أجرت ألمانيا في (سبتمبر/أيلول) عام ١٩٣٠ أول انتخابات وطنيّة لها منذ يوم التحطّم الكبير عام ١٩٢٩، وفاز الاشتراكيّون الوطنيون بحصيلةٍ مذهلة: ٦٤٠٠٠٠ صوت -أي عشرة أضعاف مجموعهم قبل عامين- و١٠٧ مقعد. وغدوا حينها الحزب الثاني الأكبر في مجلس النواب الألمانيّ. ولم تعد كلمة "النّازيّ" تثير صورة البارمستان، كما كتب معلّق من المعلقين. وفجأةً، تمتّع الحزب باحترام تقريباً.
ومع ذلك، لا يزال يبدو للكثيرين كما لو كان دعم هتلر هشّاً. بالنسبة إلى ألبرت أينشتاين، فإنّ الاندفاع المفاجئ لهتلر نحو الشهرة أكّد على ارتيابه التاريخيّ في الأمّة الألمانيّة. ولكن في هذا الوقت، لم ينظر أينشتاين إلى هتلر أو إلى الاشتراكيّة الوطنيّة باعتبارهما خطراً دائماً. فردّاً على سؤال في (ديسمبر/كانون الأول) ١٩٣٠ حول ما الذي يشكّل القوى الجديدة في السياسة الألمانيّة، أجاب أينشتاين "لستُ مستمتعاً بالتعرّف على هتلر. فهو يحيا على معدةٍ خاوية في ألمانيا. وبمجرّد أن تتحسّن الظروف الاقتصاديّة، فلن يعود مهمّاً". أحسّ أينشتاين في البداية أنّه ما من حاجةٍ إلى اتخاذ إجراء من شأنه أن يكون لازماً للحطّ من هتلر على الإطلاق. وأكّد مجدداً بالنسبة لتنظيم يهوديّ أنّ "الوضع الاقتصاديّ البائس مؤقتاً" و"العُضال السخيف المزمن للجمهوريّة" كانا مسؤولين عن النّجاح النازيّ. فـ"التضامن مع اليهود، كما أعتقد، دائماً ما يتمّ استدعاؤه والمناشدة به"، لكن، كما كتبَ أينشتاين، "أيّ ردّ فعل معيّن على نتائج الانتخابات سيكون غير ملائم تماماً".
ألبرت أينشتاين عالم ألماني المولد من أبويين يهوديين (مواقع التواصل)
كان ينبغي أن يكون أينشتاين محقاً -إذ إنّ البيّنة على هشاشة دعم هتلر على مدى العامين المقبلين تدلّ على تاريخ مُحبِط ومرّ وخياليّ. لكن حتى ولو كانت لديه أسباب مقنعة بأنّ هتلر لن يدوم، فقد أكّدت نتائج الانتخابات من جديد على الحاجة الملحّة لموقفه السياسيّ الأساسيّ. فحتى وإنْ كان استخفّ بهتلر -كما فعلَ كثيرٌ من الألمان في حينها- إلّا أنّه لا يزال مدركاً بالحاجة لمكافحة الباثولوجيا الأكثر عموميّة التي كان هتلر عرضاً لها.
والحال أنّ تهديد إعادة التسليح الألمانيّة بمحاذاة عودة العسكرتارية عبر القارّة الأوروبيّة إنّما دفعَ أينشتاين إلى أن يتخذ موقفاً. فقد تمّ نزع سلاح ألمانيا بالكامل تقريباً عن طريق معاهدة فرساي بعد الحرب العالميّة الأولى. ولا يمكن لجيشها أن يتجاوز عدده أكثر من ١٠٠٠٠٠ رجل؛ وحُرمت قواتها من معظم الأسلحة الثقيلة؛ وبالتالي لا يمكن بناء قوّة جوية. كما كان على سفنها الحربيّة أن تفي بالقيود الصارمة المفروضة على الحمولة والعَتاد. وكان التهرب من هذه المصطلحات هو القاعدة تقريباً منذ البداية.
