربت على مقودها وأخاطبها رويدك رويدك لن تختفي محطتنا سنصلها في الزمن المحدد. سوف تشاركينني محطات أخرى سنكتشف معا أماكن عدة سوف تتمتعين برفقتي.
تقابلني اشعة الشمس فألبس نظاراتي أتذكر قول أمي: أنت كالشمس تحترق لتسعد الآخرين. وذلك للتضحية التي أقدمها لإسعادهم.
أستعيد قولها أنا تلك المحرقة الأبدية المشتعلة على مر العصور. أنا ذلك الكوكب المشع الباعث بالدفء في فصل الشتاء. أنا من يحترق صبحها ليستفيق الكون من سباته. أنا من تنبت من رمادها الزرع ...
أنظر لوجهي في مرآة السيارة. وأمرر بصري على مرافقي. أمي و أبي تسكنهما سكينة و اطمئنان. اسأل نفسي:" كم درجة الثقة ليستسلما كل هذا الاستسلام لمقودي؟"
أعيد النظر لوجهي أبي وأبتسم تعود بي الذكرى الى سنوات ليست ببعيدة كنت فيها المساند الرسمي لمشاريعه الفاشلة. كنت أعلم بفشلها منذ البداية ومع ذلك كنت أطبق ما يقول لأفضي على قلبه بعض الأمل في أن يحقق ما يصبو اليه.
يتغير الايقاع في آلة التسجيل من أغاني رومانسية الى أخرى ذات ايقاع سريع أغان كنت أستمع لها خلال سنوات دراستي في الجامعة . فأحن الى لقائهن الى رقصنا و غنائنا و سمرنا و ضحكنا. أحن الى طفولتي.
أمد يدي لقارورة الماء بجانبي وأشرب منها حتى أرتوي وأبدد ما تبقى من جرعة الألم التي تذوقتها هذا الصباح. و أتذكر قولهن : وجهك جميل حين تبتسمين. وجهك خلق ليبتسم. أطرد ما تبقى من هواجس و انسى او أتناسي.
اشاهد تلك التلال القريبة وذلك الطريق الطويل المعبد مسافرون هنا وهناك. سفر على عجلات سياراتهم تأخذهم حيثما يشاؤون وسفر على عقارب الذكرى والاحلام والآمال هي قلوب ملآ بكل أنواع الأحاسيس والمشاعر. هي خليط من الماضي و الحاضر...
اخاطب نفسي لا تتوقفي. مازال طريقك طويل كوني ذلك الجبل الصلد لا أحد يرى تصدعه الداخلي. آمال كبيرة بنيت عليك، أحلام كثيرة نحتت على جانبيك، مسافرون هم فوق ترابك الأخضر.
لا أحد يجب أن يشعر بحزنك... لا أحد يجب أن يتفطن لألمك... يجب أن تتقني هذا الدور ليس لأجلك فقط بل لذلك الاب الذي يتمسك بيدك كأنه طفل منذ مرضه.
من أجل تلك البنت الصغيرة التي تضع يدها لتراقبك ساعات ثم تقول أريد أن أصبح مثلك.
من أجل نفسك وعائلتك كوني قوية.
كم صعبة هذه الحياة لم تترك لي مجالا لأتألم في سلام...
منقول