كانت إعادة التسليح بعد عقد من الصراع الذي كان عليه تلقيح ألمانيا ضدّ عدوى شهوة المعركة الأبديّة أمراً لا يمكن أن يتحمله أينشتاين. وردّاً على ذلك، دعا إلى رفضٍ جماعيّ للخدمة العسكريّة الإجباريّة من قبل الشباب في جميع أنحاء أوروبا -وهي حملة أصبحت ركيزة أساسية للسياسة السلميّة بعد الحرب. وكتب في (يناير/كانون الثاني) ١٩٢٨ في رسالة إلى حركة "لا مزيد من الحرب" بلندن أنّ "كلّ إنسانٍ رصين وحسن النيّة وذو ضمير يجب أن يتحمّل في وقت السلم التزاماً رسميّاً وغير مشروط بعدم المشاركة في أي حربٍ لأيّ سببٍ".
وازداد إصرار أينشتاين مع مرور الوقت. ففي ربيع عام ١٩٢٩، كتب أنّ "الناس أنفسهم يجب أن يأخذوا زمام المبادرة لنرى أنها لن تؤدي مرة أخرى إلى الذبح. فحماقةٌ أن يتوقّعوا أن تكون الحماية من حكوماتهم". وخلال الأشهر القليلة القادمة لعام ١٩٣٠، نمى مستوى إلحاح أينشتاين وولعه، مدفوعاً بارتفاع النزعة القوميّة المتعصّبة في جميع أنحاء أوروبا. لقد أصبحت الحرب لعنة مطلقة بالنسبة إليه، حيث كتبَ "أودّ بالأحرى أن أكون طرفاً ممزّقاً من أطرافهم من أن أشارك في مثل هذا العمل الشّنيع".
وبحلول أواخر ١٩٣٢، تخلّى أينشتاين عن آخر آماله -أو أوهامه- بأنّ المجتمع الألمانيّ الديمقراطيّ قد ينجو تقريباً من الانهيار الاقتصاديّ والتخريب المتعمد للنازية للحياة المدنيّة.
هتلر فب أحد الأحياء الألمانية 1938 (مواقع التواصل)
لقد أفضتِ النكساتُ النازيّة في انتخابات (نوفمبر/شباط) إلى لحظة قصيرة من الأمل. ورأى العديد من المراقبين السياسيين الفطنين، بمن في ذلك كيسلر صديق أينشتاين، أنّ الخسائر النازيّة كانت بداية النهاية. لكن تبخّرت هذه اللحظة، ودُمّرت بسبب عدم كفاءة المستشار الألمانيّ فريتز فون بابن وسعي هتلر الحثيث إلى السّلطة. وتحدّث أينشتاين في الداخل والخارج ضد الاستسلام الجماعيّ للجهالة التي رآها من حوله. فكتبَ، وقام بحملات، وعمل في اللجان، وشجّع الآخرين، وجمع المال عندما أمكنَ ذلك. ولكن بحلول أواخر عام ١٩٣٢، كانت النهاية قد حانت بلا لبْس.
منذ وقت مبكر جدّاً من حياته، ألمح أينشتاين إلى سلسلة عميقة الجذور للجبريّة (fatalism). فهي لم تمنعه أبداً عن العمل، وعن التصرف كما لو كان ما سعى للقيام به يمكن أن تؤثر على الأحداث. لكن السلالة التعويضيّة دائماً ما كانت هناك، والإدراك بأنّ الشرارة الفريدة من نوعها لأيّ حياة إنسانيّة يجب أن تتلاشى في نهاية المطاف إلى اتساع الكون. في العام السابق، عام ١٩٣١، متجهاً إلى كاليفورنيا، عانى أيناشتين من عاصفة في البحر. كتب في مذكرات السفر أنّ "البحر لديه تعبيرٌ عن العظمة التي لا توصف، وخصوصاً عندما تقع الشمس عليه. يشعر المرء وكأنه تحلّل وتوحَّد بالطبيعة. وحتّى بصورة أكثر من المعتادة، يشعر المرءُ بأهميّة الفرد وأنّها تجعل الفردَ سعيداً".
في النهاية، تخطّى أينشتاين ببساطة المرحلة. في ١٢ (ديسمبر/كانون الأول)، خرج ألبرت وإلسا أينشتاين من برلين إلىالولايات المتحدة. وتظهر الصورة التي التُقطت عند مدخل محطة القطار طاولة عادية للمسافرين. تبدو إلسا قلقةً قليلًا؛ حيث يمكن كونها تفكر في الأمتعة، أو ربما على نحوٍ أكثر جدية بابنتها إلس التي كانت مريضة. وجه أينشتاين غير مكشوف، قاتم تقريباً. الانطباع العام هو نفاد الصبر، والرغبة في القيام بشيءٍ مع الفوتوغرافيا واللحاق بالقطار. وما من سبيلٍ لقراءة الثورة، إلّا بعد فوات الأوان، باعتبارها نهاية حقبة.
وقبل وصولهم إلى محطة القطار، كان على أينشتاين وإلسا إغلاق منزلهما في كابوث. وربّما توقفوا عند الباب أمام دراسة أينشتاين أو على الشرفة، ناظرين إلى مدى الحديقة إلى البحيرة، مرئيّةً إذن من خلال الأشجار التي لا أوراق لها. قد يكونون ألقوا نظرةً على الجزء الخلفي من المنزل، وعلى مسح النوافذ المغلقة الأبواب المقفلة، ومن ثمّ إلى الداخل والخارج، حاملين حقائبهم. واحد منهم أغلق الباب، من المحتمل أنّ هذا الشخص هو إلسا، سيدة جميع المسائل العملية في منزل أينشتاين. وأخيراً، عندما لم يكن هناك من شيء يتعين القيام به، غادروا المنزل. تكلّمَ أينشتاين. وقالَ لإلسا "القي نظرة فاحصة". فـ"لن ترين ذلك مرّة أخرى".
وفي المنفى، أعاد أينشتاين النظر في جوهر معتقداته السياسيّة والمنطق الأخلاقيّ الذي يدعمها. ولكونه أينشتاين، فقد كان وصوله إلى الاستنتاجات التي فرضها التحول عليه أسرع من كل مُعاصريه تقريباً.
مبنى الرايخستاغ 1933 (رويترز)
وفي (يناير/كانون الثاني) ١٩٣٣، عندما أدى هتلر القسم كمستشار لجمهورية كانت على وشك أن تصبح إمبراطورية "رايخ" (Reich)، كان ألبرت أينشتاين بأمان بعيد المنال في باسادينا. وفي الوقت الحالي، كان هناك القليل من الخطر العلنيّ. وبفضل المعاملة الجيّدة من أصدقائه الأميركيين، يمكن أن يكون لعوباً إيجابياً، حتى إنه جرّب ركوب الدراجة الهوائية. فقد التقطت الصورة الشهيرة لأينشتاين فوق دراجته الهوائية في فبراير ذاك. اتكأ على العجلة الأمامية بشكل مائلٍ قليلاً. يبدو تافهاً غير مستقر لكنه يبتسم ابتسامة عريضة جدًا؛ فالحياة ممتعة في جنوب كاليفورنيا.
حتى بعد أن عزز هتلر قبضته، فقد ضبط أينشتاين نفسه لفترة قصيرة. حتى إنّه في أوائل فبراير، راسل الأكاديمية البروسية لمناقشة مسائل الراتب، تماماً كما لو أنه يعتزم استئناف العمل في برلين في وقت لاحق ذلك العام. لكن أية أوهام قد تكون عنده قد تحطمت تقريباً بعد ذلك مباشرة. وفي ٢٧ فبراير، أُحرِق مبنى الرايخستاغ (Reichstag) تماماً. وبدأت مباشرة حملة قمع لليسار، مع تنافس كل من جماعة إس أي (Société Anonyme) ووحدات إس إس أو شوتزشتافل (SS Schutzstaffel) لاعتقال ونزع إنسانّية أي مصدر تهديد متصور للإمبراطوريّة.
وبالصدفة، في اليوم ذاته الذي احترق فيه الرايخستاغ، راسل أينشتاين عشيقته السابقة، مارغريت لينباخ. قال لها "لا أجرؤ على دخول ألمانيا بسبب هتلر". وقبل يوم من مغادرته باسادينا، مُتجهاً أخيراً إلى بلجيكا، شنّ أول هجومٍ علنيّ له ضد النظام الألماني الجديد. "طالما أن لدي خياراً في هذه الشأن، فعلي أن أعيش في النهاية في دولة تسود فيها الحرية المدنيّة، والتسامح، والمساواة لكل المواطنين أمام القانون". وكانت تتمة هذا القياس المنطقي بسيطة "إن هذه الشروط غير موجودة في ألمانيا في الوقت الراهن" ولن تكون، أينشتاين مضمناً هذا في كلامه، طالما بقي النظام الحالي في السلطة.
وقد ردت حكومة هتلر سريعاً وبشدة على اتهامات أينشتاين. وقد نشرت صحيفة فولكيشر بوباشتر (VölkicsherBeobachter) سلسلة من الهجمات عليه، وتبعتها في هذه القضية صحف إعلام رئيسية أكثر. كان أحد العناوين "أخبار سارة عن أينشتاين.. إنه لن يعود!".
من مقال يدين "هذا الشيء الصغير المتورم من الغرور الذي تجرأ وقام بالحكم على ألمانيا دون أن يعرف ما يحدث هنا من مسائل يجب أن تبقى إلى الأبد مبهمة لرجل لم يكن في نظرنا ألمانيّاً أبداً وللرجل الذي يظهر نفسه يهودياً وليس سوى يهودي". وقد أعاد كُتيّب تمّ نشره بعد بضعة أشهر طبع صورة أينشتاين مع مجموعة من أعداء ألمانيا النازيّة، وعلى العنوان عبارة "لم يُشنَق بعدُ".
أينشتاين وزوجته إلسا (مواقع التواصل)
ومثل هذا التحرش لم يمسّ أينشتاين بعمق شديد. وجاءت الضربات الحادة من النازيين أنفسهم، ولكن من أولئك الذين شكّلوا ذات مرّة سببه الرئيسيّ لأن يكون في برلين، أي زملاؤه أعضاء الأكاديمية البروسيّة. وفي حين لا يزال في البحر في طريقه إلى بلجيكا، كنب أينشتاين استقالته من الأكاديميّة، وعند وصوله أعطاها للمفوضيّة الألمانيّة، جنباً إلى جنب مع التخلي عن الجنسيّة الألمانيّة.
وكشفت الأحداث اللاحقة عن عمق الذي وصل إليه انتشار العفن. فقد أمرت حكومة هتلر الأكاديميّةَ البروسيّةَ ببدء عمليّة طرد أينشتاين من وسطها. وفاجأت استقالته الحكومة على حين غرّة. وأعرب الوزير عن غضبه لأنه استقال من منصبه قبل أن يُفصَل، وطالب الوزير بأن تعلن الأكاديميّة عن إدانة لبطلها السابق. وأعلن مشروع البيان أنه "ليس لدينا ما يدعو إلى الأسف لاستقالة أينشتاين. والأكاديمية مذعورة من تحريضه الخارجيّ". وصُدِمَ صديق أينشتاين القديم ماكس فون لاو بفكرة أن الأكاديميّة قد تصدر مثل هذا البيان، وتحدث ضدّ الاقتراح في اجتماع استثنائيّ يوم ٦ أبريل. وأيّده واحد فقط من الأعضاء الأربعة عشر الحاضرين. حتى إنّ هابر، الصديق المقرّب اليهوديّ لأينشتاين، صوّت مع الأغلبيّة.
كان تصرّف هابر سيّئاً. وذمّه ماكس بلانك. وكان أينشتاين قد كتب إلى بلانك أن يدحض بشكل خاص التهمة بأنّه نشر شائعاتٍ ضدّ ألمانيا، قائلاً له إنّه تحدث الآن فقط لمحاربة ما هو واضح أي "حرب الإبادة النازيّة ضد إخوتي اليهود". أجاب بلانك أينشتاين في رسالة عرّفت كلّاً من اليهوديّة والاشتراكيّة الوطنيّة بأنها "أيديولوجيات لا يمكن أن تتعايش". وأعرب عن أسفه، وأكّد على ولائه لألمانيا، بغضّ النظر عمّن كان المسؤول. وقال في اجتماع الأكاديميّة "إنّه من المؤسف القول إنّ أينشتاين من خلال سلوكه السياسيّ نفسه جعل استمرار عضويّته في الأكاديميّة أمراً مستحيلاً". فأُلقي باللوم على سياسة أينشتاين، لا على سياسات الحكومة الألمانيّة التي قد اختارت أن تدمّره.
"إنّ ذروة التزام أينشتاين بهزيمة هتلر بأيّ وسيلة ضروريّة جاءت في عامي ١٩٣٩ و١٩٤٠، عندما بعث برسالتين إلى الرئيس روزفلت حول إمكانية قيام الولايات المتحدة ببناء قنبلة ذريّة"
خلال صيف عام ١٩٣٣، أعلن أينشتاين تحذيره من هتلر أينما كان بإمكانه ذلك. وفي سبتمبر، زار ونستون تشرشل، في المنفى السياسيّ قطعاً إذن -ولكن في حين أن تشرشل لم يتطلب الكثير من الإقناع لأن يرى هتلر كخطر، فإنّه لم يكن لديه أي تأثير للضغط عليه. وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، أصبح إحباط أينشتاين أكثر وضوحاً. وقال لمحاورٍ "لا أستطيع أن أفهم الردّ السلبيّ للعالم المتحضّر بأسره على هذه الهمجيّة الحديثة". فـ"هل لا يرى العالم أن هتلر يهدف الى الحرب؟".
تضمن هذا تلميحات عن التحول التكتوني (tectonic) الذي تجاوز العاطفة السياسيّة الأساسيّة لأينشتاين. وفي الوقت الذي تحدث فيه، لم يعد واحداً من دعاة السلام. فأعلنَ في سبتمبر عن تغيير موقفه في رسالة إلى مقاتل في الحرب البلجيكيّة نُشرت في صحيفة نيويورك تايمز. فاستهلّ قائلاً "حتى وقت قريب جداً يمكننا في أوروبّا أن نفترض أن مقاومة الحرب الشخصيّة شكلت هجوماً فعّالاً على العسكريتاريّة". ولكن الظروف تغيّر الحالات، والآن، "في قلب أوروبا تكمن قوة، وهي ألمانيا، التي من الواضح أنّها تدفع نحو الحرب بكل الوسائل المتاحة". بالنسبة إلى أينشتاين، حتى المبادئ التي كانت عميقة كان عليها أن تنحني لضغوط التهديد الساحق. وقال "لا يجوز لي في الظروف الراهنة رفض الخدمة العسكريّة". "وبدلا من ذلك، يجب أن أدخل هذه الخدمة باعتزاز معتقداً بأنّني سأساعد بالتالي على إنقاذ الحضارة الأوروبيّة".
إنّ ذروة التزام أينشتاين بهزيمة هتلر بأيّ وسيلة ضروريّة جاءت في عامي ١٩٣٩ و١٩٤٠، عندما بعث برسالتين إلى الرئيس روزفلت حول إمكانية قيام الولايات المتحدة ببناء قنبلة ذريّة. في أواخر عام ١٩٣٨، كان أوتو هان وفريتز ستراسمان، وهما عالمان لا يزالان يعملان في برلين، يتصارعان مع بعض النتائج الجديدة من سلسلة تجارب قصفوا فيها اليورانيوم بجسيمات دون ذريّة تمّ اكتشافها حديثاً، وهي النيوترون. التقى ليز ميتنر، المتعاون السابق لهان، وابن أخيه أوتو فريش، المنفيين من ألمانيا هتلر، في عيد ميلاد بقرية كونغالف السويديّة، وحددوا معاً العملية التي لاحظها البرلينيّون: فقد أثارت النيوترونات التي تضرب ذرات اليورانيوم انشطاراً نوويّاً، والتدمير العنيف للنواة الذريّة التي يتمّ فيها إطلاق كلٍّ من الطاقة والمزيد من النيوترونات.
وقد نُشرت النتيجة قبل عدة أشهر من إسدال سريّة زمن الحرب الستار. وأدركَ كلّ فيزيائيّ مختص سمعَ الأخبار أنّ حقيقة أنّ كلّ حدث انشطار يمكن أن يطلق المزيد من النيوترونات، مما أثار إمكانية سلسلة من ردود الفعل، النيوترونات الجديدة تقسم المزيد من الذرات في سلسلة متصاعدة. وكانت الخطوة التالية واضحة حتى للصحف. في وقت مبكر من ربيع عام ١٩٣٩، ذكرت صحيفة واشنطن بوست أنّ الانشطار النوويّ يمكن أن يؤدي إلى أسلحة قويّة بما فيه الكفاية لتدمير كلّ شيء على مسافة ميلين مربعين من الأرض.
بعد انتهاء الحرب، أصبح أينشتاين واحداً من القوى المؤسّسة في حركة العلماء المناهضة للأسلحة النوويّة. وكان آخر عمل عامّ في حياته هو إضافة اسمه إلى بيان صاغه برتراند راسل دعا إلى نزع السلاح النوويّ العالميّ (مواقع التواصل)
ومع ذلك، في الأشهر الأولى بعد أن أصبحت تجارب الانشطار بمثابة معرفة عامّة، لم يولِ أينشتاين اهتماماً كبيراً. غير أنّه خلال صيف عام ١٩٣٩، جاء زيلارد لزيارته في منزله الصيفي في لونغ آيلاند، يرافقه زملاؤه الفيزيائيون يوجين فيغنر وإدوارد تيلر. وضع المجريون الثلاثة مبدأ تفاعل السّلسلة، ثم أخبروا أينشتاين بالاهتمام الذي أبداه الألمان بالفعل في استخدام اليورانيوم كسلاح. وكان ذلك كافياً لإقناعه بتوقيع رسالته الأولى التي حث فيها الرئيس على النظر في إمكانيّة إنشاء أسلحة نوويّة. ورد روزفلت في منتصف أكتوبر قائلاً إنه شكّل لجنة للتحقيق في اقتراحات أينشتاين. ولم يحدث شيءٌ كبيرٌ -فلم يكن مفاجئاً، نظراً لميزانية اللجنة الأوليّة ٦٠٠٠ دولار للسنة الأولى من عملها- لذلك أقنع زيلارد أينشتاين بالمحاولة مرة أخرى. وفي مارس ١٩٤٠، أرسل رسالته الثانية إلى روزفلت، وحثه على إعطاء دفعة أكبر لهذا الجهد، لأنّه، كما كتبَ أينشتاين، "منذ اندلاع الحرب، ازداد الاهتمام باليورانيوم في ألمانيا. ونما إلى علمي الآن أن الأبحاث تجري في سريّة كبيرة".
وعلى الرغم من محاولته في تشكيل ضغط رئاسيّ، وخلافاً للخرافة التي كثيراً ما يتمّ ترديدها بأنّه كان بطريقة ما مبتكراً للقنبلة الذريّة، لم يكن لأينشتاين علاقة باختراع الأسلحة النوويّة. لم تكن أهميّة رسائله إلى روزفلت هي النتائج التي فشلوا في إنجازها، ولكن ما تكشفه عن تطور أينشتاين السياسيّ. فحتى عام ١٩٣٢، كان قد حاججَ بحماس بأنّه لا يمكن لأي إنسانٍ متحضر أن يسمح للدولة أن تأمره بالقتل.
وفي النهاية، أحزنه بشدّة استخدام القنابل الأميركية. وعند سماع الهجوم على هيروشيما، ذُكر أنّه قال "واأسفاه!". وقال لاحقاً "لو كنت أعرف أنّ الألمان لن ينجحوا في صنع القنبلة، لما أيّدت مشروع صنعها". وبعد انتهاء الحرب، أصبح أينشتاين واحداً من القوى المؤسّسة في حركة العلماء المناهضة للأسلحة النوويّة. وكان آخر عمل عامّ في حياته هو إضافة اسمه إلى بيان صاغه برتراند راسل دعا إلى نزع السلاح النوويّ العالميّ. لكنه لم يتردد في الحجّة الأساسيّة التي قدمها في صيف عام ١٩٣٣: كان هتلر سمّاً قاتلاً. وكان لا بدّ من تحييده. ولا يمكن التفكير في تحقيق أهداف أكبر إلا بعد هزيمة هتلر وألمانيا. وبمجرد ما توصّل إلى هذا الاستنتاج، فقد أتْبعَهُ بوجهته النهائيّة: أي القنبلة نفسها.